مثلاً كيف تُكتشف إذا كان أثر ما يعود إلى ألف سنة قبل المسيح أو ثلاثة آلاف سنة قبله !

عندما يتفحص عالم الآثار قطعة فنية نادرة، فإن معرفة الفترة الزمنية التي تنتمي إليها هذه القطعة تكفي؛ إلا أنه في أغلب الحالات، يطلب من هذا العام تاريخاً زمنياً محدداً وفق معيار قياسي معين. وترتكز عملية تحديد التاريخ الزمني بكل أوجهه على التغيير الحاصل في ظاهرة طبيعية. ومن خلال معرفة نسبة التغيير وكميته، يمكن لهذا العالم أن يحمي السنوات التي مضت منذ بداية التغيير.

وتعتبر إحدى أقدم التقنيات المعروفة في هذا المجال، والأكثر شيوعاً، تلك التي ابتكرت في الخمسينات من هذا القرن، وارتكزت على التاريخ وفق الإشعاع الكربوني. وقد نشأ مبدأ هذه التقنية مع قيام ویلارد فا. ليبي، وهو من الحائزين على جائزة نوبل، بأبحاثه حول تأثير الإشعاعات الكونية على الأرض ومناخها.

والمعلوم أن الجزيئات المعروفة بالنيوترون نتج عن عمل دخول مثل هذه الاشعاعات مجال الأرض. وتتسبب هذه النيوترونات بعملية تحول في نوية أية ذرة تصطدم بها. ورغم أن النيوترونات نفسها لا تتغير، إلا أنها تتفاعل مع النيتروجين -14 لتعطي نظير الكربون، الكربون -14، المشع. ويتفاعل هذا الكربون الجديد بدوره مع الأكسجين الجوي ليعطي ثاني أكسيد الكربون، الذي يدخل هو أيضاً دائرة الكربون البيولوجية، وبينها تتحلل المواد الغنية بالكربون في مياه المحيطات، يتسرب ثاني أكسيد الكربون إلى داخل النبات عبر التركيب الضوئي، قبل أن تأكله الحيوانات.

إلا أنه عند موت المادة العضوية، ولا يعود هناك ما يميل ذرات الكربون -14، تتحلل هذا الأخير مجدداً إلى نيتروجين -14، ويبلغ مدى نصف حياة الكربون -14، أي الوقت الذي يفقد فيه الكربون نصف حياته الإشعاعية، 5730 سنة، بعدها تخرج عن هذا العنصر جزيئة "بيتا" (وهي عبارة عن الكتروني أو الكترون موجب تقذف به نواة الذرة أثناء الموت الاشعاعي).

ومن خلال حساب عدد أشعاعات بيتا الصادرة بالدقيقة الواحدة والغرام الواحد من المادة تحتسب حياته النصفية. ويصدر الكربون -14الحديث 15 جزيئة بالدقيقة وبالغرام فيها يصدر الكاربون البالغ من العمر 5730 سنة 7.5 جزيئات.

والواقع أنه بالنظر إلى محتوى المواد العضوية الضخم من الكربون، فإنه يمنع التقنية التاريخ، كما أن كميات قليلة من المادة تحتاج للفحص بالمقارنة مع المواد الأخرى الأقل غني بالكربون. وبإمكان المختبرات اليوم التوصل إلى تاریخ دقیق من خلال فحص الفحم والخشب، والأصداف، والعظام، وخلائط الحديد الأساسية، والخث (نسيج نباتي نصف متفحم)، والورق، والقماش، والغشاء الحيواني، وأوراق الشجرة وغبار الطلع، والفخار والحراشف، والأترية المشبعة بالكربون، والسخام القديم المستخرج من جدران الكهوف حتى.

وعلى هذا الأساس، فإن أية مادة عينة تشتمل على الكربون وتدخل المختبر للفحص، تخضع أولاً لفحص دقيق، يليه إزالة الشوائب منها. ثم يتم تحويل هذه المادة إلى شكلها الغازي الذي يتألف من ثاني أكسيد الكربون، والميثان، والاسيتيلين والبنزين، عن طريق الحرق أو وسائل أخرى.

بعد ذلك يتولي جهاز فراغي معقد إزالة الشوائب المشعة المشحونة سلبياً الناجمة عن المادة الأولية، يليه وضع العينة بداخل عداد نسبي لإحصاء جزيئات بيتا الناجمة عن الكربون، ومقارنتها بالمعيار الحديث للمادة نفسها، وتحديد عمرها ويصدر هذا الحداد نبضات كهربائية قياسية متناسبة مع طاقة جزيئات بيتا التي ترافق هذا النبض. وهذا أنه من الضروري حماية من المادة الخاضعة للتحليل من أية اشعاعات خلفية ناجمة عن الأرض، فإن طبقة حديدة تبلغ سماكتها ثمانية إنشات تغلف هذا العداد.

ويصل زمن عدَّ هذه العينة إلى ما لا يقل عن فترتين زمنيتين منفصلتين بطول ألفي دقيقة لكل منها مباشرة بعد الاحصاء الأخير، يحتسب "التاريخ الكربوني" للمادة من خلال معادلة حسابية معقدة تتطلب قياس نشاط العينة، ونشاط عينة حديثة، وقيمة انحلال الذرة الثابتة.

ويمكن استخدام هذه التقنية لتحديد عمر أية مادة يعود تاريخها إلى ما بين 500 و50 ألف سنة. لكن التقنيات الأخرى المستعملة تظهر أن التاريخ الكاربوني ليس دقيقاً دائماً. فهناك بعض الاختلاف بين التواريخ الفلكية وبين التواريخ الكاربونية. ويصح هذا فيما يخص المواد القديمة التي تعود إلى ما بين 5500 و9000 سنة قبل المسيح. وتعطى التواريخ الكاربونية عندها بمجال خطأ مثل 1200 + 100 سنة قبل المسيح، بمعنى أن المادة قيد الدرس تعود إلى ما بين 1300 و1100 سنة قبل المسيح.