نظرة المجتمع إلى مرضى

الأمراض المنقولة جنسيا

 

   سادت ولا تزال تسود المجتمعات نظرة تتسم بالاستنكار والازدراء إزاء المصابين بالأمراض المنقولة جنسيا، واعتبرهم المجتمع بكل طوائفه ( بما في ذلك الأطباء ) بشرا موصومين بالعار ، لم تكن لتصيبهم تلك الأمراض لو أنهم مارسوا ضبط الغرائز وامتنعوا عن السلوكيات  المعوجة ، كما اعتقد البعض أن تلك الأمراض عقاب السماء لمن لم يلتزم بشرائعها وعليه فإن رعاية أو علاج تلك الأمراض يعتبر ضربا من ضروب الوقوف في وجه عدالة السماء ،وأغفلوا النظر عمن أصيب بمحض الصدفة مثل العدوى التي تنتقل من زوج مصاب لزوجة لم ترتكب إثما ، أو انتقالها من امرأة إلى وليدها ، أو للإصابة نتيجة نقل دم ملوث، اكتفت المجتمعات بالتعميم على تلك الأمراض وعدم مناقشة مشاكلها أو حتى السماح بذكر اسمها في وسائل الإعلام بل وقفت في وجه المشروعات التي تهتم بمكافحة " أ. م. ج" لمجرد أن التثقيف الجنسي جزء من مكونات المشروع.

وعلى سبيل المثال تحضرني قصة حدثت في الولايات المتحدة لو قيّمت في ظل السائد حاليًا من الأفكار عن أهمية التثقيف الجنسي في مكافحة" أ. م. ج" لعُدت من علامات التخلف الفكري الشائن. ففي عام 1908 قام بعض أطباء الصحة الوقائية التابعين لمصلحة الصحة بالولايات المتحدة بإعداد نشرة تتضمن أعراض وعلامات وأسلوب العدوى وطرق الوقاية من مرض الزهري لتوزيعها على البحارة التجاريين وهم من المجموعات الأكثر تعرضًا للإصابة بالمرض نتيجة طول السفر وانتشار البغاء في الموانئ، وكان الهدف من النشرة مساعدتهم على تجنب الإصابة بالمرض، وعندما رفعت المذكرة إلى الوزير المختص منع تداول النشرة وأشر عليها بالتأشيرة التالية:"

المادة التي تناقشها النشرة لا تتفق وكرامة الحكومة الأمريكية ويُمنع تداولها " وتعكس تأشيرة الوزير النظرة المحافظة للمؤسسات الحكومية في هذا الصدد.

 

سلكت بعض المؤسسات غير الحكومية أيضًا مسلكا مشابها عندما امتنع رجال البريد في إحدى الولايات الأمريكية عن توزيع إحدى الجرائد لنشرها موضوعا عن مرض الزهري في أحد أمدتها كان عنوانه: " ماذا يجب أن تعرف كل فتاة؟" بغرض تحذير الفتيات من الارتباط بمريض بهذا المرض. واستند رجال البريد في امتناعهم عن التوزيع إلى قانون قديم صدر عام 1873 (قانون كومستوك) يمنع أن يقوم البريد بتوزيع الرسائل متى كانت تحتوي على مواضيع فاسقة أو قذرة أو مثيرة للشهوة.

وإذا كان ذلك هو الحال في أوائل القرن العشرين فلا بد من أنه كان أسوأ خلال العصور الوسطى وعصور الظلام الثقافي. اعتبر الرأي العام في العصور الوسطى الدعارة ومن يمارسها أُس البلاء والمصدر الأوحد لتلك الأمراض، وكانت السلطات تقوم بإصدار القوانين تلو القوانين لمنع الممارسات الدعارية وتجريمها وكانت تحكم بالنفي على من يضبط وهو يرد أماكن الفسق أو يوصم وجهه بالنار حتى تكون علامة تبقى معه إلى نهاية العمر.

