النيل أشهر أنهار العالم، وهو نهر يجري في إفريقية لخدمة ونفع شعوب كثيرة، ولكنه بخاصة نهر جمهورية مصر العربية، ذلك لأن النهر وحده هو الذي يجعل الحياة رخية في أرضها المعدومة المطر.

أهمية نهر النيل لمصر تاريخياً:

ولو أبعدنا النيل لكانت جمهورية مصر العربية جزءاً آخر من الصحراء، ولاختفت زراعات القمح، والشعير، والذرة، والقطن، وأشجار النخيل، ولاختفت الحدائق التي تستهوي النظر، ولضاعت المدن بتجارتها وصناعاتها وفنونها، ولتهيئلت المباني في بطء إلى تراب، ولبقي فقط بعض البدو الرُحل يقودون قطعانهم إلى بعض الواحات ذوات الينابيع عبر هذه الرمال المحرقة.([1])

ولكن كيف أوجد النهر هذا كله للمصريين؟

إن النيل هو الذي منح جمهورية مصر العربية الأرض الصالحة للزراعة، والنيل هو الذي يخصب الأرض عاماً بعد آخر، ويحدث هذا بطريقة مبهمة غامضة، في نحو منتصف الصيف يبدا الفيضان، ويتملك النهر الأرض المنبسطة على كلا جانبيه، وملائة يوم تغطى المياه الأرض، ولكن عندما تنحسر المياه فإنها تترك وراءها طبقة رقيقة جدًا مستوية من طين أسود اللون غنية بالحصب يبذر فيها الفلاح المصرى الحَب.

وهذا الشريط الضيق من الأرض على طول النهر الذي لا يتسع في المتوسط لأكثر من عشرة أميال مع المريحة التي كونها النهر عند مصبه، هي كل الأرض الصالحة للزراعة في جمهورية مصر العربية الآن، ولكن التربة خصبة بقدر كبير حتى إنها أمدّت المصريين بالغداء منذ عصور مغرقة في القدم، عصور أبعد من العصر التاريخي الذي سجله الإنسان: ومنذ ستة آلاف سنة - عندما كانت أوربا لا تزال أرض الصيادين المتوحشين - كانت حُقول القمح تغطى أرض وادي النيل.

مصر ونهر النيل تاريخياً:

والنيل بخاصة نهر جمهورية مصر العربية، ولكنه أيضا بعامة نهر كل فرد، ذلك لأن على شاطئيه بدأ الكثير من تاريخ الإنسان، فهناك قامت بعض المدن الأولى، وعلى شاطئيه أيضاً تطورت الكتابة والرياضيات وعلم الفلك، وهنا قامت بعض الحكومات الأولى، وهنا كان الطابع الذي نعيش تبعاً له: ولنعد بالزمن إلى الوراء لنرى أولئك الذين صنعوا هذا كله عندما جاء هؤلاء الناس لأول مرة إلى النهر، وذلك لأنهم كانوا مهاجرين نزلوا أرض النهر من مناطق أخرى، ولننظر كيف ولماذا فعل هؤلاء هم والنهر مثل هذه الأشياء العظيمة؟

وكان هذا في نهاية عصر الجليد، كان شمال أوربا مغطى بالثلج بسمك مئات الأقدام، وكان شمال إفريقية يوم ذاك صورة أخرى غير الصورة التي نراه عليها اليوم، لم تكن هناك صحراء، كان كل شيء أحضر، وكانت الأرض كلها مغطاة بالحشائش، وكانت الأمطار غزيرة.

وبينما كان (المأموت (Mammoth، والصناجة، من أسلاف النيل والخرتيت (الكركدن) ، و الرنة Reineer)) نرى في جنوب إنجلترا وفرنسا: كان شمال إفريقية كجنة عدن، تعيش فيها وتطع قطعان كبيرة من الفيلة والظباء Antelpe كانت منطقة واسعة للصيد، كانت جنة للصيادين.

