كتب الكاتب الفرنسي "فوفينارج" يقول: "إن الحقائق البسيطة تمثل راحة من المضاربات الكبرى". والسبب في أن كتاب كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الآخرين لا يزال على قمة أفضل الكتب مبيعًا حتى يومنا هذا، وبيعت منه أكثر من ٢٥٠٠٠٠ نسخة في الولايات المتحدة وحدها في عام ٢٠١٠، هو أن المبادئ في حد ذاتها بسيطة، ولكن لا يمحوها الزمن. فالحكمة الكامنة فيه واضحة ومباشرة ولكنها سامية. ومنذ بدأ "اكارنيجي" بتدريس المنهج الأول عن هذا الموضوع في عام ١٩١٢، فإن حقائقه البسيطة قد أضاءت أكثر الطرق فاعلية ليصبح المرء شخصًا ينشد الآخرون آراءه، ونصيحته، وقيادته.

ولذا، فإذا كانت هناك أية فرصة لإعادة تصميم الكتاب الكلاسيكي، فإنه ليس في سياق يسمح باستبدال نصيحته. فالنثر المنسوج خلال الصفحات التي بين يديك يأتي في سياق مختلف: إعادة صياغة نصيحة "كارنيجي" لحقبة مختلفة تماماً _أي أن المبادئ الخالدة نفسها يتم النظر إليها من خلال منظور حديث وتتطابق مع عقلية رقمية، عالمية. فإن الفرص المتاحة لكسب الأصدقاء والتأثير في الناس في وقتنا الحالي هائلة بشكل يصل لأضعاف مضاعفة عن تلك الفرص التي كانت متاحة في حياة "ديل اكارنيجي". إلا أنك عندما تضيع الفرص، فإن الأرقام تصبح غير مهمة لأن "الكون كله _باستثناء تافه واحد _"لا يزال" يتكون من أناس آخرين"

وصدق "توم باتلر-باودون" مؤلف كتاب أهم ٥٠ كتاباً في مساعدة الذات  حينما قال عن كتاب كيف تتكسب الأصدقاء _ إن "هناك تناقضاً غريبا بين صياغة العنوان والكثير مما هو وارد في هذا الكتاب في الواقع”' تأمل عنوان هذا الكتاب من خلال عدسة اليوم المتشككة وسوف تفقد سحره. فالكتاب رغم كل شيء عبارة عن أطروحة تدور حول تطبيق مزيج لا يضاهي من التعاطف الصادق، والتواصل الاستراتيجي، والقيادة القويمة.

من المهم أن تتذكر أنه في زمن "كارنيجي" فإن الكثير من وسائل التواصل ذات الهويات الخادعة (المواقع الإلكترونية، وفيص بوك، ولينكد إن، وتويتر) ووسائل التحايل الإقناعية (الإعلانات المدوية، وأخبار المشاهير، والدعاية الصاخبة) لم ثكن موجودة. كما أن فكرة كسب الأصدقاء لم تكن قاصرة على مجرد نقرة على زر "قبول"٠ ولم ثكن فكرة التأثير في الآخرين تشمل أدوات تساوى نصف قرن من الحملات الإعلانية الضخمة، وخداع الشركات، والشخصيات اللامعة التي تتمتع برغد العيش فقد. كان لدى "اكارنيجي" سبب بديهي لصياغة عنوان الكتاب بالطريقة التي صاغه بها.

بالعودة لذلك الوقت، فإنك إذا لم تدعم أية صداقة، فإن التأثير على أي شخص كان أمرا مستحيلا تقريبا، فوسائل الإعلام الاجتماعية لم تكن موجودة، ولم تكن وسائل الاتصالات الرقمية متاحة. في الواقع، إنك نادرا ما كنت تنجز عملا مع شخص لم ثكن تعرفه بطريقة ملموسة، وكان لدى الشخص العادي ثلاث طرق فقط للتواصل مع أي شخص آخر؛ التواصل بشكل شخصي، أومن خلال الخطابات، أوعن طريق الهاتف. وكان التواصل الشخصي هو التوقع السائد، ولكنه اليوم هو الاستثناء.

