التنفس

هناك أعداد كبيرة من الناس تمارس تمارين التنفس شباباً كانوا أم كهولاً بوسائل وأنواع متباينة، ويتمرن هؤلاء المساكين بغرض تمديد صدورهم أو تنمية قدرة الحجاب الحاجز أو التدرب على التنفس البطني، فيتنفسون أمام النافذة، مستلقين، جالسين، واقفين، وكلما زاد إصرارهم زاد إجهاد أعضائهم وضررها. والنتيجة الحتمية هي الإصابة بالتوتر العضلي.

إن للتنفس وضعاً خاصاً، فالقلب والكبد والكلية والمعدة والأمعاء كلها تعمل تلقائياً من دون أن نحسّ بها، إلا إذا صدرت منها إشارات الألم لتعبر عن خلل ما، ومن الناحية الأخرى فإن حركاتنا الإرادية المشي والوقوف ونحوه يتحكم بها الدماغ، فقبل تحريك الذراع مثلاً يجب أن تبعث برسالة من الدماغ إلى العضلات المعنية عبر ممر خاص يسمى العصب.

أما التنفس فله ميزة فريدة مع أنه الوظيفة التي تعمل بشكل تلقائي من المهد إلى اللحد، إلا أن التحكم فيه إرادياً مقدور عليه، بالرغم من أن التحكم في عدد ضربات القلب أو التدخل في تفاعلات الكبد أمر يستحيل فعله.

إذا كيف تحسّن من وضع تنفسك؟

والجواب بالمراقبة المستمرة للسلوك التنفسي اليومي وتصحيح ما ساء منه، فهذه العادات التي تمارسها مراراً وتكراراً كل يوم قد تكون سبباً في صحة أو سقم، في توتر أو استرخاء، في سعادة أو بؤس. بالتنفس تتجسد الحياة، وقد نتحمل الجوع أياماً والعطش ساعات، ولكن كم من الثواني نبقى بلا تنفس؟ ألا ترى كم هو التنفس أمر حيوي، وكم كان إتقانه ضرورة، كيف؟ ليس بتمارين التنفس الشاقة، ولكن بالأسلوب الطبيعي السلس والوحيد، أي بالتنفس حسب الإيقاع الذاتي.

الإيقاع الذاتي للتنفس

يُولد كل إنسان بإيقاع ذاتي خاص به، وهو السرعة الطبيعية لأي حركة يقوم بها الجسم من غير تدخل إرادي واع، هذا الإيقاع مميز لصاحبه مثل بصمة الإصبع، وليس مهماً إذا كان مردّه إلى إفرازات الغدد أو غيرها، ولكن ما يهم هو أن يتعرف كل فرد على نظامه الخاص ليعيش معه ويتكيف. وإذا اختل توازن الإيقاع الذاتي، جسدياً أو ذهنياً أو نفسياً، فستعاني هذه الأجهزة كلها مجتمعة، لأن الإنسان كيان لا يمكن فصله إلى أجزائه المكونة له، وهي الجسد والذهن والنفس، حيث يستحيل اعتبارها كل على حدة.

إن ضغط الحياة وردود أفعالنا أمام هذه الضغوط وتفاعلنا مع الآخرين، بالإضافة إلى محاولاتنا المتعمدة في أن نغير إيقاعنا الذاتي حتى يتناسب معهم، كل هذه العوامل تقف وراء افتقارنا للإيقاع الطبيعي، ولذا كانت استعادته فرضاً علينا إذا شئنا تحقيق هدف كل إنسان: الصحة  والصفاء الذهني.

والتعرف على الإيقاع الذاتي أمر ميسور، فقط راقب نَفَسَكَ وتعرّف عليه، ولا يهم إن كان بطيئاً أو سريعاً، فغاية المراد أن تستجيب للذبذبة المناسبة لك، فقد يتنفس البعض بمعدل ست مرات بالدقيقة والبعض الآخر ما يعادل واحداً وعشرين مرة، وكلاهما موفور الصحة ممتلئ الحيوية لانسجامه مع إيقاعه، وهذا حقه المشروع.