 

    عوقت التوجهات السلبية إزاء مناقشة السلوك الجنسي والأمراض المنقولة جنسيا مناقشة حرة علمية الجهود المبذولة لنشر الثقافة العلمية الصحيحة المتعلقة بتلك الموضوعات بين الجماهير، مما أثر بدوره على برامج مكافحة انتشار أ. م. ج، التي استمرت في الانتشار منذ الأربعينيات بالرغم من توفر الأدوية الفعالة. وهنا تبين للمهتمين بالمكافحة بصورة واضحة أن المشكلة مركبة وتحتاج لوسائل أخرى أكثر من مجرد توفير الدواء، واتجهت لطرق أخرى للمكافحة تكمل بعضها البعض تعتمد على دراسة السلوك الجنسي البشري وأنثروبولوجيا المجموعات البشرية والاختلافات الثقافية بينها وأثر كل تلك العوامل على الحلول التي تهدف إلى السيطرة على انتشار "أ. م. ج".

     وقد جربت البشرية وسائل مختلفة لمكافحة أ. م. ج منذ أن اكتشفت في القرن السادس عشر أن الاتصال الجنسي هو وسيلة انتقال الزهري وأن هناك أمراضا أخرى تنتقل بنفس الطريقة. وكان الفكر السائد وقتذاك يعتقد بأن الدعارة محور القضية، واعتقدت أن القضاء عليها سوف يحل المشكلة من جذورها. اختلفت المجتمعات حول حلول مشكلة الدعارة وإن اتفقوا على أنها المصدر الرئيسي الذي يبدأ من الانتشار وجربوا منعها بإصدار القوانين المشددة العقوبة واتخاذ الإجراءات البوليسية التي تصل إلى الاعتقال الجماعي للمومسات (كما فعلت الولايات المتحدة خلال الحرب العالمية الأولى)، وبين السماح بالدعارة المقننة مع إجراء فحوص طبية دورية للمومسات لاستبعاد كل من تثبت إصابتها لحين شفائها كما كان الحال في فرنسا خلال نفس الفترة، ولم تسفر أي من السياستين المنع والسماح المقنن عن نتائج إيجابية بل على العكس زاد انتشار أ. م. ج بين القوات المحاربة بسبب استمرار الدعارة السرية التي برعت في التخفي و الإبعاد عن أعين السلطات بنقل نشاطها إلى مكان أخر بحيث لا تتعرف عليها سلطات البوليس المحلي، كما لجأت اللواتي أبعدن عن العمل لمرضهن لأساليب أخرى للتخفي ؙتمكنهن من الاستمرار في العمل. وخلال الحرب العالمية الثانية كانت السلطات الصحية قد استوعبت دروس الحرب العالمية الأولى فاتجهت إلى طرق أكثر واقعية تقوم على التثقيف الصحي للجنود وبيان وسائل الوقاية من الإصابة بل تزويدهم بمجموعة من وسائل الوقاية تصرف لهم مع تصريح الإجازة.

    خلال العصور المختلفة اعتمدت المجتمعات الوعظ والإرشاد طريقة مثلى للسيطرة على "أ. م. ج" ولم تترك وسيلة ابتداء من الكتب والمقالات ودور العبادة إلا وأكدوا من خلالها فوائد الاستمساك بالفضيلة والطهر واعتبار الغريزة الجنسية وسيلة للإنجاب لا للمتعة الوقتية، ولعل أسلوب الوعظ كان أقل الوسائل تأثيرا في الحد من انتشار "أ. م. ج" بسبب تجاهله للحقائق العلمية للسلوك الجنسي البشري، كما تجاهلت أيضا حقيقة أن المهتمين بحضور الصلوات و الوعظ أو بقراءة ما يكتب عن الفضيلة هم أساسا من الملتزمين الذين لا تنتش بينهم تلك المجموعة من الأمراض، كما تناست التكوين السيكولوجي والثقافي للفئات الأكثر عرضة للإصابة بالـ "أ. م. ج".