 وانتهى عصر الجليد، وبدأ تغير مخيف في شمال إفريقية، فلقد تحولت الأمطار للشمال، وبدأت الحشائش تجف.. فشهراً إثر شهر تغطى أشعة الشمس المحرقة الأرض ولا تتساقط الأمطار، وتحركت القطعان الجائعة نحو الجنوب.

وتحولت الحنة الخضراء إلى صحراء بسرعة: وواجه الصيادون تحدياً مرعباً مُخيفاً حقًا، فإمَّا أن يواجهوا هذا التحدي، وإمَّا أن يموتوا: ومات البعض: كانوا يواجهون كارثة: "نكبة"، دون أن يستطيعوا القيام بعمل ما، فهم لا يستطيعون تغيير أسلوبهم في الحياة.

ولا يستطيعون الانصراف عن أرضهم، ولكن أولئك الذين لم يموتوا كانوا من نسيج أقوى، وقد وطدوا أنفسهم على البقاء وعلى مقاومة التحدي: وقد ذهب البعض شمالا، وذهب آخرون جنوباً، ولكن البعض بقوا حيث هم وأقاموا، ولكنهم انصرفوا عن الصيد وتحولوا إلى رعاة يتجولون في أرض آبائهم.

ولكن البعض كانت لديهم استجابة للجفاف، كانت استجابتهم أجراً الاستجابات، ذلك لأنهم قرروا اتخاذ أسلوب جديد في الحياة، أسلوب، جديد في الأرض الجديدة، وستظل أنظارنا على هؤلاء الشجعان، ذلك لأنهم هم أول من أوجدوا المدن على شاطئ النيل.

نهر النيل تاريخياً:

ولكن كيف نظر هؤلاء الناس الذين عاشوا في شمال إفريقية للشرق نظرات مليئة بالأمل عندما دفعوا دفعاً من وطنهم بسبب الجوع، كانوا يعرفون أن في الشرق أرضاً مخضلة، لقد جاءه صيادوهم المتجولون بأنبائها، وبأنه يمكن اصطياد فرس البحر Hippopotemns هناك.

ولكن عندما رحلوا إلى الأرض الجديدة اهتزت معنويات الناس، كانت هناك رقعة متسعة تعلوها نباتات نامية، ولكنها ليست أرض المروج النافعة المفيدة، وليست أرض الحشائش، كانت مستنقعات مقفرة موحشة، تعلوها سحابات متراصة من البعوض. فهل كان هذا هو النهر الذي حدثهم عنه صيادوه؟

خاف الكثيرون من الرجال والنساء من المنظر، لم يكن هناك نهر محدد المجرى، كان نهرالنيل عبارة عن مستنقع حرشي لا شكل له، مستنقع واسع من خمس عشرة قدماً ترقد التماسيح المخيفة وسطها وقد فتحت أفواهها: ولكن لم يكن من سبيل لينكص هؤلاء المهاجرون على أعقابهم، لم يكن هناك ما يرتدون إليه، ففي الأرض التي عاشوا فيها كان الغذاء يقل عاماً بعد عام، ومن ثم كان من الضروري أن يبقوا حيث هم، حيث يمكن – على الأقل - أن يجدوا فرس البحر، أن يبقوا ليزرعوا الأرض، وليرووا النبات بالمياه التي يجيئون بها من المستنقع.

كان هؤلاء الناس في أوطانهم رحلا يتجولون ولا يستقرون، ولم يعرفوا الزراعة، كانوا يجمعون الفاكهة والبذور البرية، ولكنهم الآن ودون مهارة أو تأكد زرعوا الحبوب.

وفي البداية زرعوا الحب هنا وهناك على حافات المستنقع ناقلين المياه إلى غاية ما يستطيعون لري حقولهم، ولسرورهم نما القمح وكان توفيقهم كبيراً، فقد جنوا من كل حبة زرعوها مائي حبة، وسرعان ما ازداد طموحهم، وخطرت لهم فكرة اكتساب الأرض من المستنقعات، كانوا يريدون زراعة مناطق أوسع وأوسع وبدءوا يمهدون قطعاً من المستنقع الحرشي (الدغلي) وحفروا الحفر لتصريف المياه بعيداً.

