إن الينابيع الحارة كما ذكرنا، ليست إلا ظواهر ثانوية للبراكين، لكن البراكين ذاتها، ليست هي الأخرى إلا ظواهر ثانوية، فهي أعراض الأحداث أكثر أهمية منها.

وتلك الأحداث هي التي تحفظ القارات عالية والبحار منخفضة، وهي التي تبني باستمرار الجبال، وهي التي تعلنها حرباً دائمة على الأمطار والجليد والصقيع والرياح التي تعمل بصورة دائمة لكي تقصى وتقصر الجبال إلى مستوى البحر. تلك الأحداث هي القوة الخفية التي نسميها حركات القشرة الأرضية.

ونحن نشعر بهذه الحركات في صورة هزات تعتري الأرض تحت أقدامنا. وفي بعض الأحيان تكون الزلازل عنيفة، وفي أحيان أخرى لا تزيد قوتها عن هزات يسببها مرور إحدى السيارات الكبيرة المسرعة. وتهتز الأرض بكثرة في بعض المناطق، على حين لا تحدث هزات إلا في ندرة في مناطق أخرى.

ولكن المؤكد أن عدداً كبيراً من الهزات يحدث باستمرار، وقد يصل عددها في السنة الواحدة إلى 150.000 هزة يمكن الإحساس بها في الأماكن الآهلة.

وإذا أحصيناها جميعاً بما فيها أصغر الهزات، فقد يزيد عددها في السنة الواحدة على مليون هزة. وعلى ذلك فليس بالعجيب أن يصف بعض الناس الأرض بأنها مصابة بداء الهزات.

واهتزاز الأرض من الأمور التي تثير الفزع. فنحن نسلم بثبات الأرض، فإذا ما شعرنا بها نماز فجأة تحت أقدامنا، فإن ذلك يملأ قلوبنا بقلق عجيب حتى ولو لم يصحب ذلك ضرر ما. أما إذا قوضت الزلازل المباني من أساسها دون تحذير ودفنت الآلاف من البشر تحت أنقاضها، فإن ذلك يملأنا بالرعب.

والبركان، مهما كان من أمره، يمكن الفرار منه، فهو ينذر الناس قبل ثورانه. أما الزلازل فإنها لا تنذر الناس قبل وقوعها، ولا يمكن التنبؤ عما إذا كانت ستحدث بعد يوم أو شهر أو سنة. ولذلك فلا مفر منها. إنها تضرب ضربها فجأة. وبعد دقيقتين أو ثلاث دقائق يكون كل شيء قد انتهى، ليجد الإنسان نفسه وسط الخراب والدمار. ولذا بلغ عدد من فقدوا حياتهم بسبب الزلازل أضعاف أولئك الذين فقدوها بسبب ثوران البراكين.

ومع ذلك فيلوح أن الناس قد سئموا سماع أخبار الزلازل، ويلوح أن الصحف لا تحرص على إذاعة أخبارها وأهوالها. ولا يرجع ذلك إلى أن كوارث الزلازل قد قلت حدتها عما قبل، فالأمر ليس كذلك. إذ قد حدثت خلال الخمسين السنة الأخيرة زلازل تعد من شر ما حدث منها في التاريخ. ففي سنة 1908، أطاح زلزال مسينا في إيطاليا بحياة 50.000 شخص.

وفي عام ۱۹۲۰ قتل أحدها في الصين 100.000 شخص. وبلغ عدد الموتى في الزلزال الذي أصاب طوكيو ويوكاهاما باليابان عام ۱۹۲۳، 150 ألف شخص.

وحديثاً في سنة ۱۹۳۹ دفن تحت أنقاض إحدى المدن التركية 40.00 شخص.

وفي عام ۱۹۰۳ مات آلاف آخرون في نفس المنطقة.. وربما كان السبب في أن الناس قد فقدوا اهتمامهم بالزلازل راجعاً إلى أن كل زلزال منها يشبه الآخر إلى حد بعيد، وإن اختلفت في عدد ضحاياها الأمر الذي لم يعد يثيرنا. ولكن ماذا يحدث على وجه الدقة عند وقوع زلزال عنيف؟ ولماذا يموت كل هؤلاء الناس؟ وعلى من يقع اللوم في كثرة الضحايا؟

إن من الإنصاف أن نقول إن الخسارة التي تحدث لا تتسبب عن الزلازل وحدها، فنحن مسئولون عن جانب كبير من هذه الخسارة. حقيقة إننا لا نستطيع أن نفر من الزلازل، ولكن هناك أشياء كثيرة نستطيع أن نفعلها لنقلل أخطارها.

