كل ما في المنطقة المتجمدة الشمالية يعتمد على الطقس، والطقس كثير التقلب كالإقليم وأهله.

ودرجات حرارة الجو عند القطب الشمالى أدفأ في المتوسط منها في شمال سيبيريا وأواسط جرينلند، وفي الواقع فإن بلدة، (أو يميكون)، في سيبيريا والتي تقع على بعد يزيد على مائي ميل جنوب الدائرة القطبية الشمالية، تعتبر أشد بقاع العالم برداً.

والأراضي الشمالية على عكس الاعتقاد السائد، يشتد فيها الحر كما يشتد فيها البرد.

فأشد الأجواء القطبية حرارة قد سجل في بلدة (يوكن فورت)، الواقعة في ألاسكا شمال الدائرة القطبية ببضعة أميال، فلقد بلغت درجة الحرارة هناك المائة المئوية في الظل، وهو رقم لم تبلغه درجة الحرارة سوى مرة واحدة، وإن كانت تصل صيفاً إلى ۹5 ْم مرات متعددة وفي نواح مختلفة من المنطقة المتجمدة الشمالية.

وفي الشمال الأقصى يكون متوقعاً ارتفاع درجة الحرارة صيفاً إلى حد يتراوح بين درجتي 85 م، 95 م إذا توافرت شروط انخفاض المكان، وبعده عن البحر بأزيد من ۱۰۰ ميل، وأن يكون محاطاً بجبال بعيدة مغطاة بالثلوج. وأقل انخفاض لدرجة الحرارة بلغ 94م تحت درجة التجمد وسجل ذلك في مدينة «فركهويانسك وفي سيبيريا، وتقع شمال الدائرة القطبية بخمسين ميلا.

وبلدة فركهويانسك مثل أو يميكون أقيمت كل منهما على أرض منخفضة، ومحاطة بالحبال. وبعيدة عن آثار البحر الملطفة. واشتداد البرد يعتبر أكبر معوق لتقدم الصناعة في الشمال، فعندما تنخفض درجة الحرارة دون الصفر المئوي فإن لهب البوري يستعمل في إذابة ما تجمد داخل الآلات. فالماء يتكشف ويتجمد في الأنابيب الموصلة للوقود في الطائرات والبولدوزرس، وحتى ما يتحدى التجمد يتحول إلى مادة كدرة.

فإطارات المطاط تتفتق، وحد البلطة لابد وأن يدفأ قبل استعمالها وإلا تحطم إلى شظايا كأنه مصنوع من الزجاج، وإذا طرق مسمار بقوة فإنه يتناثر قطع صغيرة.

أما الرطوبة التي تكسو رأس عود الثقاب فإنها تتجمد، وكذلك يفعل المداد الذي يملأ النل، كما أن آلة التصوير لا تسلس حركة مصاريعها وتشفي أفلامها.

وعندما تنخفض قراءة «الترمومتر، فإن هواء الزفير الذي ينفثه الكلب أو حيوان الكاريبو يخرج على هيئة بخار يبلغ من تكثفه أنه يحجب رؤيته فلا يكاد يرى من مسافة تبلغ ثلاثين قدماً، وتلك نتيجة ملامسة الهواء البارد السطح دا فيء، كما أن الوعل في أثناء جريانه يلاحقه خط من البخار كأنه الدخان.

وأهم من هذا كله أن جسم الإنسان يتأثر بالبرد القارس، وإن كان التدثر بعدة أردية يلبس بعضها فوق بعض يعوض إلى حد ما فقد الحرارة، إلا أنها تبدو بعيدة عن الرشاقة وغير عملية.

ولم يبتكر الرجل الأبيض لباساً له جودة وكفاية قميص الإسكيمو المسمى وبالباركا، المصنوع من جلد حيوان الكاريو، وسراويله المصنوعة من جلد الدب وحذائه المصنوع من جلد عجل البحر.