ولمئات السنين، بل ربما لآلاف السنين، تحولت المستنقعات قدماً بعد قدم إلى أرض جافة، وتراجع النهر. كان النهر يجمع نفسه من البحيرات الضحلة والمستنقعات.

وبدأ النهر يجري بسرعة أكبر ويحفر مجرى أضيق وبعمق أكبر، وتعلم النيل أن يجري كما تجرى الأنهار.

ولم يعد ثمة خوف من جوع، كان سكان إفريقية - عندما كانوا يعيشون حياة الصيادين - يعيشون إما في وليمة عيد لوفرة الصيد، وإما في جوع وفاقة. ولكن منذ تحولوا إلى حياة الزراع توافر الغذاء الذي يمكن أن يخترنوه ويدخروه للحاجة مستقبلا.

وتزايد هذا المدخر عاماً بعد عام، وفي وقت ما يزيد المدخر حتى لا تكون من حاجة، لأن بعمل كل الناس في زراعة الأرض ويمكن أن يوجه البعض الأعمال أخرى - وبخاصة بعد أن اخترع المصريون المحراث واستخدموا الثيران، وصنع رجل الآنية من الفخار، ونسج ثان القماش، ودبغ ثالث الجلد، وصنع رابع طوب البناء، ووجد الصناع أنه من الأرفق أن يقيموا متجاورين، ومن ثم بدأت الجماعات المستقرة.

وكان النهر هو المشكلة الكبرى، ففي كل مرة يعلو الفيضان تمتلىء القنوات بالغرين، ويكون من الضروري إعادة حفر القنوات، ومن الضروري استمرار تصريف مياه المستنقعات لتجفيف الأرض، أي لإيجاد أراض جديدة، وكان هذا يتطلب أن يعمل الكثيرون من الرجال معاً متعاونين، ولكن كان من الضروري أن يتم هذا العمل وفقا لخطة مدروسة، وأن يكون هناك قادة ينظمون عمل أولئك الذين يحفرون الأرض: وهكذا ولدت الحكومة،

وكان واجب حفر القنوات سهلا هينا عند مصب النهر، حيث يتفرع النيل إلى مجار صغيرة كثيرة العدد، وحيث يتخلى النهر عما يحمله من الغرين.

وكانت قد تكونت هناك بين فرعى النهر جزيرة كبيرة مثلثة الشكل تشكل حرف والدال، الحرف الرابع في أحرف الهجاء الإغريقية ويسمى «دلتا»: على أن أحرف الهجاء لم تكن قد اخترعت بعد..

وهي لم توجد قبل آلاف غابرة من السنين، ولكن في أيام قادمة سنطلق على هذا التكوين لمصب النهر اسم والدلتا، ثم تجرى هذه التسمية مجرى العرف وتطلق على مصاب كل أنهار العالم مهما كانت الصورة التى يجيء عليها هذا المصب.

مصر السفلى ومصر العليا:

وأطلق المصريون الذين عاشوا في الدلتا على بلادهم اسم: "مصر السفلى"، لأنها إلى الأسفل من مجرى النهر.

وكان الناس الذين يعيشون لأبعد من هذا إلى الجنوب يقولون عن بلادهم: "مصر العليا"، ولما كانت السيطرة على النهر في أرض والدلتا، عند مصب النهر أيسر منها للجنوب على النهر، تطورت مصر السفلي وتقدمت واستطاعت أن تغزو "مصر العليا"، فلما حكم مصر السفلي ومصر العليا ملك واحد خضع له ملايين الناس واستطاع أن يجمع منهم الضرائب..

وهي فريضة تؤخذ من ثمار الأرض من الحبوب، وكلما زاد المحصول زادت جملة حصيلة الضرائب. ولهذا كان من الطبيعي أن يعني الملك بزيادة غلات الأرض من الحبوب، ونظم جمع الشبكات المحلية لقنوات الري في شبكة واحدة موحدة للبلاد كلها، وبذلك يمكن حرث وزرع وإرواء مزيد من الأرض، ومن ثم كانت مصلحة الري هي العمود الفقري للحكومة.

