المحتويات

 

الإنسان وحياته في الأدغال (الهنود في الأدغال البرازيلية):

استطاع الهنود منذ عدة قرون أن يعيشوا ويكونوا أسرهم في غابات البرازيل المطيرة التي ترهق الإنسان من أمره عسراً.

وهم في أغلب الحالات يعيشون على حافة الأدغال. ويقطنون على جوانب الأنهار والترع يصيدون الحيوانات والسمك طلبا للغذاء. ولكي يتنقلوا خلال الأدغال فقد يوسعون الطرق التي سبق أن عيادتها الحيوانات البرية ولكنهم يفضلون الطريقة الأسهل باستعمال زوارقهم الطويلة المنحوتة من جذوع الشجر.

ولكن على الرغم من هذا الطابع العام، فإن هناك اختلافا كبيراً في عادات القبائل المتعددة، ويمكن ملاحظة ذلك في طريقتهم في إعداد ولبسي الملابس، فإحدى القبائل تصنع ملابس فاخرة، حيث تغزل النسوة القطن، ويقوم الرجال بنسجها، وثمة قبائل أخرى تستعمل القلف الداخلي لأشجار معينة، وهو يشبه نسيج الملابس. والبعض الآخر يستعملون ريش الببغاوات أو أبي قردان أو الماكو (الببغاء الأمريكية).

وبعض القبائل تعتمد بوجه عام في الوشم كنوع من أنواع الغطاء. أما الذين يقطنون الأماكن السحيقة من الغابة المطيرة فلا يلبسون ملابس من أي نوع. ولا تحسبن حشرات الأدغال نحيل حياتهم جحا.

فالهنود يعرفون أي النباتات يمكن استعمالها لإبعاد الحشرات. وأكبر الظن أن أجسامهم اكتسبت نوعاً من المناعة.

منازل الهنود في الأدغال:

وتتفاوت منازل الهنود في شكلها تفاوتا على غرار اختلاف ملابسهم. ولعل من أطراف أنواع مساكنهم النوع المعروف ب :المالوكا"، حيث تعيش ثلاثون أو أربعون أسرة ويأكلون وينامون معاً.

والمالوكا مسكن مصنوع من البامبو، وقد يصل طوله إلى أكثر من ثلاثين متراً و مائة قدم»، وعرضه أربعة وعشرين متراً «۸۰ قدماً». وهو يرفع في الغالب فوق الأرض محملا على أعمدة كنوع من الوقاية ضد الفيضانات، والزواحف. ويصنع السقف من القش، وله بروز يصل إلى الأرض تقريباً. وهناك فتحة صغيرة عند كل طرف تسمح بمرور الضوء وتستعمل كمدخل ومخرج. وليس لهذا المسكن نوافذ. والمالوكا عموما نموذج للنظافة. وتتدلى شباك النوم من الأعمدة التي تحمل السقف. وتعلق الأقواس والسهام والرماح والبنادق والهراوات بنظام على طول الجدران.

وعلى جانبي هذه الغرفة الفسيحة المفردة، تندلع نيران الطهي من طاسات مصنوعة من الفخار. وكل موقد ينتمي إلى أسرة مختلفة. وتترك النار مشتعلة طوال الليل كوسيلة لإبعاد الأشباح التي يزعمون أنها تملأ الظلام المحيط. ولكن نظراً لأن أمسيات الأدغال تكون رطبة وباردة والناس لا يمتلكون أي غطاء من أي نوع، فإن الليل بدون نار يجعل الحياة شقاء فعلا. وكل بضع ساعات خلال الليل، يقوم أحد أفراد الأسرة بتزويد النار بالوقود.

وقبل شروق الشمس بساعتين يكون البرد قد بلغ أقصاه، وحينئذ يذهب سكان الأدغال إلى النهر لأن الماء يكون أدفأ من الهواء.

وهذا الحمام يحفظ لهم قوة احتمالهم حتى تناول الفطور. وفي وقت الظهر يذهبون إلى النهر ثانية. وفي هذه المرة يبردون أجسامهم من حرارة الجو.

وعند الأصيل يغطسون فيه مرة أخرى لمجرد اللهو. وأحيانا تقوم التماسيح وأسماك بيرانا بتعكير صفو اللهو ولكن لمدة قصيرة.

