غابات الأمازون الممطرة:

ما هي الصورة التي تبدو فيها هذه الأحراش؟ وما الذي يجعلها تختلف عن غيرها من الغابات.

لو نظرت إليها من قارب يمخر عباب النهر لما رأيت غابة، كل ما تراه جدار أخضر اللون، فالسماء الزرقاء فوق رأسك، والمياه الصفراء في موطئ قدميك، وكل ما على جانبك جدار أخضر، والأشجار مثقلة بالنباتات المترشة التي تشبه الحبال، هذه هي الأشجار الطفيلية التي تسلق أشجار الغابة، وهي في تسلقها تتلوى وتتعقد معاً حتى لتبدو فيما تفعل أشبه بخيوط نسيج، و يخطر لك أنك ترقب سفينة بدعم دقلها وشراعها بالحبال، وتظن جذوع الأشجار ساريات السفينة، وهذه الأغصان كساحة أو صحن، وتجد هنا وهناك بعض أشجار النخيل وقد بدأ سعفها كريشات خضراء كبيرة، ثم لا شيء، فهذا كل ما يمكن أن نرقبه على حافات الغابة، وكل ما وراء هذا سر غامض لا تكشف عيناك سره ولا تعرف خبيئته.

كيف تبدو غابات الأمازون:

من الضروري أن تدخل إلى الغابة لتعرف سرها، فإذا ما فعات، طغت عليك تدريجيا كل مظاهر الغابة الاستوائية، فالغابة مكان يحدث فيه أقسى صراع من أجل الضوء والحياة، صراع جذع ضد جذع آخر.. وورقة شجر ضد ورقة أخرى، نباتات تتدافع وتتزاحم كل تهدف لأن تعتلى الأخرى، وعملاً النبات كل فراغ، وترتفع.. ترتفع الأغصان والأوراق حتى تتجاوز هذه وتلك في نموها كل مستوى يمكن إدراكه، ذلك كل شيء يتحول إلى كتلة كثيفة من النباتات المعترشة قد كونت معاً نسيجاً معقداً..

ولا تستطيع أن تسير في خط مستقيم مهما كان الاتجاه الذي تقصده، بل في بعض المناطق لا تستطيع حتى أن ترقب ماذا وراء هذا النسيج المعقد، فضلا عن أن تشق طريقك وسطه، أو تسير من تحته، أو تدور حوله.

والحياة في هذه الغابة الاستوائية جد مشغولة في هذا الغسق الدائم، وفي غبشة الليل المستمر، ولكن الموت بدوره هو الآخر لديه ما يشغله، وستعرف هذا عندما تجد أمامك جذع شجرة ماني على الأرض مهاداً للسابلة، لقد فقد هذا الجذع معركة البقاء، هزم في صراعه من أجل الحياة، وتستطيع أن تقدر ما حدث لأنك ترقب شجرة تموت أمام عينيك، ترقبها وهي تسقط بين برائن شجرة من الأشجار الطفيلية، والأشجار الطفيلية أنابيب ماصة تمتص ما في الشجرة التي تلتف حولها من العصارة، ثم تطوق بأغصانها الشجرة متقدمة من فرع إلى آخر.

وتعرف إذ ذاك أن الشجرة ستموت لتوها، وستسقط إلى الأرض، وستبتي ملقاة مهاداً للسابلة كهذه الكتلة الخشبية التي في موطئ قدميك، ثم تحتاج بعد هذا إلى مئات السنين كي تنمو من جديد..

ولكن في الأسف والأسى هنا وماذا هي شجرة واحدة، بل ماذا هي مائة شجرة حيث يوجد عدد لا حصر له من ملايين الأشجار؟ هذه هي غابة الأمازون التي تمتد من ساحل الأطلنطي عبر أمريكا الجنوبية حتى جبال الأنديز.

والآن، وقد اعتادت عيناك الضوء الأخضر القاتم، ستلاحظ أن أشجار الغابة مختلفة الطول متباينة الارتفاع، وستجد أربع طبقات منها، وتتوالى هذه الطبقات الواحدة تلو الأخرى.

أرض غابة الأمازون:

ستجد أرض الغابة مغطاة بطنفسة (سجادة) من النباتات القصيرة، وهي طنفسة كثيفة حتى إنها لتحجب عن النظر الأشجار التي تسقط إلى الأرض، تحجبها فلا تكاد تبين لولا أن تصطدم بها في مشيتك، وتعدو هذه الطنفسة بمجموعات من نباتات رقيقة، من النخيل الواهن الأهيف، وتكون الطبقة الثالثة من الأشجار التي تعيش في الظلال، وهنا نجد ألواناً مختلفة من النخيل ومن الصبار ومن السرخس ثم تعلو هذه طبقة رابعة من الأشجار الضخمة التي تواجه أطرافها السماء وتمتد مثل المظلة فوق غيرها من النباتات. وتتلفت من حولك محاولا أن نحصي مختلف أنواع النباتات في هذه الغابات المتشابكة المتتالية، ولكن سرعان ما تفقد المحاز والسبيل.. وتخطئ: العدد، وتعرف أن في غابات الأمازون من ألوان الأشجار ما يزيد على عددها في أي مكان آخر من العالم، ولك كل الحق في تقديرك هذا، ففي غابات حوض نهر الأمازون تجد نماذج تسعة أعشار أنواع النباتات التي في العالم.

