عندما أخذت أشعة الشمس الساطعة تتساقط في الصباح المبكر على رمال صحراء نيومكسيكو، انعكست حزمة منها في وميض براق من أسطوانة غير سميكة من معدن الألومينيوم بلغ طولها ارتفاع بناء من خمسة طوابق، وكان ذلك على أرض التجارب التي اختيرت بالرمال البيضاء قبيل إطلاق صاروخ الفايكنج المحمل بأجهزة الأرصدة.

ووقف الصاروخ الطويل على قائمة من الحديد الصلب ثبتت فوق قاعدة الإطلاق المصنوعة من الخرسانة المسلحة، وبدت مقدمته متجهة في الاتجاه الرأسي في حين احتل العلاء المكلفون بإطلاقه أماكنهم في مراكز المراقبة من وراء حواجز من الخرسانة المسلحة على بعد 150 مترًا من قاعدة الإطلاق.

وصنعت جدران بنيان المراقبة وقاعدته من الخرسانة المسلحة، وبلغ سمكها 3.6متراً. وكذلك صنع السقف الهرمي الشكل من الخرسانة المسلحة وبلغ سمكه 8 أمتار. أما النوافذ فكانت مجرد فتحات ضيقة تسدها ألواح من الزجاج بلغ سمكها ۲۰ سنتيمتراً

ولعلنا نلمس من تصميم هذا البنيان قيمة الأهوال والأخطار التي قد تواجهها عند إطلاق صاروخ كبير. والحق أنه عند ما تسير الأمور على ما يرام يرتفع المارد في الهواء بسلام، إلا أن المعروف أن الصواريخ تنفجر أحيانا عند إطلاقها، وعندها يحدث الخطر الشامل.

وكان الاستعداد لإطلاق الفيكنج قد بدأ في الليلة السابقة، فقد سحبته سيارة (جيب) إلى القاعدة وهو مثبت في عربة عجلاتها من المطاط تحمل اسم مخترعها (بار)، وكانت العربة تتكون من جزئين، أحدهما شدت إليه مقدمة الصاروخ وله عجلة واحدة من المطاط.

أما الجزء الثاني فقد ثبت فيه ذيل الصاروخ وله عجلتان؛ ولكل عجلة من العجلات الثلاث جهاز خاص يقلل من حدة الذبذبات ويشبه النوع الذي يستخدم عادة في الطائرات.

واستخدم (ونش) ضخم في حمل الصاروخ إلى المكان المعد لإطلاقه قوامه «كمرتان» على هيئة برجين مستطيلين من الصلب يربطها جسر (كوبري) متعدد الكمرات في القمة. وبلغ ارتفاع هذا (الونش) ۱۸ متراً، كما ثبت على قضيبين بلغت المسافة بينها 6 أمتار. وظهر زوج آخر من القضبان المماثلة على الجانب الثاني لقاعدة الإطلاق، كل ذلك ليصبح في الإمكان دائماً إحضار (الونش) مباشرة فوق القاعدة. وأضيئت منطقة الإطلاق بالأنوار الكاشفة الساطعة طوال الليل.

وتدلى الخطاف من آلة رافعة في قمة الونش)، وأخذ يهبط بسلاسله حتى دنا من الحلقة الأمامية المعدة لرفع الصاروخ فثبت بها. وعندما أديرت بكرات الآلة الرافعة وعلت مقدمة الصاروخ في الهواء دفع إلى الأمام فبدأ يجري على عجلتيه الخلفيتين برهة حتى ارتفع تماماً عن الأرض، وعند ذلك أزيحت مقدمة المركبة التي استخدمت في نقله، ثم تحرك الونش ببطء على قاعدة الإطلاق، وشرع في إنزال الصاروخ تدريجيا حتى وقف منتصباً على أجنحته.

وهناك عدد غير قليل من الجسور «الكباري» تصل بين المستويات المختلفة الكمرات الونش، والغرض منها تمكين ركاب الصاروخ من الولوج إليه خلال الأبواب الصغيرة المطلة من أجزاء الصاروخ المختلفة.

وفي العادة نجد نحوا من اثني عشر شخصًا فوق هذه الجسور «الكباري» يعملون في تثبيت الآلات العلمية المختلفة، ويجرون آخر اختباراتهم على جهاز الجيرسكوب والأجهزة الإلكترونية والصمامات وسائر معدات الصاروخ.

وعندما تسير الأمور على ما يرام يتم إطلاق الصاروخ بعد مضي 14 ساعة من لحظة وضعه على قاعدة الإطلاق. وفي العادة تعرف لحظة الإطلاق باللحظة س، ويتم حسابها إلى الوراء.

