محتويات

يبلغ قطر الدائرة المتجمدة الشمالية ثلاثة آلاف وثلاثمائة ميل، مع اتخاذ القطب الشمالي مركزاً لها، ويقتطع محيط هذه الدائرة أطرافاً من آلاسكا وكندا وجرينلند، وأوروبا الشمالية، وسيبيريا، وما هذه الدائرة في الحقيقة إلا خط وهي برسم على الخريطة.

اوترى شمس نصف الليل لمدة أربع وعشرين ساعة كاملة في أواخر شهر يونيو في المساحات الواقعة شمال هذا الخط، وما إن يحل أواخر شهر ديسمبر حي تعيش تلك المساحات نفسها في ظلام دامس لا يبدده شعاع واحد من ضوء الشمس لمدة أربع وعشرين ساعة.

خط الشجرة:

وهناك طريقة أخرى لتحديد موقع المنطقة المتجمدة الشمالية يطلق عليها اسم «خط الشجرة، ولا يمكن بيانها على الخريطة ولكن في استطاعة أي سائح مشاهدتها.

فالأشجار لا تتهيأ لها أسباب البقاء في الأجواء ذات البرد القارس، ومن ثم فهناك حد شمالي لا يمكن لشجرة أن تنمو فيا وراءه، وهناك تبدو الأرض سوداء هشة مرطوبة، ويرتكز سطحها على طبقة دائمة التجمد.

منطقة التندرا في المنطقة المتجمدة الشمالية:

على أن هناك مساحات شاسعة تغطيها طحالب الرنة وحشائش أخرى مختلفة أنواعها، وهذا الجزء من المنطقة المتجمدة الشمالية هو ما يطلق عليه اسم "التندرا" و، وفيه تتناثر هنا وهناك شجيرات قصيرة هزيلة، ومن أجل هذا أطلق الهنود اسم "التندرا" على هذه المساحات، ومعنى هذه الكلمة في لغتهم "أرض العصا الصغيرة».

وإذا ألقيت نظرة على خريطة المنطقة المتجمدة الشمالية لرأيت عدة مساحات ضيقة من الأرض التي تقع في نطاق حافة الدائرة المحددة للمنطقة، وهذه القطع من الأرض تحيط بالحوض القطبي المتسع الأرجاء إحاطة قطيع من كلاب الإسكيمو بدب ضيقوا عليه الخناق.

وما هذا الحوض إلا سطح مائي يغطي سقف العالم وتبلغ مساحته خمسة ملايين من الأميال المربعة، ويبلغ عمقه في بعض نواحيه خمسة عشر ألف قدم ولا يبدو الحوض القطبي كسهل منبسط جليدي متصل، ذلك لأنه كلما تولد جليد جديد أسفل الطبقة الجليدية العليا القديمة، فإنه يرفعه إلى أعلى ويشقق سطحه. وتنشأ نتيجة لذلك قطع متجاورات وغير منجو رات من سطوح جليدية تطفو على غير هادي تسمى دعائمات الجليد» أو الأطراف الجليدية.

هذه الأطراف الجليدية تسوقها الرياح وتدفعها حركة المد، فهي أبدا في حالة خض وطحن، ومرة يؤلف بينها فتلتحم ثم تتشقق ثانية وتنفصل إلى قطع متباعدة، وكلعب الأطفال المتداخلة تتخذ أشكال القمر المسنة والمغارات والوهاد.

ويطلق على هذا الحقل الهائل من الجليد اسم "أكداس الجليد القطبي"..

والغريب في شأنه أنه يظل في حركة مستمرة طول العام، وتعمل حركة دوران الأرض على انتقاله طافياً من «ألاسكا»، «سيبريا، ميمماً صوب اجرينلند.

البحر المتجمد أو البحر القطبي:

ولما كانت الأرض تحيط بالحوض القطبي إحاطة تامة من جميع نواحيه، فإننا نراه في الواقع أقرب ما يكون إلى بحر مغلق من أن يكون محيطاً، فهو ضئيل حقا إذا قورن بالمحيطين الهادي أو الأطلنطي، ولهذا السبب لم يعد يسمى باسم المحيط المتجمد في أغلب المصورات الجغرافية، بل عدل عنه إلى البحر المتجمد أو البحر القطبي.