وبينما كان التأثير غير المباشر عن طريق النجومية أو المكانة الاجتماعية موجودا في زمن "اكارنيجي"، فإنه لم يكن سريعا أو منتشرا مثلما هو عليه اليوم، وكانت الصداقة هي الجسر لممارسة التأثير كل يوم، فإنك كنت تحظى بالأصدقاء من خلال مصافحة قوية، وابتسامة دافئة، وهيئة جسدية توحى بإيثار الآخرين، وكنت جديرا بالتأثير الذي كان ينتج عن. ذلك، ولكن علاقة السبب والنتيجة هذه ليست دقيقة بهذا الشكل في وقتنا هذا.

تأمل عدد عام ٢٠١٠ من مجلة تايم الذي كان بعنوان "أكثر 100 شخص تأثيراً في العالم". وبوجود أكثر من ستة ملايين متابع عبر موقع تويتر، جاءت "ليدى جاجا" على رأس القائمة.9 وليست هناك حاجة لمناقشة ما إذا كأن لديها تأثير على قاعدتها الضخمة من المعجبين، والتي تخطت منن ذلك الحين ٠ ١ ملايين شخص أم لا. فإنها إذا أومأت لأحذية من علامة تجارية معينة أو لزجاجة مياه من نوعية معينة، فإن مبيعاتها تحقق نجاحا مدودا. وهناك جدل واسع حول القيمة التي تضيفها لعلاقاتها والنتيجة النهائية التي يقود إليها تأثيرها، وإن كانت تسعى للحصول على أعلى قدر منهما على حد سواء، فإن تأثيرها يعد قوة لا يستهان بها، أما إذا كانت تسعى فقط إلى زيادة الأموال التي تحصل عليها، فإنها سوف تكسب المزيد من المال، ولكن تأثيرها لن يزيد على تأثير حملة إعلانية صاخبة لشركة "بولارويد".

إن قيمة التأثير المتأصلة والمرتبطة بالعلاقات لم تتغير، فإنها لا تزال عملة التقدم الاجتماعي، إلا أن العدد الهائل من وسائل الإعلام الخاصة بالتواصل جعل من اكتساب العلاقات المتنوعة أمرا ممكناً، فإنك تحصل على ما تدفعه مقابله.

وبينما نعيش في عصر أصبح الشعار السائد فيه هو “الضجيج والتعري يحضان نجماً، فإن هذا ليس كتاباً عن التماس الصداقات واستغلال النفوذ، وهو مسار وصفه "اكارنيجي" بأنه نابع "من الفم" 10 ولكن هذا الكتاب عبارة عن دليل في العلاقات الإنسانية التي تنبع "من القلب". إنه يدور حول كسب الأصدقاء بالطريقة التي فاز بها جدك الصالح بقلب جدتك الحكيمة — من خلال الاهتمام الصادق، والتعاطف المخلص، والتقدير الأمين. إنه يدور حول توجيه التأثير الدائم الذي يرتقى إلى التقدم والفائدة المشتركة.

