خلال الأيام الأولى من رئاسته، لم يكن "كوليدج" وعائلته قد غادروا بعد جناحهم بالدور الثالث من فندق "ويلارد" في واشنطن. وفي ساعات الصباح الأولى استيقظ الرئيس ليرى لصاً متسلقاً يفتش في ملابسه ليأخذ حافظة نقوده وسلسلة الساعة. فتحدث "كوليدج" قائلاً: "إنني تمنيت أن لو لم تأخذ هذه...لا أعني الساعة والسلسلة، بل أعني الحلية الصغيرة فقط. اقرأ ما كتب على خلفيتها".

    قرأ اللص عبارة تقول: "إهداء إلى "كالفين كوليدج"، رئيس مجلس النواب، من المحكمة العامة بولاية ماساتشوستس ".

    ثم عرف "كوليدج" نفسه بأنه الرئيس، وأقنع اللص بأن يتخلى عن حلية الساعة، وقاده إلى حوار هادئ، فاكتشف أن الشاب وزميله في الغرفة غير قادرين على دفع فاتورة الفندق وشراء تذاكر القطار للعودة إلى جامعتهما، فقدم ٣٢ دولاراً من حافظة نقوده ( التي تركها اللص الشاب أيضاً) ، للشاب واعتبرها ديناً عليه، ونصح الطالب الشاب بأنه لكى يتجنب عملية القبض عليه من خلال الشرطة السرية، فإن عليه أن يغادر من حيث أتى.

    إن لفت الانتباه بشكل غير مباشر باتجاه أخطاء أي شخص أو عثراته يمثل طريقة تصنع المعجزات مع الأشخاص الذين قد يسخطون من أي نقد مباشر - وهذا ينطبق على معظم الناس.

    والقادة من جميع الأنماط تتاح لهم وسيلة رائعة لإرسال رسالة غير مباشرة خفية عن أي سلوك يحاولون تشجيعه، ولذلك عليهم ببساطة أن يتبعوا هذا السلوك بأنفسهم أولاً. وإن لم يفعلوا، فإن الرسالة التي ستصل لمن حولهم ستكون واضحة ورنانة: "إنني أخبركم بأنني أريد منكم التصرف على هذا النحو، ولكن هذا ليس مهماً في حقيقة الأمر. ولوكان كذلك، لفعلته أنا أولا".

    هذا المفهوم هو مبدأ القيادة الثالث عشر لدى "جون ماكسويل"؛ في كتابه الكلاسيكي 21 قانوناً لا بقبل الجدل في القيادة . وقد أطلق عليه اسم "قانون الصورة"؛ حيث إن الناس يفعلون ما يرونه. وقد روى قصة القائد "ديك وينترز" قائد فصيلة "إيزى كومبانى" خلال الحرب العالمية الثانية. لقد كان "وينترز" يؤمن بأن مسئولية القائد هي أن يتقدم هو أولاً، وأن يكون قدوة لمن حوله، ويقود الجماعة، وأن يتحمل المخاطرة بجوار رجاله.

    أحد أبرز المواقف التي أبرزت منهج "وينترز" في القيادة من خلال القدوة حدث مباشرة بعد يوم واحد من الإرساء في "نورماندى" على الطريق إلى "كارينتان"، وهي البلدة التي كانت فرقة "إيزى كومبانى" بحاجة إلى استردادها من الألمان. فمع اقتراب قوات المظلات الأمريكية التي يقودها من المدينة، وقعت تحت نيران المدافع الآلية الألمانية. برعان ما احتشدوا متخندقين على جانبي الطريق، ولم يتحركوا للأمام حين أمروا بذلك. ولكنهم إذا لم ينفذوا الأوامر ويتحركوا ستنتهي بهم الحال إلى تمزيقهم إرباً. ولقد حاول "وينترز" أن يلم شملهم، فأقنعهم وحفزهم وجرى من خندق إلى آخر ورصاص المدافع الرشاشة ينهمر من حوك. وفي النهاية، قفز وسط الطريق، والرصاص يمر بالقرب منه، وصاح بالرجال لكي يتقدموا. نهض الجميع وتحركوا قدماً للأمام وكأنهم شخص واحد. وساعدوا في استعادة المدينة.

    في بعض الأحيان لا يكون من الممكن التأثير في الناس من خلال القدوة، إما لأنك لست موجوداً مع الأشخاص الذين تحاول التأثير فيهم أو لأنك في الواقع لست منشغلا كلياً بما يفعلونه. فكيف نؤثر على السلوك إذن؟ إن مؤلفي كتاب Influencer يقدمون بعض النصائح السديدة فيما يخص مواقف مثل هذه:

  • حدد - في المجموعة أو الفريق أو العائلة أو حتى المجتمع - الأشخاص الذين يمتلكون أعظم التأثير وحفزهم على أن يصبحوا قدوة للسلوك الذي تريد تعزيزه.
  • طور توجهاً جماعياً نحو السلوك الذي ترغب فيه من خلال الدعوة إلى الصالح العام. ويلعب ضغط الأقران دوراً  كبيراً في التأثير على أفكار الأفراد وأفعالهم وتصرفاتهم.
  • اصنع أي تغييرات ممكنة للموارد المتاحة أو البيئة المحيطة بك حتى تجعل السلوك أو التوجه العقلي الجديد أمراً سهل الاتباع.

    في نهاية الحرب العالمية الثانية، كان الجنود يعودون من خطوط  القتال ويعاودون الدخول إلى سوق العمل. وفي هذه العملية، كانوا يأخذون مواقع النساء اللاتي تقدمن وملأن كثيراً من المواقع والمناصب في غيابهم. وهناك 'كثير من النساء فضلن البقاء في العمل، وهوما خلق عداء بين الجنسين في مكان العمل، ولكنه أيضاً أنتج رؤية جديدة للدور الذي يمكن للنساء أن يلعبنه في الاقتصاد الأمريكي.