وهذا البحر يفصل شمال أمريكا عن آسيا تماماً كما يفصل البحر المتوسط أوروبا عن أفريقيا.

ومن عجب أن درجة حرارة مياه البحر المتجمد تختلف باختلاف الأعماق فالطبقة المائية العليا والتي يقرب عمقها من 650 قدماً. تبلغ درجة حرارتها نحوا من ۳۰ ف. ولا تدري مياهها إلا قدراً منخفضاً نسبياً من الأملاح نتيجة الأمطار وذوب الثلج والكميات الهائلة من مياه الأنهار..

وبأسفل هذه الطبقة تستقر طبقة أخرى من الماء يبلغ عمقها ۲5۰۰ قدم، وهي أدفأ من العليا وأكثر ملوحة.

ويعود الفضل لتيار الخليج في دفع مياه المحيط الأطلنطي لتستقر في هذه الطبقة داخل الحوض القطبي.

ويوجد بأسفل الطبقة الثانية ماء بارد ثانية، يملأ الحوض كله حتى القاع، وتبلغ درجة حرارته نحو ۳۰ ف. إن نظام التيارات في البحر المتجمد الواحدة من الظواهر الجغرافية الممتعة لهذا الإقليم، ذلك لأنه تجري على عمق كبير بأسفل تلك الأفدنة المتسعة المغطاة بالجليد، تبارات مائية أكثر دفئاً أو أكثر برودة، تنساب في شتى أنحاء البحر المجمد في اتجاهات من الممكن التنبؤ بها.

وظاهر من المصور الجغرافي أن المنفذ الأوحد المتسع للحوض القطي هو بحر (جرينلند، وهذا يصل ما بين البحر المتجمد والمحيطات التي تقع جنوبه.

ويمر في بحر «جرينلند» تبار من مياه الأطلنطي الدافئة مخترقاً البحر القطبي، وهذا التيار هو الذي يسبب تمتع منطقة القطب بجو لطيف طيب إذا قورنت بالمنطقة المتجمدة الجنوبية.

إن هذا التيار والتيارات الأخرى الكثيرة المندفعة في شتي الاتجاهات لتلعب دوراً هاماً في تطوير المنطقة القطبية الشمالية، ذلك لأنها تتحكم في ظروف الجليد تحكمها في طقس الأراضي الشمالية كلها.

يضاف إلى ذلك ما لها من أثر في طرق الملاحة وفي حياة السكان الذين يقطنون الأرض المحيطة بالحوض القطي.

وفي الأماكن الواقعة داخل الدائرة القطبية يأتي يوم واحد على الأقل من أيام السنة لا تظهر فيه الشمس فوق الأرض.

وكلما اقتربنا من القطب الشمالي زاد عدد هذه الأيام التي تحتجب فيها الشمس، حتى إذا بلغنا في النهاية موقع القطب الشمالي نفسه وجدنا أن هناك ستة أشهر من كل سنة يرخي فيها الظلام سدوله.

على أن كل يوم من الأيام التي يسود فيها الظلام يناظره يوم يحل بعد مرور ستة شهور، لا تغرب شمسه تحت الأفق   وتكاد تبدو هذه الظاهرة أمراً يصعب تصديقه لمن يقطن الأقاليم الأكثر دفئاً، ولكن ما الذي يجعل من تلك الأصقاع أرضاً تظهر شمسها في منتصف الليل؟

من السهل عليك أن تفهم السبب لو أنك تذكرت أن الأرض تحميل على أحد جانبيها وهي تدور حول الشمس، ومعنى هذا أن القطب الشمالي يطل مرة برأسه نحو الشمس، ومرة أخرى ينأى عنها بجانبه..

الشمس والظلام في المنطقة المتجمدة الشمالية

في شهر يونيو يقبل القطب الشمالي نحو الشمس ولا تغرب الشمس في المنطقة المتجمدة الشمالية في هذه الفترة، فهي تري دائما فوق الأفق ويسطع ضوؤها ولو في منتصف الليل. حتى إذا حل الشتاء أدبر القطب الشمالي بعيداً عن الشمس ويخيم الظلام صباح مساء.