فإننا نعلم أنه ليس لموقع الزلزال أهمية، فسواء أكان موقعه في الصين، أم في شيلي، أم في إيطاليا، أم في اليابان، أم في تركيا، أم في نيوزيلندا، فإنها جميعاً تسلك مسلكاً متشابهاً. فجميعها تقريباً تبدأ بأصوات مختلطة خفيضة..

ثم يرتفع الصوت من لحظة إلى أخرى لدرجة تمكن الناس الذين بالقرب من المكان الذي سوف تقع فيه الهزات المقبلة وأكثرها خطورة من شماعة بوضوح ام. غير أن هذا الصوت لا يسمع قبل حدوث الزلزال نفسه بأكثر من نصف دقيقة، ولذلك فإنه لا يعد تحذيراً كافياً.

إذ ليس هناك وقت كاف غير أن غادر الإنسان بيته. وفي غالب الأحيان وبخاصة عندما يأتي الزلزال ليلا والناس ليام، لا يتسع الوقت حتى لهذا.

وفجأة بعد سماع الصوت تهتز الأرض. وفي بعض الأحيان يكون هنالك سلسلة من الاهتزازات من الخلف وإلى الأمام وبالعكس، وفي أحيان أخرى الشبه الاهتزازات حركة الأمواج، ويشعر الواقفون على الأرض كما لو كانوا اعتراهم دوار البحر، في حين أن الجدران تتهاوى من حولهم. وقد لا تستمر الهزات الأرضية أكثر من دقيقتين أو ثلاث. ومع ذلك فإن هذه الفترة الوجيزة من فترات الفزع والموت قد تكون كافية لدمار مدينة بأسرها.

والذي نريد أن نؤكده هنا هو أن هذه الكوارث كان ينبغي ألا تقع.

لجسامة الخراب تتوقف على نوع المباني في المدينة. فإذا كانت المباني قد أحسن تشييدها، وكانت متينة الأسقف والأرضيات كناطحات السحاب الممتازة الحديثة التي لها هياكل من الصلب، لقاومت الزلازل، ولأمن من بداخلها من الناس شرها.

 أما إذا كانت البيوت مبنية من الطوب أو الحجارة، وكانت الأسقف والأرضيات غير مثبتة إلى الجدران تثبيتاً متيناً، فإنها تتداعى كما لو كانت قد بنيت من الورق.

وحينئذ تجري أحداث مروعة وكأنها حلم مزعج كالكابوس، إذ لا يكاد الناجون من الناس يفيقون ويبدأون في إنقاذ أولئك الذين وقعوا تحت الأنقاض حتى تنشب الحرائق ويتصاعد الدخان في كل أنحاء المدينة، ولكن كيف السبيل إلى إخماد هذه الحرائق؟ فالشوارع ممتلئة بالأنقاض تتكدس فيها الأخشاب والطوب والحجارة في أكوام عالية ترتفع لعدة أقدام، وآلات إطفاء الحريق غالباً ما تكون قد دفنت أو كسرت.

وحتى إذا ما سلمت فإنه لا يمكن مرورها في الشوارع، وخاصة إذا كانت المدينة قديمة ذات أزقة وطرق ضيقة.. وعلى أي حال فلن يكون هنالك إلا كمية ضئيلة جدا من الماء اللازم الإطفاء الحريق. ذلك لأن أنابيب المياه التي تحت الأرض وفوقها تكون قد التوت وانفصلت بعضها عن بعض مما يتسبب عنه انعدام ضغط الماء فلا تمتلئ الخراطيم، فتلتهم النار المدينة بيتاً بعد آخر وشارعاً بعد شارع، فليس هنالك ما يوقفها.

وقد يصبح نصف المدينة أو ثلاثة أرباعها أطلالا، بل تدمر المدينة كلها في بعض الأحيان. هذه هي المصائب التي تنتج عن الزلازل وهي تنتج عن أي زلزال آخر يصيب أية مدينة كبيرة. ولكن قد يحدث في بعض الأحيان ما يزيد على ذلك من أهوال.

في مدينة مسينا مثلا وهي تقع على البحر، حدث بعد مرور دقائق قليلة من وقوع الزلزال أن انحسر الماء عن الشاطئ بعيداً في عرض البحر، ثم عاد فجأة على صورة موجة عاتية اكتسحت كل شيء في طريقها، فغطت الجدران التي كان يزيد ارتفاعها على ست وعشرين قدماً فوق سطح الشاطئ، بل إنه ذهبت إلى أبعد من مسينا ذاتها، فأغرقت القرى التي كانت تبعد عن مركز الهزة بمسافة كبيرة رغم أنها لم تصب بأي أضرار من الهزة نفسها.