وهذا التنوع في الغابة ساحر مثير، ومن النادر أن تجد في هذه الغابات الفسيحة شجرتين متجاورتين من نوع واحد، ونحن الذين نعيش في منطقة الجو المعتدل قد أعتدنا رؤية مناطق فسيحة مزروعة بنوع واحد من الأشجار، نعرف غابات البلوط والسنديان والصنوبر، كما نعرف غابات فيها على الأكثر ما يقرب من اثني عشر نوعاً من الأشجار تتكرر المرة بعد الأخرى، أما في غابات الأمازون فمع أنك قد ترقب مجموعة من النخيل أو من أشجار الغابة ترى المئات من الأشجار المختلفة متشابكة معاً.

النباتات في غابات الأمازون:

وفي مناطق كثيرة من الغابة مناطق لا تزيد مساحتها على الفدان الواحد، ومع هذا نجد فيها عشرات الأنواع المختلفة من النباتات، وقد أحصى أحد العلماء مائة وسبعة عشر نوعاً مختلفة من الأشجار الخشبية في منطقة لا تزيد مساحتها على كيلو متر وربع كيلو متر مربع. | ولكن الكثير غير هذا يستحق الملاحظة، فبين الأرض وبين أغصان الأشجار مسافة طويلة، وفي هذه المسافة تصطنع بعض الأشجار تركيبات لتدعمها، دعامات مثل تلك التي نضعها لأبنية الكنائس القديمة، على أن بعض الأشجار قد تتعدد جذورها مما يجعل قاعدتها كبيرة تغطي منطقة كبيرة من الأرض.

ومع أنه لا يوجد في الغابة إلا القليل من الخشب الرقيق.. ولا يوجد من الأشجار المفرطة الاخضرار إلا العدد القليل نسبيا، تظل الغابات خضراء اللون دائما طول العام، فلا تعرف الغابة موسم تساقط أوراق الأشجار، فجر الأحراش الدافئ لايرغ الأشجار على أن تخلع عنها رداءها من الأوراق لتبدأ سبات الشتاء..

وتلقي فراشة ضخمة تشق طريقها نحوك، فراشة براقة اللون، وستدهش الجمال لونها ولكبر حجمها، ولا تظنها نادرة، فحوض الأمازون موطن الفراشات وستجد في أرض الأمازون من الفراش ما لا تجده في أي مكان آخر من العالم وفي كل أوربا ثلاثمائة وواحد وعشرين نوعاً من الفراش، ولكن في حوض الأمازون وفي جولة الساعة واحدة في ضواحي مدينة بيليم Blem البرازيلية جمع أحد العلماء سبعمائة فراشة مختلفة الأنواع.

الحشرات في غابات الأمازون:

وللحشرات نصيبها من الغابة، مثلها مثل النباتات، وهنا تجد كل ما يمكن أن نتصوره من الحشرات من الفراشة بطول سبع بوصات إلى الخنفساء بطول ست بوصات إلى الحشرة الدقيقة التي لا تزيد على ذرة من الغبار وتجد أيضاً النمل القارض، وتفرض هذه المخلوقات العجيبة بأنيابها أوراق الأشجار، وتأخذ ما تقرضه إلى مواطن إقامتها، وتحمل كل نملة ما قرضته من ورقة الشجر عاليا كالمظلة، ثم تسير المجموعة كلها في نظام منسق كما يسير الجند في قولات متراصة، ولا تستطيع أن تفعل شيئا إلا أن تفسح الطريق للقول النمل يتابع سيره، لأنه لا يجوز التدخل ضد ضدد قبل النمل عندما يكون في إغارة للغزو. وإذا ما دخل النمل مستوطنة ما، هرع الأهلون فاحتملوا أطفالهم، وقادوا ماشيتهم، وفروا من قريتهم لا يلون على شيء، فالفرار أمام جيش النمل أفضل من التوقف لقتاله.