وكان النهر دائما محط أنظار كل فرد، فهو يؤثر في كل خطوة يخطوها الناس للتقدم، وعرف المصريون متى يمكن أن يتوقعوا الفيضان، كان عليهم أن يحدقوا في السماء بحثا عن علامات خاصة، يراقبون النجوم ويجمعونها معاً في صور ساوية كوكبية، عرفوا كيف تبدو السماء قبل بدء الفيضان، وهكذا أوجدوا نقوماً.

فلما عرفوا كيف يقيسون "الوقت"، استطاعوا أن يسجلوا الحوادث، سجلوها بصور ورسوم كل منها يمثل فكرة.. ولكن مع الوقت، ومع مرور الأيام، كانت هذه الصور والرسوم تدل على أصوات، وهكذا كان أن اخترعوا الكتابة.

ولكن على أي شيء يكتبون؟ الأحجار، الفخار، الخشب، العظام، كانت كل هذه ثقيلة الظل تمجها النفس، وتحول المصريون إلى النهر ينشدون معونته، ولم يخيب النهر أملهم فيه، كانت تنمو في مستنقعات النيل حشائش طويلة هي "البردي"، تنمو في أجمات ودغل كثيفة وتعلو لارتفاع ثماني عشرة قدماً، وكان المصريون يستعملون هذه الحشائش في أغراض شتى، وقطعوا عيدان البردي في أشرطة دقيقة ثم جدلوها معاً متقاطعة ثم ضربوها وضغطوها حتى صارت صفحة رقيقة، وبذلك صنعوا الورق.

ولكن بماذا يكتبون؟

وأعطاهم النهر الغاب والبوص، عيداناً مدببة الأطراف فاستعملوها كأقلام، وأخذوا من المجرى ماء زادوا من سمكه بصمغ نباتي مزجوه بسناج (هباب القدور) والأواني الفخارية التي سودتها النيران، وهكذا حصلوا على المداد | (الحبر).

واستحث نهر النيل المصريين وأثارهم من مناح متعددة، أرغمهم على تعلم القياس، ذلك لأنه بعد أن ينتهي الفيضان تكتسح المياه الحواجز والسدود والجسور وتسد الحفر، فكيف يستطيع مزارع أن يعرف أين تنتهي أرضه وأين تبدأ أرض جاره؟ كانوا في البداية يقيسون الأرض جزافاً لتسوية كل المنازعات، ولكن عندما بدءوا البناء بات القياس فا، عرفوا كيف يقسمون المسافات بدقة أدهشت العالم، حتى إنهم أخجلوا رجال العمارة في عصرنا الحالى.

ولم يكن المصريون قد عرفوا البناء بالأحجار بعد، فلم تكن لديهم آلات حديدية القطع الأحجار، واستخدموا في البناء و قوالب من الطين المجفف بالشمس، ولكنهم مع الأيام حصلوا على النحاس، وصنعوا منشاراً قاطعاً من النحاس بطول تسع أقدام، وبهذه المناشير قطعوا كتلا كبيرة من الأحجار لم يسبق لأحد أن استخدمها في البناء، وقطعوها بإحكام ودقة حتى كان معمار يوهم أشبه بالجوهريين، مع فرق واحد هو أن المعماريين يقيسون أحجارهم على أساس الفدان لا البوصة، وكانت قبورهم وهياكلهم عجيبة العصور ومفخرة الزمن، وبقيت خرائب هذه الهياكل والمقابر بعد قرون من انتهاء المصريين القدامى على شاطئ النهر ينظر إليها العالم كله بإجلال ومهابة.

--------------------

هوامش:

[1] كُتب هذا الموضوع في مصدره منذ أكثر من 50 عاماً، وربما يقصد بهذا مصر القديمة، فمصر حالياً تتعدد مواردها على الرغم من الأهمية القصوى لنهر النيل.