إن القصة وراء هذه الفلسفة مثيرة ودرامية، وهي تظهر الأهمية التي يوليها "أندرو كارنيجي" للغاية المحددة.

   لقد أقام صناعة الصلب العظيمة الخاصة به، وجمع منها ثروة ضخمة من المال عندما حول اهتمامه إلى الاستفادة بثروته وتنظيمها، فبعد أن أدرك أن النصيب الأفضل من ثرواته يكمن في المعرفة التي جمعها بها، وفي فهمه العلاقات الإنسانية، أصبح هدفه الأكبر في الحياة هو إلهام شخص ما على صياغة فلسفة تنقل هذه المعرفة إلى كل من يرغبون فيها.

    كان حينها يعيش في حالة من الرفاهية منذ أعوام وأدرك أن المهمة تتطلب شابَّاً لديه الوقت والرغبة في إمضاء عشرين عاماً أو أكثر في البحث عن أسباب الإنجاز الفردي.

      وبعد إجراء مقابلات مع مائتين وخمسين موظفاً ظن أن لديهم مثل هذه القدرة، التقى مصادفة شاباً أرسلته إحدى المجلات ليجري حواراً صحفيا معه    عن قصة إنجازاته. ورؤية "كارنيجي" الثاقبة للشخصية الإنسانية جعلته يدرك     أن هذا الشاب ربما يملك السمات التي ظل يبحث عنها طويلاً، ولذلك وضع خطة محكمة لاختباره.

  وبدأ ذلك بأن أمده بقصة إنجازاته، ثم بدأ الحديث إليه أن العالم بحاجة إلى فلسفة عملية من الإنجاز الفردي يمكنها أن تتيح لأبسط العاملين الفرصة لجمع الثروات بأي مقدار أو شكل يرغب فيه.

   وظل لمدة ثلاثة أيام وليالٍ يفيض الحديث إليه عن فكرته، فيصف له كيف يمكن للمرء الشروع في بناء مثل هذه الفلسفة. وعندما اكتملت القصة، كان السيد "كارنيجي" مستعداً لإجراء اختباره، ولتحديد ما إذا كان قد عثر على الشخص  الذي يمكنه الاعتماد عليه في تنفيذ فكرته حتى النهاية أم لا.

  قال: "لقد علمت الآن بفكرتي عن الفلسفة الجديدة، وأود أن أطرح عليك سؤالاً يتعلق بها ، وأود أن تجيب عنه ببساطة بنعم أولا. والسؤال هو:

  "إذا منحتك الفرصة لوضع أول فلسفة عن الإنجاز الفردي في العالم، وعرفتك بمن يمكنهم التعاون معك على وضعها ، فهل لديك رغبة في نيل هذه الفرصة، وهل ستكملها حتى النهاية؟".

    تنحنح الشاب، وتلعثم لثوانٍ معدودة، ثم أجاب بعبارة مختصرة قدر لها أن تمنحه الفرصة ليسلط تأثيره للأبد في كل أنحاء العالم.

    وأجاب بقوة:" نعم، ولن أتولى المهمة وحسب، بل سأنهيها!".

   وكان ذلك واضحاً، فقد كان هو الشيء الذي ظل السيد "كارنيجي" يبحث عنه، ألا وهو الغاية المحددة.

    وبعد عدة سنوات، علم ذلك الشاب أن السيد "كارنيجي" كان يحمل ساعة إيقاف في يده عندما طرح عليه ذلك السؤال، وكان قد سمح بأن تقدم الإجابة في غضون ستين ثانية. ولو أن الإجابة استغرقت المزيد من الوقت، لضاعت الفرصة. وقد استغرقت إجابته تسعاً وعشرين ثانية.

    وقد أوضح السيد "كارنيجي" سبب استخدامه للمؤقت.

    قال: "لقد تعلمت من خبراتي أن الشخص الذي لا يمكنه التوصل إلى قرار فوري، رغم وضوح كل الحقائق الضرورية المتعلقة بالقرار، هو شخص لا يمكن الاعتماد عليه في تنفيذ أي قرار يتخذه المرء. وقد اكتشفت أيضاً أن من يتوصلون إلى قرارات على الفور عادة ما تكون لديهم القدرة على التحرك بغاية محددة في ظروف أخرى".