وهناك طريقة صحيحة وفعالة للقيام بذلك، وهي الطريقة التي صورها "اكارنيجي" بطريقة رائعة. وبعدها بخمسة وسبعين عاماً، لا تزال المبادئ صحيحة، ولكن تغيرت بعض التعريفات وتوسعت بعض التشعبات، وبالتالي فإن مسار هذا الكتاب سوف يتجه نحو تفسير وتطبيق جديدين. كيف لنا أن نفهم ونستفيد من مبادئ "اكارنيجي" في عالم رقمي؟ هناك بعض القرائن التي يمكن الحصول عليها من القوائم التي لم تكن موجودة في زمن "اكارنيجي"، مثل قائمة مجلة" فوربس " لأكثر الشركات العالمية إثارة للإعجاب "وقائمة مجلة "هارفارد بيزنس ريفيو "لأفضل المديرين التنفيذيين أداء في العالم"، وقائمة مجلة "تايم"لأكثر100 شخص تأثيراً في العالم" والتي أشرنا إليها سلفاً. هذه القرائن_أو التحذيرات في بعض الأحيان _ تكون في بعض الأوقات بمثابة أدلة للسياق الذي يتحقق فيه النجاح الاجتماعي في الوقت الحالي، وانطلاقاً من روح الكتاب الأصلي، فإن الصفحات التالية سوف تكون أيضاً بمثابة تذكير دائم بأن أسباب فعلنا للأشياء هي أكثر أهمية من الأشياء التي نفعلها.

وفي حين أن الرحلة إلى تطبيق مبادئ " اكارنيجي" اليوم ليست معقدة مثل الانفصال عن التطور الحالي والعودة إلى الاعتماد على البرقيات، والهواتف، والتفاعلات الشخصية، فإنها أيضاً ليست مبتذلة كغرس العامل الإنساني في كل جانب من جوانب الفضاء الرقمي الخاص بك. وبشكل عام، فإن أفضل الممارسات عبارة عن مزيج حكيم من اللمسة الشخصية والوجود الرقمي.

ويبدأ توظيف هذا المزيج بإجراء تقييم نزيه لموقفك الحالي، فمن هنا يصبح طريقك إلى التقدم مع الآخرين واضحاً.

فما هي نسبتك من التفاعلات الشخصية في مقابل التفاعلات الرقمية؟ بالنسبة لمعظم الناس، يعد البريد الإلكتروني، والرسائل النصية، والمدونات، والغريدات، ومدونات الفيسبوك هي الطرق الرئيسية التي يتواصلون بها مع الآخرين، وهذا يمثل عقبات جديدة وأيضاً فرصا جديدة.

فعند الاعتماد بدرجة كبيرة على وسائل الاتصال الرقمية، فإننا نفقد جانباً مهماً من جوانب التفاعلات البشرية: الإشارات غير اللفظية، فعندما تنقل أخباراً سيئة، فإنه من الصعب إظهار التعاطف والدعم دون التربيت بيديك على كتف الشخص الآخر. وعندما تشرح فكرة جديدة، فإنه من الصعب أن تنقل المستوى نفسه من الحماسة عن طريق مكالمة هاتفية كما لو كنت واقفاً بشكل شخصي أمام جمهورك. كم مرة أرسلت فيها رسالة بريد إلكتروني واتصل بك الشخص المتلقي للرسالة لاستيضاح الأمور بينما كانت تلك الأمور واضحة بالفعل؟

إن العاطفة يصعب نقلها بدون الإشارات غير اللفظية، وقد أزال انتشار التواصل عبر الفيديو بعض الحواجز، ولكن الفيديو وفقط مجرد جزء صغير من وسائل التواصل الرقمية، وما زلنا عاجزين عن تحقيق ذلك المستوى من الكرامة الإنسانية بالطريقة التي يمكن للتفاعل الشخصي أن يحققها، وقد حقق فيلم Up in the Air سلباً الحائز على الجوائز هذا المستوى.