 

خطط المكافحة قديما وحديثا

    بعد اكتشاف البنسلين انخفضت أعداد المصابين بصورة ملحوظة خلال عقدين من الزمان ثم أخذت بعد ذلك بالازدياد، ونبه ذلك الباحثين إلى عدم جدوى الاعتماد على العلاج الطبي وسيلة وحيدة لمكافحة ومنع انتشار "أ. م. ج" مهما كانت فاعليته، فبدأوا في استكشاف أنجح الطرق وأكفأها وأسرعها في محاصرة "أ. م. ج"، وروعي في تصميم تلك البحوث استبعاد جميع العوامل التي قد تؤثر في صدق نتائجها. وكان لظهور الإيدز وانتشاره وما صاحب ذلك ضجة إعلامية أثر فعال في زيادة الاهتمام بالأمراض المنقولة جنسيا. وقد ساعد على إجراء البحوث المذكورة التمويل السخي الذي قدمته الحكومات المختلفة (بعد أن كانت سياستها تجاه "أ. م. ج" تتسم بالإهمال والشح) وتكونت الجمعيات غير الحكومية لتشارك في توفير التمويل، كما لعبت المؤسسات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية دورا محوريا في التخطيط والتنسيق بين المهتمين فعقدت المؤتمرات العلمية ومولت البحوث بسخاء فكان العائد العلمي عظيما. وجاءت نتائج البحوث لتؤكد أن برامج المكافحة لابد وأن تشمل عدة أوجه يكمل بعضها البعض وأن التركيز على أسلوب واحد مآله الفشل، فلا بد أن يصاحب العلاج الدوائي استراتيجيات تكفل عدم انقطاع المرضى عن العلاج والمتابعة، كذا عقد جلسات المشورة بين الطبيب و المرضى يحدثهم فيها الطبيب عن مرضهم ويزودهم بالمعلومات الصحيحة اللازمة عن السلوك الذي يجب اتباعه لمنع انتشار العدوى للآخرين وكيفية حماية أنفسهم مستقبلا، ويحاول إقناع لمصاب بإحضار الأشخاص الذين اتصل بهم جنسيا خلال الفترة السابقة للفحص والعلاج (سياسة أو أسلوب تتبع المخالطين) و التعرف على الحالة المزاجية للمريض بما يساعد على فهم الظروف التي تدفعه للسلوكيات التي تؤدي إلى الإصابة بعدوى جديدة أ على نقل العدوى لمخالطيه. وتحتاج جلسات المشورة إلى تدريب طويل واتساع أفق وثقافة للقائمين بها، ويتطلب تدريب تلك الكوادر استثمارات كبيرة ولكنها بلا شك تؤتي ثمارها.

    إلى جانب الرعاية الطبية بشقيها (تيسير الحصول على العلاج الدوائي وأسلوب المشورة) تلعب برامج التثقيف الطبي للجماهير دورا لا يستهان به ويتم عن طريقها يكوين رأي عام عن أساليب الوقاية وأماكن تقديم الخدمات وكيفية الحصول عليها كذا عن طريق تجنب السلوكيات الخطرة التي تؤدي إلى اكتساب المرض ونشره بين الآخرين وأهمية العلاج المبكر. الخ.

