الخصائص الوبائية للأمراض المنقولة جنسيا

   يعرف الوباء بأنه "انتشار مرض ما بصورة كبيرة خلال فترة زمنية قصيرة".

   تتباين طرق انتقال العدوى وانتشارها في الأمراض المعدية المختلفة، فمنها ما ينتقل عن طريق المسالك التنفسية باستنشاق رذاذ يحتوي على الميكروب المسبب حيث يخرج الرذاذ المحمل بالمكروب من المريض خلال التنفس والعطس والكحة مثل أمراض الأنفلونزا والحصبة والجديري المائي والجذام والالتهاب الرئوي. ومنها ما ينتقل عن طريق الطعام والشراب فينتج عنها أمراض معوية مثل الكوليرا والالتهاب الكبدي الوبائي "أ" والدوسنتاريا والتسمم الغذائي. وللميكروبات التي تنتقل بإحدى الطريقتين السابقتين القدرة على مقاومة الظروف خارج الجسم لفترات وإن تكن محدودة نوعا ما ولكنها كافية لأن يعيش الميكروب حتى يصادف عائلا آخر ليدخل جسمه ويتكاثر.

   وهناك من مسببات الأمراض ما يتحوصل ويحيط نفسه بغلاف مقاوم للحرارة (حتى درجة 120 مئوية في بعضها) والجفاف؛ وبذلك يستطيع البقاء على قيد الحياة لمدد طويلة قد تصل إلى سنوا وحين توفر الظروف المناسبة لتكاثره يترك حَوْصلته ويعيد دورة حياته مثل ميكروب التيتانوس والجمرة الخبيثة والغرغرينة الغازية. ومن الأمراض ما يحتاج إلى عائل وسيط ولا ينتقل مباشرة من مريض لآخر مثل الملاريا (بعوضة الأنوفوليس) والليشمانيا (بعوضة الرمل) والطاعون (برغوث الفأر) والتيفوس (قمل الجسم) فيعتمد حدوث الوباء على مدى انتشار العائل الوسيط.

   ويبقى الاتصال الجنسي وسيلة انتقال الميكروبات المرهفة. والقاسم المشترك الأعظم بين مسببات مجموعة أ. م. ج هو خاصية الضعف الشديد خارج الجسم وعدم القدرة على البقاء بدون عائل لساعات قليلة وربما أيضا لدقائق قليلة كما أن المطهرات البسيطة تدمرها وهي شديدة التأثر بتغير درجة الحرارة أو الحموضة ولا تتحمل الجفاف؛ ولذا كان لزاما أن تنتقل انتقالا مباشرا من عائل لآخر دون قضاء أي فترة زمنية خارج الجسم؛ لذا أصبح الاتصال الجنسي الوسيلة الوحيدة التي تكفل للميكروب تلك الفرصة. وتؤثر طريقة الانتقال في أسلوب تحول لمرض من الانتشار الفردي إلى وباء.

 

خصائص الوباء في أ.م.ج

           يصيب الوباء جميع أفراد المجتمع دون تمييز الأوبئة الناجمة عن العدوى عن طريق الشراب والطعام والرذاذ واللدغ بواسطة العوائل الوسيط ويمكن تشبيه أسلوب الانتشار بحجر ألقي في الماء تنشأ عنه موجات متتالية تتسع باضطراد من المركز حيث سقط الحجر إلى الخارج لتحتل مساحة واسعة. أما في حالة أ.م.ج فإن الوباء يبدأ أولا في المجموعات الخطرة أو "المجمعات الأكثر عرضة للإصابة" التي سبق وناقشناها ومنهم تنتشر إلى باقي أفراد المجتمع. وتنتشر العدوى بين مجموعة عمرية معينة وهم "النشطاء جنسيا" بينما تنتشر الأوبئة الأخرى بين جميع الفئات العمرية.

 

أسباب زيادة انتشار الأمراض المنقولة جنسيا

عالميا منذ السبعينات

        خلال عقد السبعينات من القرن العشرين زاد معدل الإصابة بالأمراض المنقولة جنسيا زيادة ملحوظة بالرغم من توفر العلاجات الفعالة من مضادات حيوية وغيرها وقد ساهم في تلك الزيادة عدة عوامل كان أهمها:

1-النظرة الليبرالية في كثير من المجتمعات الغربية للعلاقات الجنسية باعتبارها رمزا من رموز الحرية الشخصية والحق في الاختيار، اصطلح على تسميتها "بالثورة الجنسية".