كن طبيعياً:

يميل الناس لسبب ما إلى اعتبار السرعة ذاتها مظهراً من مظاهر القوة، فسرعة التفكير يطلق عليه ذكاء، وسرعة الإنجاز مصدر فخر لصاحبه، ولكن ليس من يفكر متعجلاً هو ذا رأي صائب بالضرورة، كما أن من يتعجل الفعل لا يتقنه عادة، وما من دليل يثبت أن سريع الحركة يقطع مسافة أطول من بطئها على المدى الطويل. أي بكلمة أخرى، عليك أن تكتشف إيقاعك أو انتظامك الذاتي وتعض عليه بالنواجذ، وتملك الشجاعة في أن تكون طبيعياً على سجيتك، ولو أن من يتحلّون بهذه الشجاعة هم ندرة في مجتمعهم، ولا تنس أن تغيير إيقاعك الذاتي سيلحق الأذى فيك، جسدياً وذهنياً ونفسياً.

خذ أبسط مثال الانتظام ذاتي غير سليم، لنفترض أن أحدهم متميز بسرعة مشيه، وحدث أن رافق طفلاً أو كهلاً طاعناً في مسيرة طويلة، فاضطر الأول أن يساير الأخير في رقة حاله وبطء خطواته، ماذا سيحدث؟

من البديهي أن يعود إلى بيته متوتراً مجهداً، ليس من طاقة مُرفت، بل من إيقاع خاطئ كان عليه تقمصه، وأنت أدرى برد فعل العربة حين لا تحترم تسارعها الطبيعي في تبديل غيار سرعتها، أما في حالة الجسد فإن الجهاز العصبي يبعث بإشارات وتنبيهات عندما لا نحترم انتظامه الذاتي، ولكننا نهمل هذه التحذيرات أو يغمض علينا فهم رموزها.

وهناك علاقة طردية بين الانسجام مع الإيقاع الذاتي والمقدرة على الأداء، وهنا يكمن سر التفوق المميز لراقص الباليه المبدع الذي برّ أقرانه السبب بسيط هو أنهم نسوا إيقاعهم الذاتي، فحركاتهم لا تصب في نفس تيار انتظامهم، وهي لا تمثل ذلك التعبير المباشر عن شخصية كل منهم.

 إن إيقاعنا الذاتي يبدأ من الشهقة الأولى، وما دام منتظماً فالصحة والسعادة حليفتان لنا، أما إذا أصابه الخلل بدنياً أو ذهنياً أو نفسياً، فالنتيجة تشابه ما يحدث إذا اضطرب التنفس.

المرض - الألم - الخوف – الصدمة المفاجئة، أيها قد يغير من هذا الإيقاع مؤقتاً، فنستعيده بعد حين، ولكن عندما يتأصل الإيقاع المضطرب في أنفسنا... وجب علينا استعادة الإيقاع الطبيعي القديم قبل أن يتطور إلى تنفس ضحل فيصير عادةً وسلوكاً. أوضح تعبير لهذا الإيقاع المضطرب ما نعبر عنه بقولنا: «لم أستطع التقاط أنفاسي»، وقد مررنا بهذه التجربة أثناء الجري المفاجئ أو عند نبأ ثارت لسماعه الأشجان، هذا بالنسبة للتغيير المفاجئ، أما على المدى الطويل، فيتمثل في الجلوس بظهر مقوس لساعات طويلة، فتنكمش حرية التنفس التلقائي لتمسي عادة تتعارض مع انتظامك الذاتي وتحرم أجهزة جسمك من الأكسجين، إكسير الحياة.

أثر العاطفة على الإيقاع الذاتي في التنفس:

يتأثر الإيقاع الذاتي بالعواطف كلها، فمع المرح والسعادة نتنفس بعمق أكبر ويتسع الصدر، على عكس الحزن والكآبة حيث تضيق الأنفاس وتختنق العبارة، والمعاني التصويرية مثل «لقد ضاق على نفسي من شدة الحزن» أو «ثقل على قلبي» تحوي بعض الحقيقة ولا شك. بين هذين النقيضين تتوسط الاضطرابات الأصغر أو ذات الأهمية الأدنى في إيقاع تنفسنا، فالتوقف عند إشارة مرور حمراء وفاتورة دين كبير ووجبة طعام غير ناضجة وطفل مزعج وزميل يكرر جملة سمعتها عشرات المرات، وغيرها كثير، كل هذا يؤثر في الانتظام الذاتي، والسرعة التي تستعيد فيها انتظامك الطبيعي ستحدد مدى صحتك الذهنية والنفسية، انظر إلى الطفل عندما يُطيّب خاطره بعد بكاء مرير، كيف يصبح هادئاً وديعاً وقد استعاد انتظام تنفسه الطبيعي بسرعة، ومن ناحية أخرى يبقى البالغ متوتراً عدة ساعات عقب أن تكدر صفوه، والنتيجة إجهاد واضطراب للبالغ و سلام نفس للطفل.