بعد فيضان المسيسيبي الكبير:  عرفنا أنه من الأيسر أن نقوّض لا أن نبي، ومن الأسرع أن نقطع الأشجار لا أن نزرعها وننميها، وكان من الضروري أن يمر وقت طويل لإصلاح ما أفسده الناس في الوادي، ولكن النهر الشيخ قد أمكن ترويضه، فقد تولت الحكومة الفيدرالية الأمر في المسيسيبي، وكبر الأمل أنه لن يثور ولن يغضب ثانية.

ومن الصعب أن يتعرف سام كليمنس النهر اليوم، لقد محور مهندسو الحكومة مجرى النهر ليكون كله بعمق تسع أقدام، وقد قصروا من طوله أميالا كثيرة، وبنوا الخزانات والأهوسة، وتحققوا من وقاية الجسور بأفضل الحشيات، بعضها من رقائق الأسمنت المسلح بقضبان من الصلب وبعضها من الكابلات المعدنية الثقيلة مع شباك من الصلب داخل لفافات من الأسفلت، ومن الصعب الاعتقاد بأن النهر يستطيع أن يمزق مثل هذه الدعامات القوية.

وليس بالأمر السهل جعل المسيسيبي صالحا للتجارة ويجري في مجراه الطبيعي،

ولهذا فإن المهندسين مشغولون دائماً، يعدون الأسمنت المسلح والأخشاب والصلب والأسفلت والآلات الرافعة والآلات التي تمحور مجرى النهر، ولكن النهر ما زال قلقا، إنه يكدس الغرين في مكان ويقتطعه من مكان آخر، وفي بعض الأحايين في شهر واحد ينتقل سد مانع لمسافة ميل، وهكذا تسرع القوارب البخارية مندفعة لقياس العمق ووضع علامات الإرشاد واختبار الأضواء.

ترى ماهي حركة المرور في هذا النهر المتحضر المروض؟

إنها حركة نقالات مائية (سفن كبيرة مسطحة القاع) لا قوارب بخارية، والنقل البضائع والمتاجر لا نقل المسافرين.

وإنه لمنظر ساحر أن ترقب مجموعة من النقالات الكبيرة وهي تمخر عباب النهر، قد تكون أربعة وعشرين برغاً من الصلب نجرها قاطرة واحدة مربعة المقدمة، وكما أن هناك عربات مختلفة الأنواع في القطارات الحديدية التي تنقل البضائع من العربات المسطحة والمكشوفة والمغطاة المغلقة، في النهر كذلك مختلف أنواع النقالات في المجموعة التي تجرها القاطرة المائية، كل تصلح اللون خاص من البضائع، نقالات مكشوفة وأخرى مغطاة، وناقلات البترول وأخرى أشبه بالصناديق وكلها تسير متتابعة وراء القاطرة التي تجرها.

ولكن هذه المجموعة من النقالات تسير ببطء، إن سرعتها في الظروف المواتية لا تزيد على ستة أميال في الساعة، ومن ثم فإنها تحتاج إلى أسابيع في رحلتها من الشمال إلى الجنوب، ومن الطبيعي أن البضائع التي يمكن أن تلف بالزمن لا تنقل بهذه الوسيلة، والبضائع التي تنقل بالنهر للشمال أو للجنوب من البضائع الثقيلة التي يمكن أن يحتمل مرور الأيام حتى تصل إلى نهاية رحلتها وبجيء البترول في مقدمة ما ينقل في النهر، وكل البترول الذي ينقل إلى منيوبوليس وسانت بول بنقل في النهر، والغاز واين الذي ينقل إلى بيتسبرج شيكاغو ينقل للشمال في النهر، والكبريت الذي ينقل إلى مصانع الصلب في بفلولا يسبقه في الكم ( الكمية( إلا البترول والغاز، والفحم الذي تحوله شيكاغو إلى ضوء وطاقة بنقل في النهر، وكذلك ينقل الصلب والمواد الخام، والرمل والزلط والخشب والمخصبات والأسمنت والورق والقمح وفول الصويا والرز والسكر والمولاس.

والتقالات بطيئة الحركة ما في هذا من شك، ولكنها تحمل ركاماً من البضائع من مكان إلى آخر، والنقالة الواحدة قد تنقل ما بنقله قطار كامل من قطارات نقل البضائع، ومجموعة واحدة من النقالات تحمل أنابيب تكني المد خط من الأنابيب المسافة أربعين ميلا، ومجموعة أخرى تحمل مليون بشل من الحنطة، وتحمل من الرمل والزلط ما يحتاج إلى مائة وخمس وستين عربة | من عربات السكك الحديدية.

وينقل على النهر كل عام أكثر من مائة مليون طن من البضائع. ولكن من هو البطل الذي يقوم بكل هذا العمل ولا يذكر اسمه في أغنية أو أنشودة؟

إنه المرشد الذي يتولى قيادة القاطرة المائية، فبرغ كل الجهد الذي يبذله المهندسون لحمل طريقه سهلا، لا تزال الرحلة صعبة، فإن عليه أن بنصور دائما شكل النهر، وأن يتذكر كل انحناء وجزيرة وحاجز رملى، وعليه أن يراقب الريح، وأن يقرأ عمق الماء، وأن يصدر القرارات عن وجهته،

كيف ترتب النقالات حتى تدور في المنحى؟

إلى أي مدى يمكن أن يقترب من الشاطئ، وإلى أي مسافة يمكن أن يمر تجاه الحاجز الرملي؟  هل يغامر بالاف الدولارات فيسير في الضباب؟

 إنه يعيش في قلق منذ يترك ميناء البلدة التي يبدأ منها حتى يعود إليها بعد أسابيع، ولكنك لا تحس بهذا القلق عندما تنظر إليه، إنه يجلس في مكان القيادة مرتديا قميصه الأبيض وسرواله القذر، وليست أمامه عجلة قيادة، بل إنه يضغط عتلات لإدارة محركات القاطرة، وهو يفعل هذا وكأنه يفعل أيسر شيء في العالم ليجر النقالات حول منحى، وعندما يمر بمدينة حيث يكون القطار الحديدي واقفاً فإنه يطلق صفارات قاطرته للهو، فهناك منافسة عنيفة بين النقالات المائية وبين القطارات الحديدية.

إن المرشد هو ملك قاطرة النقالات المائية، ولكنه ملك متواضع، ملك بغير أبهة الملك، إنه يقوم بعمله كشيء طاري عرضي تبعاً لما يحدث، ولكنه يفكر ويقرر ويجتاز كل عائق، والمدن تستقبله كذلك، وعندما يقف تجاه المرفأ لا يندفع الناس نحوه، ولا يصيحون اليوم كما كانوا يصيحون من قبل: «السفينة البخارية قد أقبلت..،، ولقد ضاعت الدهشة كما ضاعت دهشة البلاد كلها عندما جرى السباق بين السفينتين و نيتشر، وه روبرت لي» ولكن الرحلة على النهر ليست مملة، فهناك شعور بالجهد الذي يبذل بأقل تضحية، هناك شعور بالقوة والسيطرة على النهر، لقد بات المسيسيبي نغما يتوافق مع لحن القرن العشرين، ووسيلة تتفق والعصر الصناعي.