يعيش في غابة آتوري المُمطرة - في غابات أفريقيا - عدة قبائل مختلفة من الناس، ولكن أكثرهم غرابة هم الأقزام. فتنتشر في جميع أنحاء آتوري جماعات من الأقزام تُعرف باسم تيكي تيكيس ويزيد معدل طول الرجال قليلاً على مائة وعشرين، سنتيمتراً.

وربما كان وزن الفرد حوالي 36 كيلوجراما، والنساء أقل كثيراً من ذلك، وحينما يولد طفل قزم فإنه يكون نحيلا بدرجة لا تصدق.

وهؤلاء الناس هم رجال ونساء صغار مكتمل النمو. ويعتقد بعض العلماء أنهم ينحدرون من السكان الأصليين لأفريقيا. وبخلاف جيرانهم من الأفريقيين فإن لجلدهم لونا نحاسيا شبيها بجلد الهنود الأمريكيين.

ولقوم تيكي تيكيس وجوه باشة، وهم شجعان وصيادون متجولون. فين النادر أن يناموا في معسكر واحد لأكثر من أيام قليلة. وهم لا يغرسون أو يزرعون شيئا. والواقع أن بعض الأقزام في يومنا هذا يعملون عبيدا لدى الأفريقيين الآخرين، الذين يدفعون بهم ثانية إلى الأدغال ويستخدمونهم كصيادين.

ومن التجارب المثيرة أن تدخل للمرة الأولى معسكراً للأقزام. ويجب في هذه الحالة إرسال إشارة سابقة عن طريق أحد الوطنيين الأصدقاء أو أحد التجار تنذرهم بوصولك إليهم في زيارة، وإلا اختفت القبيلة بأكملها في أعماق الأدغال قبل أن تصبح على قيد خطوات منهم بوقت طويل.

ويتطلب العثور على الطريق الذي يسلكه الأقزام، والذي يكاد يكون مختفيًا، أعينا حادة، ذلك لأنه يلتوي ويلتف مخترقا كتلة من السراخس، والنباتات الزاحفة، لأن الطريق بتسع لقدم رجل صغير فقط. وليس هناك أي صوت يبدد السكون المطبق في هذا الجزء من غابة آتوري. فلو عاش أي عدد من الآدميين من أي حجم في هذه المنطقة الخضراء الجالية الساكنة لما كانت هناك أية دلالة على وجوده.

وهنا يجب على الغريب أن يسير باحتراس. فما يبدو كأنه غصن ملتو قد يكون أفعى قاتلة. ورقعة منطقة باللون الذهبي كأنها ضوء الشمس قد يتبين أنها نمر أرقط يستعد للانقضاض. ومستعمرة الأقزام ذاتها شيء عجيب.

 فالأماكن المظللة بأوراق النبات والتي تستخدم كمساكن يندر أن يزيد ارتفاعها على 10 سنتيمتراً ۳۰ أقدام، وهي شديدة الشبه جدا بما يحيط بها من نموات قريبة من الأرض لدرجة أنه يكون من المحتمل عدم التنبه إلى وجودها بكل بساطة.

وهي لا تحتوى على أثاثات من أي نوع. والسراير هي مجرد أوراق موز مفروشة على الأرض الترابية. وليس لديهم آنية للطبخ. فالطعام يؤكل إما نينا وإما مشويا وكل ما يمتلكه هؤلاء الصغار من أهل الأدغال هو الأقواس والسهام والرماح.

وحينما تنتقل القبيلة إلى معسكر جديد لا يكون لديهم ما يحملونه سوى الأطفال الصغار الذين لا يستطيعون المشي.

وهؤلاء الناس الصغار مهارة والنسانيس، في الانتقال على قمم الأشجار. وهم ينتقلون عادة لمسافات طويلة بين الغصون دون أن يطأوا الأرض. وبسبب الخطر من التماسيح، يخشى الأقزام الماء، ويندر أن يتعلموا السباحة. ولذا أصبحوا مهرة في بناء الجسور والكباري، مستعملين النباتات المتسلقة والكروم بدلا من الحبال أو السلوك. وبناء جسر «كوبري ا من الكروم عمل خطير، يتطلب الكثير من المهارة.

