إن التقارير التي كتبها رواد القطب الجنوبي لتقص قصصاً محيرة عن ظواهر غريبة تحدث في المنطقة المتجمدة الجنوبية. وتتجلى إحدى هذه الظواهر عندما يصبح الثلج المتساقط في جو عاصف مشحوناً بالكهرباء، ويحدث عندئذ أن كل شيء مدبب كأنف الإنسان أو غليون تدخينه مثلا يتوهج بنفس الضوء الأزرق الخيالي المعروف للبحارة باسم «نار سانت إلمو»، وهذا يخلف في النفس دهشة خفية لا ترتاح إليها.

وفي هذه البلاد التي يسودها لون رتيب أبيض، تصاب العين بالبهر، الأن تكييف العين لرؤية البياض المطلق يندر أن يكون خيراً منه بالنسبة للظلمة التامة.

وكثيراً ما يصاب الرجال بحيرة من جراء الاختفاء المفاجئ. لأجسام كبيرة متحركة كانت منذ ثانية واحدة ملء البصر ومرئية تماماً، ولم يدل أحد حتى الآن بتعليل مقنع لحدوث هذه الظاهرة.

ويقتصر حدوث ذلك في الأيام التي يطلق عليها والأيام البيض، أي عندها يلف كل من الهواء والجليد والسماء والعاصفة الثلجية في دثار من البياض الناصع ومن عجب أنه في هذا الوقت تصبح التسلخات القاسية الناتجة عن الشمس من جراء الأشعة فوق االبنفسجية، أمراً يشكل خطراً في المنطقة المتجمدة الجنوبية، إذ لا عاصم بني من الأشعة فوق البنفسجية التي تنطلق من جميع الزوايا وفي كل الاتجاهات.

وفي الأيام التي يتلبد فيها الجو بالغيوم، ينحصر الضوء المتقلب في شدته، بين السحب من أعلاه والثلج من أسفله، وبذلك يتكون في الجو غشاء سميك له لون بني، ويطلق على هذه الظاهرة والبياض التام..

وإذا وقع الطيارون في قبضته فقد بصيهم دوار وغثيان، وقد يصبحون لا حول لهم ولا قوة. كما أن كل المرئيات المجسمة بختي إدراك بروزها.

وفي وسط البياض التام يستحيل على الإنسان أن يتبين البقعة القائمة أمامه وعلى بعد أربعين قدما أهى زحافة جليد أم جبل بعيد؟

وظاهرة، اللوم، أي السراب، الشائعة الحدوث في المنطقة المتجمدة الشمالية. تجدها أكثر شيوعاً وأشد وضوحاً في المنطقة المتجمدة الجنوبية.

ويعتبر السراب نعمة مستمرة، لأنها تمكن الرواد من رؤية الأجسام التي تقع على مسافة تفوق مدى الرؤية المعتاد.

لذلك فإن من بقي حياً من أعضاء بعثة سكوت» سنة ۱۹۱۲ أمكنهم وهم يرقبون في لهف بالغ قدوم سفينة النجدة من نيوزيلندا. أن يروا قلاعها أولا مرتفعة في السماء أكثر من المعتاد، ثم ظهرت صورة السفينة نفسها عالية في السماء وهي مقلوبة الوضع، وفرح الرجال لأنهم علموا أن النجدة أصبحت قاب قوسين أو أدنى من الأفق.

ويحدث في أيام الشتاء أن تأخذ السماء زخرفها وتزين عند الجنوب الأقصى بحزم خفاقة من ضوء شاحب مشرب بخضرة وتسمى تلك الظاهرة وأورورا أستراليس، (أي الشفق القطبي الجنوبي أو الأضواء الجنوبية).

ويطابق هذا الاستعراض الكهربي نظيره من الأضواء الشمالية في الشمال الأقصى.

وقد ترى فوق القطب الجنوبي مباشرة، سحابنا ماجلان وهما أبعد الأشياء التي تقع عليها عيون البشر.

وسحابنا ماجلان عبارة عن عناقيد هائلة من نجوم ظل ضوؤها يخترق الفضاء لمدة تقرب من مليون سنة بسرعة تبلغ 180 ألف ميل في الثانية حتى وصل إلى الأرض.

وفي المنطقة المتجمدة الجنوبية عندما تدنو الشمس من الأفق ترتدي السماء عادة حلة سندسية خضراء في خضرة مروج نيوانجلند أيام الصيف.

ويمتد هذا اللون الأخضر من الأفق صاعداً في السماء حتى منتصف المسافة إلى سمت الرأس.

إنه غروب قوى للشمس يبدو أخضر، ويظن أن هذا ناتج عن تفريغ كهربي من عدد لا يحصى من دقائق الثلج يحتويها الجو.

وإنه لأمر شائع الحدوث أن تحبط هالات بالشمس والقمر، ثم من عجب أن الإنسان وهو في المنطقة المتجمدة الجنوبية يخرج مع هواء الزفير، قوس قزح..