وقاطن الغابة المطيرة يقوم بالعمل عدة ساعات كل يوم. والحياة في أدغال أمريكا الجنوبية ليست سهلة. فالطيور والنسانيس، تغير على الحدائق وتلتهم الفواكه والثمار قبل أن يتم نضجها بوقت طويل، ويجب على الصيادين أن يبحثوا عن صيدهم بعناية تتطلب عناء، وفي حين يقوم الرجال. بالصيد في الأدغال، تقضى النساء معظم يومهن في إعداد الطعام والعناية بالحدائق.

غذاء ساكني الأدغال:

والغذاء الرئيسي للهنود هو نبات المانيوكا. ومر بالنسبة إليهم مثل الخبز عند الأمريكيين، والشوفان عند الأسكتلنديين، والبطاطس عند الإيرلنديين. والدرنة التي يصنع منها المانيوكا سامة جدا.

ولكن الهنود تعلموا منذ زمن طويل أن يتخلصوا من السم وينتجوا منها دقيقا مغذيا. وبعد عصر ما بها من عصارة ثم غسلها يسحق المانيوكا حتى يصبح مثل نشارة الخشب، ثم يعجن على هيئة فطائر.

وتخلصه الحرارة مما يكون قد تبنى به من سموم. والمانيوكا غذاء عملي لأن من السهل نقله.

وإياك أن تتخيل مع ذلك، أن طعام الأدغال ليس له طعم مطلقا. فقد تجلس في إحدى المناسبات لتتناول وجبة من لحم الغزال أو البط المشوى، وكيزان، الذرة، والبطاطا المخبوزة في جذوة نار، وكذلك الحلويات المصنوعة من الفول السوداني وعسل النحل البري.

وبعض أنواع الأطعمة عند الهنود تثير الدهشة جدا، فالنمل الأبيض المحمر يعتبر من الأصناف الشهية.

واليرقات من أنواع مختلفة تجد طريقها إلى مائدة الطعام. وبيض السلاحف طعام سائغ، حيث يثقب الهندي بكل بساطة الغشاء المطاط للبيضة ويدفع بمحتوياتها إلى فمه.

حتى في الأدغال التي تكتظ بالحيوانات البرية، ليس من السهل الحصول على اللحم للمائدة. لأن لكل مخلوق بالغابة طريقة ما لحماية نفسه. فبعضها يستخفي بمهارة. والبعض الآخر حاسة شم أو سمع غير عادية. وثمة حيوانات أخرى تتحرك في مثل سرعة البرق.

الصيد في الأدغال:

وتستعمل الأقواس والسهام عادة لصيد السمك. ومع هذا فإنه من الصعب تعلم صيد السمك بالقوس والسهم، لأن الأشياء تحت سطح الماء تبدو عادة في غير مواضعها الحقيقية.

وقوس صياد الأدغال التي تبلغ نحو مترين، مصنوعة من خشب النخيل الأسود. وهي سلاح جميل لا يستطيع ثنيه إلا الرجل القوي. وأحيانا يستعمل الصياد قاذفة مزاريق طولها حوالي ثلاثة أمتار. وهي عبارة عن أنبوبة مجوفة من القصب البري وملتصقة في غلاف من البامبو، ويبلغ نصف القطر الداخلي للأنبوبة حوالي سنتيمتر ونصف.

وتصنع المزاريق من العروق الوسطية لأوراق النخل ويكون طولها حوالي 3 سنتيمترات. وسمكها أقل من ملليمترين. وهي حادة مثل الإبر، ويطلى طرفها بالسم. ويشد الصياد القاذفة إلى شفتيه وبنفخة واحدة ينطلق المزراق نحو الفريسة. وسم الكيورارى أسود وسميل. ويحمله الصياد في قرعة صغيرة معلقة حول رقبته.

ساحر القبيلة و صناعة الكيوراي :

وصنع الكيورارى يعتبر من الأسرار، وهو في الغالب معروف فقط عند الساحر أو كاهن القبيلة. ويقال إنه يحتوي على عصير شجرة الجوز المقي، بالإضافة إلى نمل توكانديرو البصير الأسود، وعلى النار الصغير الأحمر، وعقرب أو عقربين، والكلابات المسحوقة للثعبان سيد الأحراش الفتاك.