وفي طوكيو حدث ما هو أكثر إثارة للدهشة، فقد دمرت المدينة واحترقت وشبت النار في 134 مكاناً في مدى نصف ساعة من بدء الهزة. وكان الناس يفرون من كل حدب وصوب بالمدينة. ولجأ آلاف منهم إلى قطعة مكشوفة من الأرض على ضفة النهر، وتكدس المكان بالناس وأمتعتهم حتى تعذرت حركتهم فيه. ثم أطبقت النار عليهم من ثلاث جهات، وتساقط الشرر عليهم كأنه.

وابل من السماء، وخنقهم الأبخرة الخانقة. وفجأة سمع الناس صوتاً يرتفع فوق جميع الأصوات الأخرى، وأظلمت السماء وشاهد الناس إعصاره مخروطيا أسود كبير يقترب منهم. وكان الإعصار يميل يمنة ويسرة، ويحمل الشرر ويضرم النار في كل شيء في طريقه. وعندما انتهى مرور الإعصار كانت الجثث المتفحمة الخمسة وثلاثين ألف شخص تغطى الأرض.

حقا إنه ليس من الممكن تجنب أخطار الموج العظيم والإعصار الهائل، فذلك ما لا يستطيع أحد أن يعتصم منه، ولكن كثيراً من الموت والخراب الذي تسببه الزلازل يمكن تجنبه. ففي مسينا كان الناس وحدهم - وليست الطبيعة - هم السبب في تحويل أغلب المنازل إلى أكوام من الأنقاض.

إذ لم يكن هنالك ما يدعو أن يدفن مراراً خمسة عشر شخصاً أو ما يزيد بعضهم فوق بعض في حجرة واحدة صغيرة في الطابق الأرضي. ولقد تعرف أحد العلماء اليابانيين، وكان قد أرسل إلى المدينة التي دمرت لكشف أسباب الخسارة الكبيرة في الأرواح، على الأخطاء التي ينبغي أن يتجنبها الناس عند تشييد المدن.

لقد سجل هذا العالم أن مسينا وقعت في جميع هذه الأخطاء. فكثير من المنازل قد بنيت من حصى النهر، أو من الطوب الذي لم تبذل عناية كبيرة في اختيار ملاطه "مواده اللاصقة" وأقام الناس جدراناً بالغة الارتفاع أو قليلة السمك بالنسبة لارتفاعها، ولم يحسنوا تثبيت الأسقف والأرضيات بالجدران، حتى إنه في بعض الحالات التي بقيت الجدران فيها قائمة تداعت الأسقف.

وبني الناس أبراجاً ومبان مرتفعة إلى جوار مبان أخرى منخفضة، فعندما سقطت المباني العالية دمرت ما جاورها، وجعل الناس شوارع مسينا من الضيق بحيث أغلقتها أكوام الأنقاض إغلاقاً.

ولندع الآن الإنسان وأعماله جانباً لبرهة من الزمان لنرى ماذا يحدث لسطح الأرض ذاتها، فإننا نجد - كما ذكرنا - أن الهزات الأرضية ليست إلا نتيجة السبب آخر. إنها ذبذبة تنجم عن الحركة المفاجئة للصخور الموجودة في قشرة الأرض أو بالقرب منها. فاذا نستطيع أن نراه من نتائج هذه الحركة؟ وماذا يحدث للسطح عندما تتحرك الصخور فجأة؟

هنالك شيء واحد هو الذي نعرف أنه لا يحدث، ذلك أن الأرض لا تتثاءب، كما كان يزعم بعض رواة القصص. إنها لا تفغر فاها لكي تبتلع قرى بأكملها ثم تعود فتغلقه. حقيقة قد يحدث في بعض الأحيان أن يظهر في الأرض شق يتسع لابتلاع رجل بجواده، ولكن هذا الأمر نادر الحدوث.

إن القوى التي تسبب انكسار الصخور تعتبر من القوى الضاغطة، وليست من النوع الناتج عن الشد، فهي بذلك لا تستطيع أن تفصل بعض الصخور عن بعضها، ولكنها تدفعها بعضها ضد بعض، وعندما يتشي سطحها إلى أعلى، فمن الممكن أن تنشق.

