محتويات

أعماق البحار حيث البرد والظلام:

إن المنطقة الأكثر غرابة من كل المناطق العجيبة في البحر ليست قرب السطح ولا على القاع ولكنها تقع بين بين، لا سماء فوقها، ولا أرض تحتها.

ولكن ماء في كل مكان. وليس لأي مخلوق يعيش هناك منزل مثل منزل المحار في الطين أو منزل الأطوم على الصخر. ولا يوجد مكان يستطيع أن يأوي إليه هرباً من الأعداء، فهو دائم الحركة هنا وهناك.

وهذه الدنيا الغريبة البعيدة تحت الأمواج لم يرها أحد قط إلى الآن سوى ثلاثة رجال فقط. وقد نزل الدكتور بيي ومساعد له إلى مسافة ۹۳۰ متراً في البحر خارج جزيرة برمودا، وكان نزولهما داخل كرة جوفاء من الصاب، وكان ذلك في سنة 1934. وفي سنة ۱۹۹۹ نزل أوتيس بارتون خارج ساحل كاليفورنيا إلى عمق ما يقرب من 1400 متر.

وقد استعمل هؤلاء الرجال أشعة ضوئية وجهوها إلى المياه المظلمة خلال شبابيك من زجاج سميك. وخلال هذه الشبابيك كانت تنظر إليهم مخلوقات غريبة لم يرها أحد من قبل.

الرؤية في أعماق البحار:

ما الذي نجده لو كان في استطاعتنا نحن أيضًا أن نغوص إلى مثل هذا البعد تحت سطح الماء؟ أول شيء هو أننا نلاحظ أن الضوء يخبو ثم يختفي تماماً.

ارفع كوباً من الماء فتجد أنه يمكنك أن ترى خلاله بسهولة، ولكنك لا تستطيع أن ترى خلال كيلومتر من الماء أو حتى 60 متراً.

وأنت في أثناء نزولك داخل الكرة الحديدية ذات الشبابيك الزجاجية السميكة تجد أن أشعة الشمس لا تصل بعيدة جدا تحت سطح الماء، فالضوء الأحمر يخفت سريعاً، ثم الأصفر ينبعه الأخضر، وعلى عمق 45 متراً تقريباً لا يبقى إلا الضوء الأزرق.

وهناك يبدو كل شيء أزرق، كما لو كنت تستعمل نظارة زرقاء. ولا تستطيع أن ترى أي شيء بوضوح، ولكن كما لو كنت تراه في ضباب، وبشق النفس استطاع الدكتور بيبي أن يقرأ صحيفة مطبوعة على عمق 120 مترا تقريباً، وعلى عمق 570 متراً اختي آخر شعاع من الضوء الأزرق وصار كل شيء مظلماً.

البرودة في أعماق البحار:

والماء بارد جدا على هذا العمق تحت سطح البحر. وعند خط الاستواء قد تكون درجة حرارة الماء ۸۲ فهرنهيت وعلى عمق ۱۸۰ متراً تقل درجة الحرارة ۳۰ درجة. وفي أغلب الأماكن في البحر تنخفض درجة الحرارة كلما اقتربنا من القاع، وعند القاع تنخفض تحت درجة الانجماد، ولكن الماء لا يتجمد الأسباب ستراها بعد قليل.

وهذه المنطقة من البحر - التي تقع بين بين - هي دنيا غريبة، وهي شديدة الظلام والبرودة، ولا يوجد تحتها شيء سوى كيلومتر أو أكثر من ماء أكثر برودة. ومع هذا توجد كائنات حية كثيرة في هذه المنطقة، وهي تختلف تماماً عن أي كائنات توجد في الأماكن الأخرى في البحر أو على اليابسة.

وإذا بحثنا عن نباتات فلا نجد شيئاً منها، لأن النباتات تحتاج إلى أشعة الشمس والدفء. ولا تستطيع الدياتومات التي توجد بكثرة عظيمة في المياه السطحية، ولا النباتات الكبيرة التي تطفو في بحر السرجاسو، أن تعيش في هذه الأعماق التي لا تصل إليها أشعة الشمس، ولهذا لا توجد إلا حيوانات تتجول في الظلام والبرد.

وماذا تأكل هذه المخلوقات الغريبة الجائعة دائماً؟ إن كل طعامها يأتي إليها من أعلى، فالأسماك والنباتات والكائنات الأخرى التي تموت في المياه السطحية تتساقط ببطء إليها. وهي إذا لم تجد هذه الكائنات الميتة فإنها تأكل بعضها بعضاً؛ لأن القانون الوحيد السائد في هذه الدنيا التي لا يحكمها قانون هو "كل أو تؤكل".