ولما كان الباركا يفضل على اتساع بقصد التهوية المناسبة، فإنه يسمح بدورة الهواء بداخله فلا يتصبب الحسد عرقاً، وهذا أمر له أهميته القصوى الأن أي رطوبة مصيرها أن تتجمد عند درجات الحرارة المنخفضة، وقد ينجم عن ذلك أضرار جدية بعيدة المدى.

ويبلغ اتساع فتحتى الذراعين في الباركا حداً يتيسر معه أن الرجل يمكنه سحب ذراعيه وتدفئة يديه بإلصاقهما بجسمه. ويبلغ وزن قميص الباركا نحو عشرة أرطال، ويعتبر عملياً أنه غير منفذ للبرد وتزين حوافي غطاء الرأس والوجه بفراء حيوان الولفرين، لأن أي نوع فراء آخر يتجمد عليه بخار هواء الزفير مكوناً كتلة من دقائق الثلج.

ولهذا السبب نفسه يندر أن يربي رواد المناطق القطبية لحام ما وجدوا فرصة لحلقها، حتى لا يتكثف بخار التنفس في ثنايا اللحى ويتجمد مكونا قناعة ثلجية.

وفي المنطقة المتجمدة الشمالية كلما انخفضت درجة الحرارة كان من الميسور الرؤية إلى مسافات أبعد، وهذا يسبب للمستكشفين لبساً، لأن ما يخالونه تلا صغيراً يبعد عنهم ميلين أو ثلاثة أميال، قد يتضح أنه جبل يبلغ بعده ثلاثين ميلا. وقد يواجه الرجال صعوبات حقة من جراء السراب أيضاً، فترى الأجسام الواقعة تحت مستوى الأفق منعكسة على صفحة السماء، ويسبب السراب رؤية الأشياء المألوفة في الحياة اليومية كالزحافات والكلاب، مكبرة أو مشوهة. نتيجة لظاهرة السراب التي يطلق عليها اسم «اللووم، كاد يطلق المستكشف نانسن الرصاص على كلب من كلابه المدللة حيث ظنه خطأ ديا قطبياً. وظاهرة السراب تتوقف على الاختلاف السريع في كثافة الهواء كلما زاد الارتفاع. فعندما ترتكز طبقة دافئة قليلة الكثافة على طبقة أخرى باردة ذات كثافة أكبر، فإن الأشعة الضوئية الصاعدة إلى أعلى تنحى نحو الأرض،

ونتيجة لهذا ترى الأجسام الواقعة تحت مستوى الأفق متخذة لها مكانا في مستوى سطح البحر.

واللصوت خدعه الغريبة في الشمال، فهو ينتقل إلى مسافات أبعد وعلى الأخص إذا حرمت درجة الحرارة حول 40م تحت الصفر، فنباح الكلاب يسمع جلياً وعلى بعد عشرة أميال أو اثني عشر ميلا، والحديث العادي يمكن سماعه بوضوح على بعد نصف ميل..

ولكي نفهم طبيعة المنطقة المتجمدة الشمالية علينا أن نفهم سلوك الثلج، وقد يبدو هذا من السهولة بمكان حتى نعلم أن هناك أنواعاً مختلفة من الثلج يسلك بعضها سلوكا كأنه السحر في غرابته، وكم من سائح فغر فاه دهشة عند ما وقع ناظراه على جبل جليد لأول مرة، وما هذا الجبل إلا كتلة من الجليد انفصلت من ثلاجة.

وهذه الجبال الجليدية الطافية قد تبلغ في الطول ميلا، كما أنها تتسامى فوق سطح البحر بألف قدم، ويبلغ حجم جزئه الغاطس تحت سطح الماء سبعة أمثال حجمه الظاهر فوقه، وذلك لأن جبل الجليد - وهو ماء عذب منجمد - يبلغ وزنه سبعة أمان ما يكون عليه لو كان قوامه ماء البحر الملح.