ذلك لأن بخار الماء الذي يخرج مع هواء الزفير يتجمد فوراً مكوناً سحباً من بلورات الثلج التي تحولها أشعة الشمس التي تتخللها إلى أقواس قزح مصغرة، تبدو كأنها قد لفظت من أعماق رئى الإنسان.

وإنه لأمر يدعو إلى كثير من الدهشة أن كل شيء متحرك في المنطقة المتجمدة الجنوبية يبدو كأنه متجه نحو اليسار، فالرجل وكلبه إذا ضلا الطريق في الثلوج فإنهما يدوران دواماً في هذا الاتجاه، وكذلك الثلج المتساقط يعمل حركة رحوية نحو اليسار، حتى طائر البنجوين وهو يسير متمايلا إلى حيث ببيت، يترك آثار قدميه في نفس الاتجاه.

وفي أيام الصيف تتحرك الشمس لمدة الأربع والعشرين الساعة في اليوم من اليمين إلى اليسار.

أما في الأصقاع القطبية الشمالية فيحدث العكس كما رأينا. ويبدو أن الإنسان والطائر والحيوان بالسليقة يدور نحو اليمين شمال خط الاستواء ونحو اليسار جنوبه.

ولقد سجلت درجات حرارة في المنطقة المتجمدة الجنوبية بلغت ۱۲۰م تحت الصفر. وعندما يتنفس الإنسان* هناك في استطاعته أن يسمع أنفاسه،

كما يستطيع رؤيتها: ذلك لأن الهواء عند خروجه من الأنف أو الفم، يتجمد بخار الماء الذي يحتويه. وتحدث البلورات الثلجية المتكونة طقطقة لها رنين الأجراس الصغيرة في الأذن.

ودرجات حرارة كهذه يخشاها المستكشف في الأيام الحديثة، ذلك لأنه بري وقود الكيروسين العزيز عليه يأخذ قوام الزيت، كما أن الزيت يصبح في قوام العسل الأسود.

أما زيوت التشحيم فتتجمد وتبلى الآلات بسرعة تبعا لذلك وتصبح معادن المكنات هشة قابلة للقصف، كما تصاب الدوائر الكهربية بالاعوجاج عندما تتفتت وقايتها المصنوعة من المطاط في البرد القارس.

وابتداء من الأسبوع الأخير من شهر مارس حتى الأسبوع الأخير منسبتمبر تلف المنطقة المتجمدة الجنوبية في ثوب من العتمة أو الظلمة.

ولا تجنح الشمس المغيب عند القطب ابتداء من آخر سبتمبر إلى آخر مارس والضوء الدائم كالظلمة الدائمة كلاهما يشيع الفوضى والاضطراب في عملية نوم الآدمين، مما يشقيهم ويحدهم إلى حدود تفوق قوة تجلدهم.

والمنطقة المتجمدة الجنوبية خالية من الجراثيم. فلا بكتريا تفسد الطعام ولا عفن يفتت الخبز، ويتجمد الطعام فيصبح جسما صلباً يظل سنوات في حالة حفظ تام.

ولقد عثرت إحدى فرق بعثة الأميرال بيرد للاستكشاف على مؤن خلفها أمندصن منذ ثلاثين عاماً مضت فأكلوا منها هنيئاً.

كما أن الأميرال المساعد "كرزون"، هبط عام 1947 بطائرة هيلوكوبتر بالقرب من المعسكر الذي هجره روبرت سكوت قبل هذا التاريخ بخمس وثلاثين سنة، وبدلا من أن تكون الزوابع القاسية قد عصفت بهذا المعسكر وصيرته خرابا كما كان يحدث لو كان الطقس معتدلا، فإنه وجد في حالة من الجدة كما لو كان شاغلوه لم يبرحوه إلا في اليوم السابق، فالأخشاب التي استعملت في إقامة المعسكر بدت كأنها آتية تواً من ورشة الأخشاب، فلا

مسمار قد علاه الصدأ ولا أثر للسوس في الكتل. كما أن اللحم البقري المحفوظ وقطع البسكويت ظلت محتفظة بنكهتها.

أما الأطقم المصنوعة من الجلد الخيول منشوريا فظلت خشنة كالقنب، كما أن كلباً من كلاب جر الزحافات داهمه الموت برداً فجمد في مكانه وهو

واقف، فبدا للناظرين كأنه حي يرزق وعلى وشك الانطلاق ليزاول عمله..:. والريح دائمة الحبوب من القطب الجنوب نحو الشمال هواؤها. أجف وأنتي هواء في العالم، فهي وقد عقمها كميات هائلة من الأشعة فوق البنفسجية، المنتشر لمدة شهور الصيف الثلاثة في جميع الاتجاهات.

ولم يولد طفل حتى الآن في المنطقة المتجمدة الجنوبية، ولكن إذا حدث فسيعيش طول حياته في دنيا معقمة، فلا مرض الحصبة ولا التهاب في الغدة النكفية أو جدري، ولا حمي قرمزية أو زكام ورشح وأنفلونزا. ولكنه لا يكتسب مناعة لمقاومة الأمراض. فمثل هذا الطفل يخر راكعاً على قدميه وبهالك أمام أي مرض وافد من خارج دناه التي يعيش فيها..