وعلى ذلك فإن عملية الإطلاق تبدأ في الدقيقة (س - 14 ساعة) من لحظة صعود العلماء على الكوبري العلوي للونش والبدء في تثبيت الأجهزة العلمية المعدة لقياس عناصر الجو والأشعة الكونية ونحوها الموجودة في مقدمة الصاروخ.

ويتم المختصون اختبار كل جهاز بدقة وعناية فائقة للتأكد من أنه سوف يعمل دون عطل أو خلل عندما يتعلق الصاروخ في عنان السماء.

وفي الدقيقة (س - ۱۰ ساعات) يركب خبراء اللاسلكي جهاز الإذاعة المعد لإرسال الإشارات الخاصة بتحليق الصاروخ، ثم يختبرونه للتأكد من إمكان التقاط أمواجه في محطة الاستقبال. وفي الدقيقة (س - 5 ساعات) تتم التجربة الخاصة بقاطع التيار، ولعلها أهم تجربة تجري على الإطلاق، وذلك لأن قاطع التيار إنما يمكن العلماء في مبنى الرصد من قطع إمداد محرك الصاروخ بالوقود، وهو أمر لا مناص منه عندما ينذر الصاروخ بالخطر أو عندما يخرج عن مساره المرسوم له. وتتم هذه العملية بواسطة الإشارات اللاسلكية.

ويبدأ إمداد الصاروخ بالوقود في تمام الدقيقة (س - ۳ ساعات) بمعرفة عمال محنكين، فتراهم يعمدون إلى ملء خزان الكحول أولا، ثم خزان فوق أوكسيد الهدروجين ثانيا، وأخيراً يملئون خزان الأوكسجين المسال: ويلبس هؤلاء الرجال ملابس خاصة واقية، فيغطون رءوسهم بخوذات لها فتحات يبصرون خلالها أو خلال أغشيتها المصنوعة من مادة البلاستيك الشفاف، وهم يبدون عند وقوفهم بجانب الصاروخ كنفر من سكان المريخ حط ركابه على الأرض!

وتعبئة الأوكسجين ليست بالأمر الهين، كما أنها أمتع عمليات التعبئة منظراً فهناك ثقبان يتصلان بخزان الأوكسجين، وعندما ينقل الغاز المسال الذي تصل درجة حرارته حدود ۱۸۶ درجة مئوية تحت الصفر إلى الخزان الخاص به بوساطة المضخات تظهر سحب من الغاز حول الفتحتين تزداد كثافتها حتى تكون كتلا من الجليد الناصع البياض.

وبمجرد أن يتم تزويد الصاروخ بالوقود يسحب الرافع «الونش» إلى الخلف على قضيبيه، فيخلف من ورائه صاروخ الفيكنج الضخم وقد انتصب واقفا على قاعدة إطلاقه ومقدمته شامخة إلى السماء

وتلك لحظة يعقبها إخلاء المنطقة من كل العربات وما على شاكلتها، ويأخذ العلماء والمهندسون أماكنهم في مبنى المراقبة، ثم يعلن ضابط الوقت في المذياع: «إننا نقترب من اللحظة (س ۔ 15 دقيقة) ... الوقت (س - 15) دقيقة». ومعنى ذلك أنه إذا ما سارت الأمور على ما يرام فإن الصاروخ يتم إطلاقه بعد 15 دقيقة.

ويسمع صوت المذيع في شتى أرجاء مبنى المراقبة، كما يدوي النداء من مكبرات الصوت خارج المبنى لتنبيه من لا يزال خارج المبنى، ويصل هذا النداء أيضا إلى جميع المحطات التي أعدت لرصد الصاروخ بالمناظير المكبرة وأجهزة الراديو والتليفزيون في أجزاء متفرقة من سطح الصحراء والجبال المتاخمة لها.

ويقف العالم المنوط به إشعال المحرك إلى درج الإطلاق، أمام صفين من أجهزة القياس تبين قراءاتها مجرى الحوادث في الصاروخ، إذ تتصل به بأسلاك كهربية خاصة (كابل)، ويمتد هذا (الكابل) إلى قطب على ارتفاع ۱۲ متراً ومسافة 6 أمتار من قاعدة الإطلاق، ثم يعرج إلى مقدمة الصاروخ، على أن ينفصل منه لحظة الإطلاق.