وفي أوائل فصل الربيع تبدأ جبال الجليد العائمة رحلتها في مواكب مهيبة مصممة شطر الجنوب، وبعضها كبير الحجم وبعضها صغيره. وما إن يهل شهر إبريل ومايو ويونيو، حتى تكون قد ألقت عصاها معترضة الطرق البحرية الشمالية التي تسلكها عابرات الأطلنطي، حيث تقف لها بالمرصاد السفن الدولية التي تشتغل بأمور الطقس، فترسل تحذيراتها محددة

موقع هذه الجبال. وتتكون الثلاجة من الثلج الذي ينضغط بقوة تبلغه حد الصلابة ويصبح جليداً، وأكبر الثلاجات اتساعاً والتي يطلق عليها اسم الأغطية الحادية أو قلانس الجليد، تغطى الهضاب والأقاليم الجبلية. في أواسط جرينلند يبلغ سمك الغطاء الثلجي عدة آلاف من الأقدام، ولا يفوقه في الضخامة سوى قلنسوة الجليد في المنطقة المتجمدة الجنوبية.

وفي الغالب يسبب ثقل هذه المقادير الضخمة من الثلج والجليد. انحدار جزء منه على سفح الجبل أو انسيابه في أحد الوديان، وهذه الكتلة من الثلج المتحرك والتي اصطلح على تسميتها بالثلاجة تتخذ طريقها رأساً وفي تمهل، على هيئة نهر من الجليد لا يقطع في اليوم سوى بضع بوصات. وعندما تصل الثلاجة إلى ساحل البحر تتكسر حافاتها مكونة جبال الجليد

التي تبهر مشاهدها العقول. ويتكون الجليد على سطوح البحار المفتوحة القطية في بطء، في شهر سبتمبر عندما يسكن البحر لبضعة أيام نرى أن سطحه يأخذ في اكتساب

هيئة الدهن، ويعتبر هذا أول علامات التجمد، حتى إذا ما برد الماء إلى درجة تقرب من ۲۸٫60 درجة فهرنهيتية، تتكون بلورات الجليد.

وتتشكل تلك البلورات الدقيقة على هيئة أقراص صغيرة متجمعة في أعمدة قصيرة، ويستمر عدد البلورات في الزيادة حتى يغطى سطح البحر كله بطبقة منها لها شكل حبات الذرة، ويسمى هذا بالثلج الكدر، الذي يكون له قوام القرطم المطهو.

وسرعان ما تتكون تركامات كبيرة فيه تستمر في النمو حتى يندمج بعضها مع بعضها الآخر وتصبح حقول الجليد هائلة الحجم غير منتظمة الشكل. وما لم تتفكك من جراء الرياح وحركات المد والجزر فإن هذا الجليد يزداد سمكه سريعاً ليصل إلى أربع أو خمس بوصات في مدى الأربع والثمانين الساعة الأولى، ثم يبطئ هذا النمو.

وفي أغوار الحوض القطبي يندر أن يزيد سمك الجليد الجديد عن ست أو تسع أقدام في خلال السنة الواحدة. ولكي يبلغ سمكه ۱۰ قدماً أو أكثر، فإن ذلك يستغرق عدة سنوات.

ونتيجة لحركة المد الرافعة الخافضة، ولحيشان البحر، يحدث تشقق في الجليد الحديث التكوين، وهذه التشققات تضيق أو تتسع تبعاً لحركة الأمواج. هذا وتستمر إلى غير أجل عملية تكون الجليد في البحر، وتالف أجزائه، ثم انفصاله إلى أجزاء تتصادم بصوت مدو راعد كقصف المدافع الثقيلة.

ومن الميسور أن تتخذ أي سفينة طريقها في أمان بين أطراف الجليد، أو الركامات المفككة، ولكن السفن العادية المصنوعة جدرانها من الحديد أو الصلب تجابه خطراً عظيما عندما تصبح أطواف الجليد متماسكة سريعة الحركة وتكتب السلامة للسفينة الحبيسة بين قطع الثلوج إذا كان في مقدورها أن ترتفع بتأثير الضغط عليها. وبعبارة أخرى يعمل الجليد الذي يتجمع تحت مقدمة السفينة على رفعها من الماء.