ساحر القبيلة يشفى الأمراض، ويمارس السحر لاستدرار المطر أو طلب الجفاف. وهو يفسر الأحلام، ويعلم الناس كيف يتقون الأعداء، الظاهرين أو الخفيين، ونتيجة لكل هذا الدجل فإن الساحر هو المعلم الحقيقي للقبيلة. وهو عادة أكثر ذكاء وأوسع أفقا من زملائه. وله فعلا معرفة تثير الإعجاب بعقاقير الأدغال.

وهو يعرف كيف يجبر العظام المكسورة، ويجرى العمليات البدائية. ومن مشاهداته لتحركات الحشرات والطيور والحيوانات يمكنه أن يتنبأ بحالة الجو بدقة مذهلة.

وقد وجد معظم الأجانب أن الهنود قوم أمناء بدرجة غير عادية. فإن العالم أو الرحالة مع ما يحمله من بضاعة للتجارة والمتاع الشخصي يندر أن يجد منها شيئا ناقصا. ولو راعي الغريب في قرية هندية التقاليد المحلية لقوبل بحفاوة، والتي أطيب الطعام ووجد عناية فائقة إذا داهمه المرض.

ومنذ أربعة قرون جلبت القذائف والأمراض - التي أتى بها أوائل الإسبان الفاتحون الشقاء والموت للهنود. أما الآن فإن السياسة الحكيمة التي تتبعها البرازيل في خدمة وحماية الهنود. جعلت هنود الأدغال يستقلون بأنفسهم مرة أخرى.

التغييرات التاريخية في حياة ساكني الأدغال:

وفي الحقيقة أن رقعة الأدغال بالبرازيل تمر بتغير كبير. فهناك برنامج واسع المدى للثقافة الصحية تشرف عليه الحكومة البرازيلية، وهو يصل إلى أبعد البقاع الآهلة بالسكان. وهناك مشروعات صرف ضخمة. وقد حقق الد. د.ت. معجزات في المناطق التي قاست من الملاريا لعدة سنوات. وتعلن الحرب ضد بعض الأوبئة مثل الدودة الخطافية والدوسنتاريا والتيفوس.

والمناطق الداخلية مأهولة بمخلوقات غير التماسيح والثعابين المعاصرة، إذ أن آلافا من الرواد أولى البأس يتركون المدن الساحلية ليجربوا حظهم في الداخل.

ولعدة سنوات كان الخط الجوي من أمريكا الشمالية إلى ريو يتخذ الطريق المحاذي لساحل البرازيل. فلم تكن خطوط الطيران تجرؤ على الطيران في طريق مستقيم فوق الأدغال، فقد يستحيل إنقاذ أية طائرة تضطر إلى الهبوط.

ولكن اليوم، حيث الطائرات أكبر، وتحمل وقوداً أكثر، أصبح الخط الرئيسى للسفر يمر في خط مستقيم من كاراكاس فوق الأدغال إلى ريودي جانير وويختصر هذا الخط ۲۹۰۰ كيلومتر ۱۰۰۰ ميل، من الطريق القديم الذي كان يحاذى الشاطئ. ومة جزء من الطريق الجديد يمر فوق سكان بلاد الشافانتس البدائيين الذين لا يزالون يذكرون قسوة الباحثين عن المطاط.

ولما كان من الضروري إعداد ساحات للهبوط اضطراري في هذه الأصقاع فلم يكن ثمة بد من اكتساب صداقة الشافانتس. وفي بادئ الأمر كان الهنود يطلقون سهامهم على الطائرات التي تطير على ارتفاع منخفض. وكان الطيارون يردون على النار بإسقاط هدايا من الأطعمة والسكاكين والملابس. وشيئا فشيئا قلت العداوة. وفي بعض الحالات ساعد الشافانتس في بناء ممرات الطيران.

ولقد شمل التقدم بعض النواحي في الأدغال البرازيلية. ولكن الأدغال تبلغ من الكثافة حدا بحيث لا تزال تبدو من الجو كبحر هائل من الخضرة.

والأنهار التي تصب في الأمازون تبدو مثل الشرائط الدقيقة. وانكسار بسيط كل حين في الامتداد الأخضر يوضح المكان الذي انبثقت فيه قرية على طول الخط الجوي.