           وينبغي أن يبتعد التثقيف الصحي عن أساليب الوعظ والترهيب، وأن يتسم بالمصارحة والشفافية والقدرة على مناقشة الكثير من الموضوعات المحرجة والتي جرى العرف الاجتماعي ألا تذكر في مناقشة عامة أو الميديا (وسائل الإعلام)، كما يجب أن تدرج مواضيع الجنس في مقررات المدارس الجامعات لتكون مصدرا بديلا للمعلومات الخاطئة التي يكتسبها الصغار والشباب من أقرانهم؛ كذا تشجيع الآباء والأبناء على مناقشة موضوعات الجنس داخل نطاق الأسرة بأسلوب تربوي صحيح يكفل انتشار المعلومات العلمية بين أفراد المجتمع. كما يجب مراعاة مناسبة أسلوب العرض والاقتراب من مشكلة الفئة الثقافية الاجتماعية المستهدفة، وبالطبع سوف يختلف أسلوب عرض المعلومات والاقتراب من لموضوع إذا كان المتلقون مجموعة من طلاب الجامعة أو مجموعة من العاملين بالفنادق أو العمال في مصنع أو من يمتهنون الدعارة. ويجب اللجوء إلى جميع الوسائل المتاحة لنشر الثقافة الصحية الجنسية شاملة البرامج التلفزيونية الحوارية والمسلسلات والجرائد والمسرح والفن التشكيلي والسينما والبرامج العلمية كما يجب أن تستخدم كل وسيلة من تلك الوسائل لتوصيل الجزئية المعلوماتية التي يمكنها نقلها بكفاءة، فتتكامل الجزئيات فيما بينها حتى تصل بالمتلقي إلى الاقتناع التام بما يوجه إليه، فيتبنى المعلومة وينفذها وينشرها بدوره. تحتاج برامج التثقيف الصحي إلى تضافر جهود العديد من المتخصصين في الطب وتخصصات أخرى مثل علم الاجتماع وعلم النفس التربوي والإعلامي والفن يعملون سويا كفريق متناغم يترجم الأهداف إلى استراتيجيات فعالة تؤدي الأغراض المنشودة. وأود أن أؤكد على كلمة "فعالة" فكم من استراتيجيات تبنتها السلطات الصحية في الماضي لم تؤت ثمارها، وكان ذلك بسبب عدم ترجمة الهدف العام وهو الحد من انتشار "أ. م. ج" إلى أهداف تحتية تعالج الأوجه المختلفة للمشكلة بواسطة فريق عمل يمثل جميع الاتجاهات.

      وكان التركيز على عامل واحد سببا في فشل الاستراتيجيات التي طبقت في الماضي، فعندما اتخذت الولايات المتحدة قرارها بالاشتراك في الحرب العامية الأولى عام 1915 وبدأت في الاستعداد كانت مشكلة انتشار ((أ. م. ج)) بين الجنود أحد الأمور التي أولتها اهتماماً خاصاً حتى لا تؤثر الإصابة بها على القدرات القتالية للجنود ، وقد تبنت السلطات الأمريكية آنذاك استراتيجية الوعظ و أخذت تحت الجنود على الالتزام بالفضيلة و الابتعاد عن معاشرة الساقطات ، و أصدرت الأوامر المشددة بعقاب أي جندي يضبط في مكان قريب من الأحياء المشبوهة التي توجد بها بيوت الدعارة ، و الملاهي الليلية و الحانات . كما ركزت أيضا إلى جانب شرح مزايا التمسك بالفضيلة للإنسان على الحط من قيمة الإنسان الذي لا يستطيع السيطرة على غرائزه وأن ذلك يضعه في مرتبة أقرب للحيوان ناسين أن الحيوان أرقى من البشر فيما يتعلق بالجنس، حيث لا يمارس الجنس سوى في موسم التزاوج ولا يمارسه مع مثله (ذكر مع ذكر أو أنثى مع أنثى). استمرت حملات التوعية داخل معسكرات الإعداد والتدريب بالولايات المتحدة. وكما هي العادة منذ بدء التاريخ تتجمع حول المعسكرات والملاهي والمطاعم والمحلات التجارية وكل ما قد يحتاجه الجنود للترفيه؛ و بالطبع أيضا العاهرات أو "متمهنات الجنس التجاري" حسب التعبير المحبب لدى الغرب الآن، وسرعان ما تكونت البؤر حول المعسكرات منتج عن ذلك ظهور حالات قليلة من الزهري والسيلان في البداية سرعان ما زادت بشكل وبائي؛ ولمواجهة الموقف الجديد الذي كشف عن عدم نجاح التوعية والوعظ في الوقاية اتفق الرأي على اتباع الأساليب البوليسية مع المصادر المحتملة للعدوى، فقاموا باعتقال المومسات وعزلهن وإغلاق الأماكن المشبوهة، ولم تفلح تلك الإجراءات في معالجة الموقف الذي استمر في التدهور ليؤكد عدم فاعلية الحلول المبنية على التصدي لعامل واحد في السيطرة على الأوبئة المنقولة جنسيا واستكشاف حلول مختلفة.