وكثبان الجليد الثقيلة هي التي تسد الطرق الملاحية في البحار القطبية. إن البرد القارس الذي يجمد ماء البحر في المنطقة المتجمدة الشمالية يمتد فعله إلى الأرض أيضا فتتجمد إلى أغوار سحيقة وتصبح التربة في صلابة الجرانيت.

وأرض المنطقة المتجمدة الشمالية كلها في الحقيقة منجمدة دواماً، فها عدا بضع أقدام من التربة في الطبقة السطحية التي ينصهر جليدها في أيام الصيف.

ويطلق على هذه الأرض الدائمة التجمد اسم «الصقيع الدائم، وهي تبطن أراضى أقاليم المنطقة المتجمدة الشمالية، ولكن تختلف في العمق باختلاف الأماكن، فعند خليج رزوليوت، في جزيرة «كورنواليس، تمتد طبقة الصقيع الدائم إلى عمق ۱۳۰۰ قدم.

وبطبيعة الحال لن ننتظر أن تكون الطبقة السطحية المرتكزة على أرض متجمدة كهذه. ذات درجة حرارة مرتفعة، كما أن الماء لا يستطيع أن ينساب خلال تلك التربة المتجمدة الجامدة كالصخر، أو ينفذ خلالها بل يرشح منها في المجاري المائية والأنهار، أو تكون المستنقعات الفسيحة الأرجاء الضحلة في التندرا.

وفي أثناء صيف المنطقة المتجمدة الشمالية القصير، ينصهر ثلج الطبقات السطحية وتصبح رخوة، ولكن لو حاولت عمل حفرة فيها، فما هي إلا دقائق حتى يعلو رنين ارتطام الفأس بالطبقة المتجمدة القاسية كالصخر والتي تلي الطبقة السطحية.

والصقيع الدائم أثره في أي مشروع يغامر الإنسان بتنفيذه في الشمال، فعند انصهار الجليد من جراء ارتفاع درجة الحرارة - كما يحدث أسفل بناء من شأنه أن يولد حرارة في التربة - بعترى الأرض تغير كامل في خصائصها، فهي إما أن تتقلص ويبدو سطحها في مظهر حبيبي كالبليلة، أو تمدد وتتشقق إلى شقوق واسعة عميقة، ومن جراء الرفع والخفض الدائمين في سطح الأرض، فإن المباني التي يكتب لها طول الأجل هي التي تقام على ركائز من الخشب،أو قوائم، أو على منصات مرتفعة عن الأرض، بحيث تصبح التهوية ميسورة بين أرضية المبني والأرض الجامدة أسفله.

وعندما أنشئت أماكن هبوط الطائرات والطرق لأول مرة في المنطقة المتجمدة الشمالية استعمل البلدوزر في كشط طبقة الطحالب العازلة التي تغطي الأرض المتجمدة منذ آلاف السنين، وكانت النتيجة تحول الأرض إلى حالة من فوضى التكوين فسرعان ما تعرت الأرض، حتى أخذ سطحها يعلو ثم تشققت مخلفة فتحات متسعة، وتعلم المهندسون بعدئذ أن يتركوا هذا العازل الطبيعي وشأنه وبذلك يظل «الصقيع الدائم، تحتها عملياً كطبقات الصخر.

وفي السنوات الحديثة بدت علامات تدل على أن المنطقة القطبية الشمالية آخذة في الانصهار في بطء. ويبدو ذلك في ارتفاع متوسط درجات الحرارة وفي توزيع أكداس الجليد، وفي تراجع الثلاجات في النرويج وسبتسبرجن وجرينلند كما أن الدورة الزراعية في شمال فنلندا قد استطالت مدة تتراوح بين عشرة أيام وأسبوعين عما كانت عليه منذ عشرين سنة.

ولهذا أهمية قصوى بالنسبة للشال الأقصى حيث كل ساعة مشمسة فيه لها قيمتها.

أما أكداس الجليد الهائلة فما زالت عقبة مخيفة، ذلك لأنها ستبقى أجيالا قادمة تتصيد ضحاياها من بين السفن والطائرات والرجال الذين لا يخشون سطوتها وينبرون لتحليها.

هوامش:

(1) 40 درجة مئوية تحت الصفر