وفي أثناء الليالى القطبية الطويلة، ترى في السماء أضواء خفاقة غريبة، إذ يحدث وهج متصل تنبعث منه أشعة صاعدة تنفذ إلى كبد السماء. هذه هي والأورورا بوراليس، الشهيرة، أي الأضواء الشمالية التي ترى عادة على هيئة حزم من الضوء الخافت المشوب أحياناً بصفرة، أو حمرة، ولكنه قلما يتلون باللون الأخضر أو البنفسجي.

وإذا تركنا أمر اللون جانباً فإن تلك الأضواء تتميز بالحركة الدائمة، والمعتقد أن السبب في تكوين تلك الأشعة الضوئية الغريبة هو انطلاق دقائق مشحونة بالكهربة من الشمس.

ولا يزال كثير من الناس يؤمنون بأن المنطقة المتجمدة الشمالية كلها ما هي إلا صورة من الحوض القطبي، فهم يتصورونها إقليما موحشاً بعيداً، تغطيه الثلوج بصفة دائمة، وينافس عواء الذئب فيه عصف الرياح عندما تسود شهور الظلام.

وكأن أسطورة الشمال العدائي الذي لا يرحم أشبه ما تكون بكرة من الجليد منطلقة على منحدر من الجليد فيزيد حجمها وتتضخم. فهناك بطبيعة الحال مساحات تتم ظروفها حقا بقسوة الطبيعة وخشونة الحياة فيها، ولكن المنطقة المتجمدة الشمالية تعتبر أرض المفارقات المذهلة. في بعض أنحائها يتدثر الإسكيمو طول العام باليا ركا وهي أرديتهم التقليدية المبطنة بفراء الدببة، وهبط الطائرات على مزالق الثلج حتى لو كان الوقت منتصف أيام الصيف.

ولكن هناك أماكن أخرى كقطاعات في ألاسكا مثلا وشمال كندا الداخل في نطاق الدائرة القطبية تزرع فيها المحصولات بوفرة أثناء شهور الصيف الدائمة الإصباح.

وحتى في الشمال الأقصى لجرينلند الذي لا يكاد يبعد عن القطب الشمالي بأكثر من 600 ميل يزدهر نحو مائتي نوع من الطحالب والنباتات. وكثيراً ما نسمع عن العواصف الثلجية العاتية التي تكتسح الأراضي الشمالية، ولكن المستكشف العظيم "نانسن"، أحد أئمة رواد المنطقة القطبية الشمالية اعتبر أن حظ هذه المنطقة من الزوابع أقل من أي إقليم آخر في العالم يناظره في الحجم، ذلك لأنه قدر أقصى سرعة للريح بخمسين ميلا في الساعة بعد تسجيلات استمرت ثلاث سنوات قضاها في البحر.

وكذلك "استيفانسن"، وهو رائد آخر عظيم ممن ارتادوا المنطقة المتجمدة الشمالية، يقرر أنه لم يصادف ريحاً تجاوز سرعها خمسين ميلا في الساعة وهو على بعد يزيد عن خمسين ميلا من الساحل، ومع هذا نجد أن هناك عواصف تجتاح الولايات المتحدة قد تبلغ سرعتها مائة ميل في الساعة.

الطيران فوق منطقة القطب الشمالي

والهواء في المنطقة الساحلية للأراضي الشمالية يبلغ من الجفاف حداً يجعل مقدار الثلج المتساقط هناك أقل منه في «رتشموند» من أعمال ولاية فرجينيا..

إن تلك المساحات التي تضم جبالا تكسو قممها الثلوج وبحيرات وسهولا موحلة وأكداسا من الجليد أصبحت اليوم صلة بين القارات، فأقصر طريق للسفر بالطائرات بين أوروبا وأمريكا يمر فوق قمة العالم، فالطريق من طوكيو إلى لندن، ومن نيويورك إلى شنغهاي، يكون أقصر ما يمكن عبر القطب الشمالي، ويمكنك إثبات ذلك بنفسك بوساطة وضع خبط على نموذج للكرة الأرضية.

اول رحلة طيران فوق المنطقة المتجمدة

إن يوم 19 نوفمبر سنة ۱۹5۲ يعتبر بدء عصر جديد في تاريخ الملاحة الجوية التجارية، ذلك لأنه في هذا اليوم قامت الطائرة د. س - 6 وهي من جبابرة الحو (سوبر كلودماستر) التابعة لشركة الملاحة الاسكندنافية بأول تجربة لقطع المسافة بلا توقف من لوس أنجليس إلى الدانمرك عن طريق الشمال الغربي لجرينلند، وبذلك قطعت مسافة لا تقل عن عشرة آلاف ميل في زمن يزيد قليلا عن أربع وعشرين ساعة.