    وقد تم اجتياز العقبة الأولى لاختبار السيد "كارنيجي" بنجاح، ولكن ما زالت هناك واحدة أخرى.

    قال السيد "كارنيجي": "حسناً، إن لديك إحدى السمتين المهمتين المطلوب توافرهما لدى الشخص الذي سيصوغ الفلسفة التي وصفتها لك. والآن، عليَّ معرفة ما إذا كنت تملك السمة الثانية أم لا .

   "إذا منحتك فرصة وضع هذه الفلسفة، فهل لديك استعداد أن تكرس عشرين عاماً من حياتك للبحث عن أسباب النجاح والفشل. دون مقابل، ومع الاعتماد على نفسك في كسب عيشك؟".

   أصابه هذا السؤال بصدمة: فقد ظن أن اختياره من قبل السيد "كارنيجي"         لهذه المهمة شديدة الأهمية يعني أنه سيمنحه ثروة ضخمة نظير ذلك.

   لكنه فاق من الصدمة سريعاً بأن سأل السيد "كارنيجي" عن سبب عدم رغبته في تقديم المال نظير هذا التكليف شديد الأهمية.

   أجابه السيد "كارنيجي": "ليس ذلك عدم رغبة في تقديم المال، بل رغبة في معرفة ما إذا كانت لديك قدرة فطرية على بذل المزيد من الجهد من خلال تقديم خدمة دون محاولة نيل مقابل لها".

   ثم استمر في شرحه بقوله إن الأشخاص الأكثر نجاحا في كل مجالات الحياة كانوا، ولطالما كانوا، هم من يتبعون عادة تقديم خدمات تزيد على ما يتقاضونه نظيرها. وقد أشار أيضاً إلى حقيقة أن الإعانة بالمال، سواء المقدمة للأفراد أو الجماعات، كثيرا ما يفوق ضرها نفعها.

    وقد ذكّر الشاب بأنه مُنح فرصة حُرم منها أكثر من مائتين وخمسين شخصا بعضهم أكبر منه سناً وخبرة.

    وأنهى كلامه بقوله: "إذا استغللت الفرصة التي عرضتها عليك الاستغلال الأمثل، فمن الأرجح أن تحولها إلى ثروات رائعة جداً في طبيعتها لدرجة تجعل ثرواتي المادية تبدو بجانبها مجرد قزم، لأن تلك الفرصة تقدم لك طريقة لاختراق أشد العقول ذكاء في هذه الأمة، وللانتفاع بخيرات أعظم قادة الصناعة الأمريكيين، وقد تمكنك من تسليط تأثيرك للأبد عبر العالم المتحضر كله، ومن ثم إثراء من لم يولدوا بعد".

   وقد وجد السيد "كارنيجي" الشخص الذي طالما ظل يبحث عنه، وتلقى هذا الشخص أول درس من دروسه عن الغاية المحددة والاستعداد لبذل جهد إضافي.

   وبعد مرور عشرين عاماً، وإلى اليوم تقريباً، تم الانتهاء من الفلسفة التي عدها السيد "كارنيجي سبب ثرواته، وتم تقديمها للعالم في طبعة تتكون من ثمانية مجلدات.

   وقد يسأل بعض الأشخاص: "وماذا عن الرجل الذي بذل عشرين عاماً من حياته دون مقابل؟ وما التعويض الذي ناله نظير عمله؟".

   والإجابة التامة عن هذا السؤال مستحيلة؛ فذلك الرجل نفسه لا يعلم المقدار الكلي للمنافع التي نالها. علاوة على ذلك، فإن بعض تلك المنافع ذات طبيعة شديدة المرونة لدرجة أنها ستواصل تقديم المساعدة له لبقية حياته.

   ولكن لإرضاء من يقيسون الثروات بقيمتها المادية وحسب، فيمكننا القول إن كتاباً واحداً ألفه ذلك الرجل، والذى كان نتاج المعرفة المكتسبة من تطبيق مبدأ  بذل المزيد من الجهد، قد أكسبه ربحاً يزيد على ثلاثة ملايين دولار أمريكي.   وكان الوقت الفعلي الذي خصصه لكتابته هو أربعة أسابيع.