2-أدى اكتشاف حبوب منع الحمل إلى انتشار العلاقات الجنسية الكاملة دون أدنى خوف من فضيحة الحمل غير الشرعي خاصة بين شباب المدارس والجامعات.

3-أدى تأخر سن الزواج في ببعض البلاد نتيجة الأزمات الاقتصادية وارتفاع أسعار المساكن إلى إقامة علاقات في إخفاء تحت مسمى الزواج العرفي أو بدونه، كما أدى ارتفاع نسبة الطلاق لنفس النتيجة.

4-أدى استعمال الطيران إلى سرعة الانتقال من بلد لآخر وتلاها سرعة انتقال الأمراض المنقولة جنسيا من بلد لآخر كما أدى أيضا لانتشار سلالات الميكروبات المقاومة للعلاج. وأذكر في هذا الصدد إحدى سلالات الجونوكوك التي أصبحت تقاوم جميع المضادات الحيوية وتتحدى الطب والعلاج (أطلق عليها "سلالة بانجكوك" نسبة إلى المدينة التي اكتشفت بها أول مرة) انتشرت تلك السلالة وأمكن رصدها في كل بلدان العالم بعد سنوا قليلة من ظهورها في بلد المنشأ، وهكذا ساهمت سرعة انتقال الأشخاص من بلد لآخر في "عولمة" الأمراض المنقولة جنسيا وسبقت تلك العولمة المرضية العولمة الاقتصادية بعقدين من الزمان، وكلاهما-في رأي-سوف يحيق أضرارا أكثر بالمجتمعات الأكثر فقرا وتخلفا.

 

    بخلاف مما ذكر، هناك عوامل أخرى مستحدثة ساعدت على انتشار "أ.م.ج" مثل انتشار العمالة الأجنبية. زادت هجرة العمالة من البلاد الأكثر فقرا إلى المجتمعات الأكثر ثراء التي فطنت بدورها إلى حاجة تلك العمالة الملحة لتوفير رغيف خبز لذويهم، وأقصى طموحهم مجرد الاستمرار في الحياة والبقاء على قيدها، فبخستهم الأجر ومنعتهم اصطحاب أسرهم إلى بلد العمل كما حاصرتهم في أماكن بعينها يعيشون في غرف مكتظة في ظروف معيشية خانقة وشاهدنا ظاهرة جديدة تمثلت في إيجار السرير لمدة 8 ساعات لمجرد النوم بدلا من إيجار الغرفة حيث يتبادل العمال السرير الواحد تخفيضا لنفقاتهم. وسمعنا أيضا عن تحديد الأجور حسب جنسية العامل، وليس نوع العمل الذي يؤديه، وسمعنا عن غض بصر السلطات عم العمالة المقيمة بدون مسوغات قانونية لإعطاء الفرصة لأصحاب الأعمال أن ينقدوهم أجرا أقل من الأجر الذي يحصل عليه زملاؤهم وهو أساسا متدن، وهذا قليل من كثير من الأمثلة التي تعتبر وسام عار على صدر البشرية التي تدعي التحضر وتتشدق ليلا ونهارا بمبادئ حقوق الإنسان بينما تمارس أنظمة أكثر ظلما من أنظمة العبودية في العصور الغابرة. وقد أدت تلك الأنظمة الجائرة المطبقة على العمالة الوافدة إلى أن يصبح العامل عَزَباﹰ رغم أنفه، تاركا أسرته في وطنه معرضة أيضا للتفسخ الاجتماعي في غيبة رب الأسرة وتعرضها لأخطار أقلها الانحلال الجنسي. وفي ظل تلك الظروف القاسية يلجأ بعض العمال المهاجرين إلى معاشرة البغايا وهم الأكثر عرضة لحمل ونشر مسببات "أ.م.ج" خاصة في غيبة الإشراف الطبي للسلطات الصحية الوقائية.