مخلوقات أعماق البحر:

وما هي أشكال الحيوانات التي نجدها هنا؟ قناديل بحر بألوان وأشكال عديدة تمر هنا وهناك، بعضها يتموج كالأشرطة، وبعضها الآخر يجر خلفه لوامس طويلة، ديدانا سهمية تمر في مجموعات، وحيوانات غريبة تسمى جناحية القدم لها أغطية شبيهة بالأجنحة تقفز هنا وهناك كالرعاشات. وأكثر الحيوانات كلها غزارة هي كائنات شبيهة بالجمبرى، وبعضها شفاف كلوح الزجاج، وبعضها غزير اللون، وهي تجمع في أسراب كحشرات في أعماق البحر.

أما الأسماك فقد تفزعك، وربما تخيفك. ولبعضها أسنان طويلة لدرجة أنها لا تستطيع أن نقفل فها أبداً. وهناك نوع من هذه الأسماك له معدة يمكن أن تتمدد لدرجة عظيمة بحيث تستطيع الواحدة منها أن تبتلع سمكة أخرى أكبر منها ثلاث مرات. وهذه الأسماك أسماء غريبة: المزدرد الأسود، المبتلع، أفعى البحر، سمكة التنين، وواحد من هذه الأسماك ويسمى أبو صنارة له عود عظمى على رأسه بحمل خيطاً بديناً وثلاثة شصوص.

ولبعض الكائنات في هذه الدنيا الغريبة عيون كبيرة جاحظة، وبعضها الآخر ليس له عيون بتاتاً. وألوان الجسم الأكثر شيوعاً هي الأسود والأحمر. ومن حين إلى حين تأتي إلينا البواخر التي تجرف في المياه العميقة بأنواع جديدة لم تكن معروفة من قبل.

كيف تستطيع هذه الأسماك أن ترى حتى يمكنها التجوال في هذه الأعماق التي لا تصل إليها أشعة الشمس أبدا؟ إن ذلك إحدى عجائب هذه الدنيا المائية. والضوء القليل الموجود هناك هو من النوع الذي تحدثه الخنافس المضيئة في ليالي الصيف، ويسمى الضوء البارد، لأنه لا يعطي حرارة أو يعطى القليل منها، وقد درس العلماء هذا النوع من الضوء ويسمونه فسفرة، ولكنهم بعكس تلك الأسماك والجمبريات الغريبة لم يتوصلوا إلى طريقة لإنتاجه.

ونحن نرى نفس النوع من الضوء على سطح البحر. وهناك ينبعث أغلب هذا الضوء من أنواع معينة من البكتيريا التي هي من بين أصغر النباتات كلها.

ويقول البعض عن هذه البكتيريا المضيئة إنها أصغر مصابيح في الوجود. وتوجد أنواع قليلة من الأسماك تأخذ مجموعات من هذه البكتيريا داخل أجسامها نفسها التضيء لها الطريق في تجوالها ليلا.

ولكن في الأعماق حيث الظلام الدائم قد يكون للسمكة على طول كل جانب صف من بقع زاهية تبدو وكأنها نوافذ باخرة ركاب. وبعض الأسماك لها القدرة على إطفاء تلك الأضواء أو إشعالها مثلما تفعل أنت بالمصباح الكهربي اليدوي (البطارية).

وهذا الضوء أبيض في الغالب، ولكنه قد يكون أحمر، أو أخضر، أو أصفر، أو أزرق، أو حتى بنفسجيا. وهناك نوع من الأسماك يحمل ضوءاً أحمر على الرأس، وأزرق قرب الذنب. وهناك نوع من الحبار، يوجد أحياناً على عمق ثلاث كيلومترات تحت سطح الماء، يبعث ضوءاً أحمر، وأبيض، وأزرق.

ولكنك تسأل: ولماذا تبقى هذه المخلوقات الغريبة في مكانها هذا ؟، وهذا سؤال معقول. الحياة في البحر تسيطر عليها في الدرجة الأولى درجة الحرارة والضغط. وكلما ازددنا عمقاً انخفضت درجة الحرارة ويزداد الضغط. والمخلوقات التي تعيش في هذه المنطقة السفلية لا ترتاح في المياه الدافئة عند السطح، كما أنه ليس هناك ما يدفعها إلى استكشاف المياه الأكثر عمقاً.

وتبقى بعض الأساك عند المستوى الذي تعيش فيه بوساطة مثانة العوم التي ها بداخلها وهذه عبارة عن كيس يمتلى هواء، وهي تساعد السمكة على الحركة هنا وهناك بسهولة، وعملها شبيه بعمل طوق المطاط الذي يستعمله البعض عند تعلم السباحة.

والضغط العالى يمنع الأسماك من أن تنزل إلى عمق أعظم، فإذا نزلت السمكة إلى عمق أكثر من اللازم فإن الضغط يدفعها إلى السطح، فهي كما لو كانت تسقط إلى أعلى، وبهذا تبقى السمكة في هذا الحيز المظلم البارد الذي لا حدود له.