والأقزام هم أكثر أقوام الأدغال خبرة في الصيد واقتفاء الأثر. ولا تسمح لهم الحكومة بحمل الأسلحة النارية الحديثة. لذا فهم يضطرون إلى الصيد للحصول على اللحم وللدفاع عن أنفسهم بأسلحة من صنع أيديهم.

ولكن استعمالهم لهذه الأسلحة بمهارة في الرماية شيء مذهل حقا. وهم يرمون غالبا ثلاثة أو أربعة سهام الواحد تلو الآخر، بسرعة فائقة لدرجة أن السهم الأخير قد يترك القوس قبل أن يكون السهم الأول قد وصل إلى الهدف.

وأحيانا يخطئ السهم الهدف. فيستشيط الصياد الصغير غضبا. محطما سهامه ويطوها بقدميه. والسهام ذاتها هي مجرد نصب برص، مستقيم مزود طرفه بالسم. وتوضع في النهاية ورقتا شجر لتجعلا الطيران مستقيما.

وللأقزام طريقة غير عادية في اصطياد الحيوانات الصغيرة، فإنهم ينصبون في الأدغال شباكا مصنوعة من الألياف الغليظة. ثم يتفرق النسوة والصغار في نصف دائرة متسعة ويحدثون ضجيجا عاليا. وهذا يدفع بالحيوانات الخائفة إلى الشبكة حيث يقتلها الصيادون بسرعة.

ويمكن القوم الأدغال الصغار هؤلاء صيد الفيل القوى وأحيانا تحفر مصائد مائلة وتغطى بدهاء بأوراق وغصون النباتات.

وإحدى الحقائق الغريبة جدا عن هؤلاء الرجال والنساء الصغار هي نهمهم الشديد لجميع أصناف الطعام. في الأمور العادية أن يستهلك القزم "اسباطة"، تحتوي ستين إصبعا من الموز في وجبة واحدة، هذا بالإضافة إلى أي كمية من اللحم يمكنه الحصول عليها. وبعد ذلك يستلقي على سريره الخشن من التراب ويعلو شخيره طوال الليل. وعندما يأتي الصباح يكون مستعدا لإعادة هذا المشهد. والأقزام مولعون بالملح بشكل غير عادي. ونظراً لأن الأدغال، لا تحتوي على أي منه فإن التجار يستخدمون قضبانا من الملح لتقوم مقام النقد عند تعاملهم مع الأقزام.

وعلى الرغم من الحياة التي قد تبدو غير محتملة لأكثرنا فإن الأقزام يبدون دائما مبتهجين. وفي لغتهم الخاصة - التى لا يعرف أن يتحدث بها من الغرباء عنهم إلا القليلون - يسمون أنفسهم الناس الصغار، ويشيرون إلى الأفريقيين الآخرين باسم "الناس الحقيقيون".

قبيلة مانجيتو:

ثمة قبيلة مجاورة وممتعة جدا هي قبيلة مانجبيتو، وأفرادها ليسوا طوال القامة بحيث يصل طوله إلى حوالي ۲۱۰ سنتيمترات كما هي الحال مع أفراد قبيلة (واتوسي)، الذين يعيشون شرقا. ولكنهم يعتبرون مردة إذا هم قورنوا بالأقزام. وهم يعيشون على حافة غابة آتوري ويختلفون عن الناس الصغار كما يختلف ضوء النهار عن الظلام.

وإذا رغبت في زيارة قوم مانجيتو فستجد نفسك تتبع طريقًا معبدا بالقدم بحيث تبدو طينته وكأنها قد دكت حتى أصبحت مثل الأسمنت نتيجة السير عليها لعدة أجيال بأقدام حافية ولا تترك آثاراً على سطحه الصلب إلا الحوافر الحادة لجاموس الأدغال. وفي أعلى تقف "النسانيس"، لقطع الغصون وتلقيها على المارين من تحتها.