    وكانت المطاعم في أنحاء البلاد تواجه صراعاً خاصًا، فالجنود العائدون حصلوا على وظائف للعمل كطهاة. والنساء اللواتي كن يشغلن هذه المواقع خفضت رواتبهن ليعملن نادلات، وهي وظيفة بآجر أقل. والنتيجة: وجود علاقة عدائية بين الطهاة والنادلات في بيئة عمل يكون فيها التعاون أمراً لازماً. فعانى الجميع، بما في ذلك الزبائن الذين كانوا يتلقون طلباتهم متأخرة أو مغلوطة. وكان الموظفون يتركون العمل وكانت المطاعم تفقد روادها٠

    ولذا، فقد استعانت جمعية المطاعم الوطنية بـ "وليام فوت وايت"- وهو أستاذ بجامعة شيكاغو- لحل هذه المشكلة٠ وقد 'لاحظ النشاط في عينة ,من المطاعم، .وجعل يراقب الطهاة والنادلات وهم يتبادلون السباب والشتائم، ويتجاهلون بعضهم بعضاً، ويتعاملون بعدائية (على حساب الزبون).

    يوضح المؤلفون قائلين: "في الوقت الذي قد يندفع فيه بعض المستشارين الى تغيير هذا المناخ الاجتماعي  غير الصحي من خلال تعليم مهارات التعامل الشخصي، أو إجراء تدريبات بناء الفرق، أو تغيير نظام الأجور، فإن "وايت" اتخذ منهجاً مغايرا.  ففي وجهة نظره، إن أفضل طريق لحل المشكلة هو تغيير الطريقة التي يتواصل بها الموظفون فيما بينهم".

    ومن خلال العمل مع مطعم تجريبي، أوصى "وايت" العاملين باستخدام محور معدني بسيط لوضع الطلبات في المطبخ على أن تضع النادلات طلبات الطعام على المحور ويقوم الطهاة بإعدادها على أحسن حال، مع الحرص على إعطاء الأولوية بحسب ترتيب وصول الطلبات.

    وكانت النتائج ثورية: قل الصراع، وقلت شكاوى العملاء، وأصبح التواصل والسلوك أفضل حالاً من الجانبين.

    في بعض الأحيان تكون أفضل طريقة لتصحيح السلوك الخاطئ هي ألا تعاقب عليه بشكل مباشر وإنما تستخدم الموقف كنقطة انطلاق ليناء الثقة الذاتية والتواصل بشكل أكثر عمقاً. كان "بوب هوفر" - طيار تجريبي شهير وعارض بمعارض الطيران - على متن الطائرة عائداً إلى منزله في لوس أنجلوس بعد عرض جوى في سان دييجو. وعلى بعد 300قدم في الجو، توقف محركا الطائرة فجأة. ومن خلال إجرائه مناورات رائعة، تمكن من الهبوط وأنقذ نفسه واثنين كانا معه على الطائرة؛ ولكن الطائرة تضررت بشدة.

    كان أول ما قام به "هوفر"بعد هذا الهبوط الاضطراري هو فحص وقود الطائرة. وكما دار في ذهنه تماماً، فالطائرة المروحية التي تعود للحرب العالمية الثانية كانت قد زودت بوقود نفاث ولم تزود بالجازولين. وبمجرد عودته إلى المطار، طلب أن يقابل الميكانيكي الذي قام بخدمة طائرته وإعدادها. كان الفني الشاب مرتاعا من خطئه. وسالت الدمع على وجهه بينما كان "هوفر" يقترب منه. لقد تسبب لتوه في خسارة طائرة باهظة الثمن وكاد يتسبب في فقدان ثلاث أرواح.

    ويمكنك أن نتخيل الغضب الشديد الذي كان ينتاب "هوفر". ويمكنك أن تتصور حجم الهجوم اللفظي الذي قد يشنه هذا الطيار الفخور بحاله والماهر على هذه اللامبالاة. ولكن "هوفر" لم يوبخ الميكانيكي؛ بل إنه حتى لم ينتقد إهماله. وبدلاً من ذلك، وضع ذراعه الضخمة على كتف الشاب وقال له: "حتى أظهر لك أنى على يقين من أنك لن تفعلها ثانية، أريد منك أن تكون في خدمة طائرتى إف ٥١ غدا".

    في حياتنا، ربما تكون الأخطاء في بعض الأحيان منتجاً ثانوياً للظروف المخففة. فنحن لا نفشل في عملنا دائماً لعدم الكفاءة، ولكننا قد نفشل لأن عقولنا وقلوبنا غير مشغولة بالعمل نتيجة لمشاكل في البيت أو غيره. ويفهم القائد أن الأخطاء ومواقف الفشل تبرز من كل زوايا الحياة، ولذا ينبغى أن يتم التعامل معها باعتبارها مجرد مواقف منفصلة وقابلة للرتق وليست أخطاء قاتلة ومستمرة على الدوام.

    وفي عصرزاد فيه شك القادة من أساليب القيادة غير الأصلية، فإن من الأفضل مواجهة الأخطاء بصدق وأمانة دون أن تستخدم كفرص للإدانة. وبالنسية للكثيرين، فإن المناهج العدائية السلبية أو المواجهات المراوغة مع القادة تحط من قيمة أى قائد وتدفعه للسخرية من حجم إسهامه في العمل أو حتى في المؤسسة التي يخدم فيها. فإن من مصلحتك أن تخرج الناس من حالة وهن العزيمة بأسرع قدر ممكن. افعل ذلك من خلال تناول أخطائهم بهدوء والعودة بهم إلى حالة من الثقة والقوة.