وقد تكون الحركة على السطح جانبية، أو علوية، أو سفلية. ويمكننا أن نتبع حركة القشرة الأرضية بوضوح بعد حدوث زلزال عنيف، ونستطيع أن | نرى الخط الذي امتدت الحركة على طوله. وفي بعض الأحيان، نستطيع أن | نرى تغيرات أخرى في القشرة: فالحبال قد تميل أو تتحرك فعلا إلى أعلى التزداد ارتفاعاً، والحروف قد تتصدع ونهوى، والمنحدرات قد تنزلق لتدفن قرى بأكملها، والقباب قد ترتفع، والشقوق قد تنفتح، كما أن عودة الأرض الحالة التوازن قد تسبب انبثاق عيون من الماء ونشأة فوهات صغيرة تخرج منه | الرمال.

وفي بعض الأحيان تعقب الزلزال تغيرات بالغة في تضاريس الأرض.

ومن حسن الحظ أن معظم هذه التغيرات تحدث تحت سطح البحر. ففي نوفمبر سنة ۱۹۲۹ حدث زلزال تحت سطح الأطلسي، يعد من أعظم الزلازل في العصور الحديثة، وكان يقع على مسافة تبلغ نحو ۸۰۰ ميل من مدينة نيويورك، وقد حدد زمن هذا الزلزال ومكانه ومركز الحركة فيه بكل دقة. ويرجع هذا التحديد إلى أن ۱۲ من "الكابلات" الممتدة على قاع المحيط الأطلسي قد انكسرت فجأة.  

وقد دلت طريقة انكسارها على أن الدعامة التي تسندها من أسفل وهي قاع البحر قد هوت فجأة، لأن كل واحد من هذه الكابلات كسر في عدة أماكن، وبعض هذه الانكسارات كان يفصلها بعضها عن بعض ۱۰۰ ميلا.

وكان من الواضح أنها قد تعرضت لقوة شد عندما هوى القاع من تحتها، فانكسرت نتيجة لثقلها. وتوصل العلماء في النهاية إلى أن قاع المحيط قد هبط بمقدار ۲۰ قدماً.

ولما كانت معظم الزلازل تقع تحت سطح البحر، فإنا لا نستطيع إلا في أحوال قليلة أن نعرف ماذا يحدث للقشرة عندما تزلزل الأرض، ومع ذلك فإننا نستطيع غالباً أن نشعر بنتائج هذه التغيرات التي تحدث تحت سطح البحر بسبب ما تثيره من الأمواج العظيمة.

وقد اعتدنا أن نسمي هذه الأمواج بأمواج المد والجزر، ولكننا نعلم الآن أنه لا يوجد لهذه الأمواج علاقة بهما، ولذلك نطلق عليها الاسم الياباني تسونامي. وهذه الموجات لا تنشأ دائماً عن الزلازل، فقد يكون سببها البراكين التي تحدث تحت الماء. فعندما انفجر بركان كراكاتوا، كما تذكر، أحدث موجة من هذا النوع.

ولكن معظم هذه الموجات تتسبب من الزلازل، ويقال إنها تنتقل بسرعة مذهلة تبلغ مئات الأميال في الساعة، ولا ينجم عنها ضرر ما دامت في عرض | البحر، والواقع أن السفن قد لا تشعر بالمرة بأنها تركب هذه الأمواج.

ولا تصير هذه الأمواج ذات خطر إلا عندما تصل إلى الأرض. فعندما تقترب الموجة من | الشاطئ تحمل الماء والسفن بعيداً عنه، ثم تعود بها ثانية في عنف إليه. وفي كثير من الأحيان يندفع الماء إلى مسافات بعيدة فوق الأرض ليترك السفن فوقها لا حول لها ولا قوة عند انحساره. وفي نفس الوقت يدمر الماء كل ما يصادفه، وقد يلحق بالناس ويدفع بهم إلى مسافات بعيدة إلى المرتفعات بعيداً عن الشاطئ.

وأعجب ما في الأمر هو أن الخسارة التي تنجم عن هذه الموجات تقع في أماكن بعيدة كل البعد عن أماكن نشأتها. وهي تسير مئات بل آلاف الأميال. فالموجة التي نشأت عن الزلزال الذي قطع أسلاك الكابلات في الأطلسي دمرت السفن في نيوفوندلاند حيث لم يشعر الناس بالزلزال كلية.

وحديثاً اكتسحت موجات ارتفاعها 15 قدماً شواطئ جزر هاواي، فقتلت الناس واكتسحت السفن والمنازل، ومع ذلك فقد كانت هذه الموجات نتيجة لزلزال حدث قرب جزر أليوشن.