وتسمع المذيع ينادي: «إننا نقترب من اللحظة (س - ۱۰) دقيقة... الوقت (س - ۱۰) دقيقة». وعندها يوصل الصاروخ بمركز القوى الكهربية، فيسرى التيار في (الكابل)، ويبدأ الجيروسكوب (الذي يحفظ توازن الصاروخ العمل وتسمع له صوتاً خافتاً

ويشرع ضابط الوقت في عد الدقائق دقيقة تلو الأخرى، وفي كل مرة يدير واحد من العلماء مفتاحه الذي يختبر به بعض شئون الصاروخ أو أحد الأجهزة فيه، حتى إذا ما وجد الأمر على مايرام ضغط على زر خاص ليبدل لون بقعة مضيئة على درج الإطلاق من الأحمر إلى الأخضر.

وهكذا يفعل كل عالم من العلماء على الترتيب، في حين يراقب العالم المكلف بإشعال الوقود هذه الأضواء كلها، ليتحقق بنفسه من أن جميع البقع المضيئة قد تحول لونها وتبدل من الأحمر إلى الأخضر على نضد الإطلاق..

وعندما تحل اللحظة (س -۱) دقيقة يجذب أحدهم مفتاحاً خاضا ليتضاغط الوقود في خزان المحرك، وبعد أن يتم مراقبة هذه العملية بدقة، يعطى بدوره العلامة الخضراء الضابط الإطلاق.

وينادي المنادي: «45 ثانية»، ويكون كل شيء على ما يرام على نضد الإطلاق، ثم ينادي: «۳۰ ثانية»، وعند ذلك يصبح ضابط الإطلاق قائلا: «شغلوا أجهزة التسجيل»، وفي الحال تصل هذه التعليمات إلى جميع المحطات المعدة الاستقبال أرصاد الصاروخ بوساطة اللاسلكي، وتبدأ الأجهزة عملها.

ثم ينادي المنادي: «۲۰ ثانية». وعندما تحل الثانية ۲۰ يشرع ضابط الوقت في عد الثواني واحدة تلو الأخرى فيقول: «عشرون، تسع عشرة، ثاني عشرة، سبع عشرة ...».

وأخيراً: «خمس ... أربع ... ثلاث ... اثنتان ... ثانية ... أطلق» وبعد أن يلقى ضابط الإطلاق نظرة أخيرة على أضواء البقع كافة ليراها خضراء، يعمد إلى زر الإشعال فيضغطه، وعندها تنطلق شرارة كهربية خلال الكابل) إلى الصاروخ، فيتدفق الوقود إلى المحرك ويشتعل.

ويسقط (الكابل) من مقدمة الصاروخ، ويظهر وميض يلمح في القاعدة وسط زئير منكر من الأصوات الصاخبة التي تنجم من اشتعال الوقود. وسريعاً ما تسري نغمات حادة تصم الآذان عندما تصل سرعة عمل المحركات والمضخات أقصى قيمة لها..

ويرتفع الصاروخ وكأنما يحفظ توازنه على عمود النار المنبثق من قاعدته، وتزداد السرعة ويتحول العمود إلى ذيل طويل من اللهب. وسرعان ما يصبح الصاروخ فوق الرءوس وهو يزأر في طريقه المرسوم. وتسجل محطات الرصد المختلفة مساره بدقة وعناية بالمناظير المكبرة وأجهزة الرادار، كما تلتقط أجهزة الراديو كل الأرصاد التي يذيعها.

ويحمل صاروخ الفيكنج في مقدمته كمية صغيرة من المواد المتفجرة (تون. ت) تقدر ببضعة كيلوجرامات، وتكفى هذه الكمية عند انفجارها للقذف مقدمة الصاروخ بعيداً عن جسده عندما يصل الصاروخ إلى أعلى نقطة في المسار.

وينجم عن هذا الانفجار اختلال توازن المجموعة واختلال استمرار سيرها في المسار الانسيابي؛ فتترنح المقدمة في حركة غير انسيابية عند الهبوط، ولا تكتسب سرعة كبيرة كما أنها لا ترتطم بسطح الأرض بعنف.

وهكذا تتاح للأجهزة العلمية التي يحملها الصاروخ فرصة أكبر للبقاء سالمة، أو عدم التحطيم عند الارتطام بالأرض، وهي فرصة من ألزم ما يكون للآلات البصرية كأجهزة التصوير الخاصة بشكل سطح الأرض، وكذلك الأجهزة التحليل الطيفي التي تسجل طيف الشمس على الأبعاد المختلفة.

وبمجرد أن يرسو الصاروخ على الأرض تؤم مكانة جماعات الباحثين، مستدلين على موضعه بما جمعوا من أرصاد وما صورت أجهزة الرادار، كل ذلك من أجل إصلاح أجهزته وإعدادها للعمل من جديد وكذلك من أجل استغلال الصور والأرصاد المسجلة فيه.