وهذه الفراشة التي رأيتها من أجمل الأشياء التي ستراها في الغابة، والحشرة الصغيرة لها مظهرها الأخاذ من حيث اللون في الغابة، ذلك لقلة الألوان في هذه الغابة الاستوائية، ولعلك سمعت شيئاً غير هذا.. ولكن الواقع أنه لا توجد في الغابة غير ألوان قليلة فيما عدا اللون الأخضر، صحيح أنه توجد في الغابة بعض الأزهار ذات الألوان البراقة، ولكن من النادر أن تجد حشداً كبيراً من الألوان متراصة متجاورة، ومن السهل أن تدرك هذا، فإن أزهار الأشجار هي بدورها خضراء اللون بعامة، وحتى لو لم تكن خضراء اللون فإنها تسقط بسرعة، وقد ترقب اليوم شجرة مزهرة، فإذا جاء الغد ضاعت الأزهار، وتساقطت إلى الأرض ولاثني عشر شهراً قادماً لا تزهر الشجرة.

عن وصف غابة الأمازون:

لا تتعدد الألوان في الغابة، ولكنك لا تقول: كم هو جميل هذا! بل على النقيض فإنك تفكر: كم هي قاسية هذه الوحدة.. وكم هي مقفرة قائمة كئيبة هذه الحياة هنا ؟!،

تعيش الغابة في صمت موحش.. فلا تسمع صوتاً، بل أنت لا تسمع السنجاب وسط الأشجار الحافة اليابسة، ولا تسمع صوت الصيدناني من السناجيب وهو ينهر صغاره أو يعنفها، ولا صوت حوافر الغزال في أثناء سيرها على الأرض الجافة الصلبة، لا تسمع صوت فأس أو منشار قاطع، ولا صوت صفير قاطرة، ولا أزيز طائرة، وكل ما يمكن أن تسمعه من حين إلى حين صوت طائر.. أو قد تقطع حبل الصمت صرخة فزع عندما يمسك النمر الأمريكي الأرقط أو تسقط الأفعى الرقطاء على حيوان صغير فجأة في غفلة منه. وتبدأ القردة المولولة النادبة يومها صباحاً، كما تنهيه مساء، بالضجة والضوضاء.

وقد تسقط شجرة، أو قد يسقط غصن كبير من شجرة فيثير هذا أو ذاك ضجة طارئة لا ندرك كنهها ولا تستطيع تبينها ومعرفة سببها، وتسمع صوتاً كطرقات قضيب من حديد فوق جذع شجرة جوفاء، وتتلفت من حولك فلا ترقب شيئاً، ويقول الهنود المحليون عندما يسمعون صوت الطرقات الأصوات التي لا يستطيع السكان المحليون معرفة أسبابها.

والتأثير الذي تتركه الغابة في كل فرد، حتى في العلماء الذين تمتلئ الغابة بكل ما هو هام بالنسبة إليهم، تأثير مليء بالشعور بالسعة والكتابة والوحدة والصمت، ومن الغريب أن المواطنين المحليين يتشبثون بالبقاء في جوار النهر، ومن النادر أن ينتقلوا إلى داخلية البلاد..

ثم جاء وقت تيقظت فيه الغابة وكل هذه الشبكة الكبيرة من الأنهار برغ هذه العقبات والصعاب التي قامت في طريق الإنسان، كان هذا عندما اشتدت الحاجة إلى المطاط العجلات السيارات والدراجات عند فجر اختراعها وكانت غابات الأمازون هي وحدها التي بها المطاط اللازم لهذه الصناعة، ولكن عندما بدأت مزارع المطاط في الشرق إنتاجها الفخر انتهت الضجة التي قامت في غابات الأمازون، ذلك لأنه لا يمكن مقارنة مطاط الغابة الذي بنمو وحده بمطاط المزارع الذي يمكن جنيه في سهولة ويسر وبنفقات قليلة، في المزرعة تتجاور كل أشجار المطاط على حين اننا لا نجد في كل فدان من أرض الغابة أكثر من شجرة واحدة من أشجار المطاط.

أشجار وأعشاب غابات الأمازون:

على أن الغابة الفسيحة قد تستيقظ من جديد وتعلو فيها أصوات البشر، وتكثر الحركة في مجرى نهر الأمازون جيئة وذهابا، ذلك لأن في الغابة الكثير من النافع عدا المطاط، فيها الكثير من متباين أنواع الأشجار، فيها شجر البلصا Balsa أخف وأرق أنواع الخشب، وفيها الشجر السميك الخب والذي ينغمر في الماء فلا يطفو على سطحه لثقله، وفيها أيضا جوز كاشو Cashew ants والجوز البرازيلي، وفيها الأشجار التي تعصر لإنتاج الزيت، وفيها أشجار الأرنوتو Arnoto التي تستخدم لصباغ الزبد والحين، ويوجد الشمع الكرنوبي Carnanba wax الذي يستخدم في دهان الأحذية وشمع الأثاث وأسطوانات الحالي، وتوجد القلفونية Resins والصمغ والألياف والنباتات الطبية، ولو أن العلم استطاع القضاء على الحشرات لانتهت الغابة الفسيحة من أن تكون حرجا كثيفا ودغلا موحشاً، واتخذ الأمازون مكانه الصحيح بين أنهار العالم التجارية.