صعوبة الطيران فوق المنطقة المتجمدة

وفي أثناء الطيران شمالا فوق قمة العالم تحدث أمور مستغربة، فالبوصلة مثلا تصبح غير موثوق بها، إذ كلما قربت من الشمال تبدأ الإبرة المغناطيسية في الدوران حول محورها دون أن تحدد اتجاها خاصاً، فهي أحياناً تشير نحو الشرق عندما يكون الواجب أن تشير نحو الغرب، ولو كان لديك ثلاث بوصلات مختلفة في نفس المكان لوجدت أن كلا منها تتجه اتجاهاً خاصاً، ذلك لأنك عندما تكون فوق القطب الشمالي مباشرة فلن يكون هناك اتجاه نحو الشمال لأنك وصلت إلى أقصى ما تصل إليه شمالا، ولا يكون هناك شرق أو غرب، لأن أي اتجاه مأخوذ من القطب الشمالي يعتبر جنوباً.

وفي ظروف كهذه لا يستغرب أن نجد البوصلة المعتادة لا تدري كيف تتصرف.

ومن أجل هذا استدعت ظروف الطيران فوق القطب أن يستبدل بالبوصلة جهاز «جيرو سكوب، أو دوار يسمى دوار الطريق القطبي، وهو وسيلة مهمتها التزام الاتجاه لا الإرشاد إليه، وما على ربان الطائرة إلا أن بضبط جهازه ويضغط على المحول، ويترك للجير وسكوب أكثر ما يبقى من المهمة لا كلها، لأن هذا الجهاز على الرغم من أنه يعمل كالسحر، فهو عرضة للخطأ، لأن الأرض تدور حول محورها وهذا الدوران يسبب للجهاز ارتباكا.

فالطائرة وقد ضبط جهاز الجيرو سكوب بها عندما كانت مقدمتها تشير في اتجاه طوكيو مباشرة، فإن هذا الاتجاه عندما تسبح الطائرة في الفضاء لا يشير إلى طوكيو نظراً لدوران الأرض تحت الطائرة، ولذا فالربان الحصيف عليه أن يعيد ضبط الجير وسكوب من آن لآخر، وأن يهتدي بالشمس، وأن يقرأ سرعة الريح السائدة، وأن يدون قراءة البارومتر الدالة على الضغط الجوي، وبعبارة أخصر فإن عليه أن يراجع كل عملية اتقاء لكل طارئ. إن هذه البلبلة في الفضاء والاتجاه في أجواء المنطقة المتجمدة الشمالية، جعلت الخرائط التقليدية القديمة غير مجدية فيما يختص بالطيران فوق القطب.

خرائط الطيران الحالية تشبه تخطيط مدينة حديثة مرسوماً على ورق الطبع الأزرق، فتظهر فيها طرق مستقيمة رحبة، هي معابر الطائرات في سماء المنطقة المتجمدة الشمالية، التي أصبحت اليوم ذات أهمية حيوية بالغة نظراً للانتهاء من عمليتي إنشاء هائلتين، ويطلق على العملية الأولى اسم «أليس البيضاء» وهي شبكة من اتصالات موجية مفرطة في قصر طولها الموجي. تربط بين المجتمعات المعزولة وأجهزة الدفاع، أما العملية الأخرى فتسمى "ديو لاين"، واسمها بالكامل ودستانت ايرلى وارننج لاين، أي الخط البعيد للإنذار المبكر، الذي يبرق بأول إنذار عن الطائرات مجهولة الذاتية عند اقترابها من الشمال.

ولقد أقامته الولايات المتحدة الأمريكية، وقدرت تكاليفه بنحو من 450 مليوناً من الدولارات، ويمتد من ألاسكا إلى شواطئ جرينلند ويبعد عن القطب الشمالي في حدود 400 ميل.. إن محطات الرادار ومعسكرات التعمير تنتشر أماكنها المتناثرة الآن في متاهات شاسعة موحشة لم تمتد إليها يد التخطيط بعد.. ويكاد لا ينقضى ليل إلا وتكون أصقاع القطب الشمالى قد أمست مركزاً لعالمنا.