يعمل "رايان بينجهام" ( ”جورج كلونى") متخصصَا في تخفيض العمالة بالشركات ويسافر عبر جميع أنحاء البلاد لفصل الموظفين للشركات التي لا تستطيع ضل ذلك بنفسها، ويبرع "بينجهام" في وظيفته التي تتطلب منه فصل الناس بطريقة كريمة بل وملهمة، وقد برع في صياغة خطبة يشجع من خلالها كل شخص على اعتناق الحرية الجديدة، بل إنه يقاتل حتى ضد رئيسه، الذي يطلب منه أن يبدأ في تسريح العمال عن طريق الفيديو من أجل خفض النفقات، إلا أن المفارقة الهائلة هنا هي أن "بينجهام" هو شخص وحيد في الحياة دون علاقة واحدة حقيقية في حياته، ولا حتى مع أخته الصغرى التي قد لا يحضر حفل زفافها. وما يبدو أنه قدرة خارقة على التعاطف والتواصل مع الأشخاص الذين يتم فصلهم هو في الواقع تأكيد عميق على الانفصال. ويستمر الأمر على هذا النحو إلى أن توضح له إحدى التجارب الشخصية الأهمية الهائلة للارتباط الإنساني الحقيقي، ويتوصل إلى الحقيقة في النهاية. وعندئذ لا يستطيع حتى اتباع نصيحته.

إننا نعيش في عالم تجتاحه التكنولوجيا الرقمية حيث يتم تقدير القيمة الكاملة للارتباط البشرى في كثير من الأحيان بإتقان التفاعلات الاجتماعية. وقد أتقن الكثيرون الغن المثير للسخرية المتمثل في بناء العديد من نقاط التواصل مع خسارة لمسة التواصل في الوقت نفسه، ولا يوجد العلاج في التحفظ الذاتي (كما في حالة ” رابان بينجهام") ولا في تحفيز التواصل من خلال فن البيع المثير ولكنه في الوقت نفسه سطحي. فالحالة الأولى عبارة عن خطأ فلسفي، والحالة الثانية عبارة عن خيار استراتيجي.

فهناك حد للإنتاجية في الوقت الحالي، يتم الوصول إليه عند نقطة معينة يحل عندها التقدم مع الناس محل التقدم التكنولوجي. ففي كثير من

الأحيان تكون مجرد سرعة الاصال هي التي تؤثر على حكمنا، ولأننا نؤمن بأن الآخرين يتوقعون ردودا فورية (كما نفعل نحن أنفسنا)، فإننا غالباً لا نستغرق الوقت اللازم لصياغة ردود نات معنى؛ حيث إننا نتجاهل جماليات الكياسة المتبادلة، ونقول: ”إنني لا أستطيع أن أطبق هذه المبادئ على تعليق بإحدى المدونات، أو برسالة بريد إلكتروني، أوفي مؤتمر افتراضي حيث لا أكون متأكدا من أن الآخرين يسمعونني" ، ولكن هذه التفاعلات هي التي تكون فيها مبادئ "اكارنيجي" هي الأكثر قيمة على الإطلاق، إنها تلك اللحظات الشائعة اليومية التي تبرز فيها تصرفات إيثار الآخرين بشكل واضح.

إننا نتوقع المجاملة في مواعيدنا الأولى ولقاءاتنا التالية؛ ونتأثر عندما تظهر تلك المجاملة نفسها في تقرير التقدم الأسبوعي، أو أثناء رحلة مشتركة في المصعد، ونحن نتوقع بلاغة متواضعة في حملة إعلانية أو خطبة في حفل زفاف؛ كما أننا نتحفز عندما تظهر هذه البلاغة المتواضعة نفسها في تحديث بالبريد الإلكتروني أوفي رد نصي على مسالة تافهة. فالفرق-كما يقولون-يكمن في التفاصيل: التفاصيل الدقيقة الكثيرة لتفاعلاتك اليومية.

فلماذا لا تزال مثل هذه التفاصيل مهمة في هذا العصر الرقمي؟ لأن "الشخص الذي يتمتع بالمعرفة التقنية بالإضافة إلى القدرة على التعبير عن الأفكار، وتولى القيادة، واثارة الحماسة بين الناس-هو الشخص الذي يسير باتجاه امتلاك القوة لجنى أعلى الأرباح". ومن اللافت مدى ارتباط كلمات "اكارنيجي" بظروفنا في الوقت الحالي.