وعندما يترك المدق الغابة المزدهرة، فإنه يكون فجأة دهليزا يمر في حشائش يزيد ارتفاعها على ارتفاع رأس رجل طويل، وتقودنا الحشائش في النهاية إلى مكان انتزع منه بعناية جميع ما نما في الأرضية. وله منظر مدهش، فهو يشبه تقريبا متنزها مفتوحا. وهذه هي أرض قوم المانجبيتو. ويوجد من بينهم النحاتون، والموسيقيون، وبناؤو السفن، والسحرة، والحكماء. وتختلف طرق معيشتهم تماما عنها لدى أي قبيلة أفريقية أخرى.

وتتكون قرية المانحبيتو من عشرات من المساكن الكبيرة لها قمم مرتفعة من السقوف القصب والغاب، وهي متناثرة بين مجموعات من أشجار الظل الرائعة. وتزين الجدران المطلية البيضاء تزيينا جميلا برسوم ملونة باللونين الأسود والبني. وكل شيء نظيف ومرتب وقد مسحت الأرض الحمراء حتى أصبحت في نظافة أرضية المطبخ الهولندي.

وهناك طرق متسعة ومعتني بها تمتد خلال أخاديد البامبو. ونرى هنا وهناك أبنية أنيقة لها سقوف من القصب والغاب، ومرتكزة على أعمدة منقوشة نقشا جميلا. وهذه مخازن وورش ومطابخ حيث يعد الطعام لعدة أسر في وقت واحد.

وهنا يقوم العمال بعملهم. فالبعض بصنعون من القلف ثيابا، يصبغونها بأصباغ مستخرجة من الأدغال، والآخرون بطحنون ثمار المنيوق لتصبح دقيقا، وهذا بالتالي بخبز على هيئة كرات مثل القمة القاضي الصغيرة.

وتبرز أجسام طويلة برونزية اللون من أبواب المساكن. ويرتدى الرجال مآزر من القاف المدقوق، مخططة باللون الأسود والأبيض والبني. وهذا الرداء التمثيلي يخفق باتساع عند الأرداف وبضيق عند الخصر بحزام من الحاد الأوكابي.

ونساء المانحبيتو بتبعن رجالهن ويتحركن في نظام فخم عبر الساحة. وتتوج رؤوسهن هالات من الشعر المجدول الذي يتأرجح أثناء سيرهن. وتميل أعينهن نحو الأصداغ. وتحيط بأذرعهن وأرجلهن حلبة من سلوك النحاس اللامع.

ولكل مانحبيتو جمجمة عالية مدببة وبيضاوية. ولا يحدث ذلك بمحض المصادفة. فمن الوقت الذي تكون فيه سن الطفل أشاً قليلة، نعمل أمه عا تشكيل رأسه، فتربط أليافا بشدة حول رأسه، وهذه تزداد ضيقا كلما تقدم الصغير في السن.

وعندما يصل الطفل إلى البلوغ يكون رأسه قد أخد شكله النهائي. ويدعي بعض الناس أن هذا التشكيل يقوم المخ، وهذا هو السبب في أن المانحبيتو من بين أكثر أقوام الكونغو ذكاء. وعلى أي حال، فلا يمكن أن تكون العملية مؤلمة لأن صراخ الطفل لا يسمع قط..

وأحد المميزات البارزة للمانجبيتو هو اللطف الذي يظهرونه نحو أبنائهم. فلا يمكن للزائر أن يرى طفلا بعاقب، ومن النادر أن يسمع أحدهم يزجر. ويكاد يكون للأطفال أخلاق مثالية. وهم يبدون ذرى مودة وممتلئين بالمرح، فهم سعداء بحياتهم

ويبدو أن هذه القبيلة العظيمة قد هزمت الأدغال أكثر من أي قبيلة أخرى، فقد استأنست الأدغال بحيث إن الشخص قد يعيش ناجحًا في حياته محتفظا بآدميته دون أن يخشى شيئًا.