نهر يانجتسي - كيانج

يقولون في الصين السفينة الصغيرة التي تحمل المتاجر عبر النهر: "ينك"، ومن المناظر المألوفة في مجرى نهر يانجتسي - كيانج، أن ترقب هذه "الينك"، مثقلة بالمتاجر تشق طريقها ببطء في إجهاد عندما تصل إلى أصعب مرحلة في رحلتها مجتازة فجاج يانجتسي الخطرة حيث تغلق الصخور الوعرة جزءاً من مجرى النهر في كلا جانبيه، وحيث ترغي المياه وتزبد في اندفاعها وسط المساقط والدوامات.

ويستهويك المنظر، ولكن إذا ما رفعت بعينيك إلى الكتلة الصخرية في مواجهتك رأيت منظرا آخر مخيفا، ستري در با ضيقا قطع في الصخر، والدرب ضيق حتى إن الركل والإيذاء لن يدفع بجواد أو حمار ليسير فيه، ومع هذا ترى على طول الدرب سبعين أو ثمانين قد انحنوا وكأنهم يسيرون على أربع من الجهد الذي يبذلونه، فقد ربطوا (ألحموا (إلى حبل، وعد ببصر مع الحبل إلى أسفل تجده مربوطاً إلى السفينة الصغيرة، إن الرجال يجرون والبنك وفي النهر.

إنه لشيء مخيف أن ترقب مخلوقات بشرية تعمل كما كان رقيق السفن الشراعية يعملون في الزمان القديم، والرهيب أنهم يخاطرون بأرواحهم حيث ترفض الوحوش السير، ولكن عملهم هذا شيء عظيم، ذلك لأن هؤلاء الرجال الذين انحنوا نحو الأرض في الدرب الضيق هم رمز انتصار الإنسان على الطبيعة، في فجاج يانجتسي قهر الإنسان أصعب أنهار العالم. وقد تسأل نفسك: (هل يستحق قهر نهر ما كل هذا الجهد.. وبكل هذا الثمن.

وسيجيبك الصينيون: لا خيرة لنا في هذا، فنحن لا نستطيع الحياة بغير النهر، إنه هو الطريق الوحيدة، وعشرات المدن العظيمة ومئات المدن الصغيرة لا يربطها بالبحر غير هذا النهر، ثم إن نصف تجارة الصين كلها النهر.... هذا الذي يسميه الملايين في بساطة وكيانج، إنهم يطلقون عليه «تا كيانج، أى النهر العظيم، أو يقولون عنه: ۱ شانج كيانج، أي النهر الطويل. ولا يمكن أن يشك فرد فيما يعنيه هذا النهر بالنسبة للصين، ذلك لأن يانجتسي هو الطريق الرئيسي في الصين، إن النهر يجرى عبر أرض الصين من الشرق إلى الغرب قاطعا إياها إلى قسمين متساويين: أحدهما الشماله، والثاني لجنوبه. وتنصرف مياه النهر في ثلث مساحة الصين كلها، ويعيش في حوضه مائتا مليون من الناس هم عشر مجموع الجنس البشري، وكلمة «النهر، وحدها كافية لتطلق على هذا المجرى المائي العظيم. ولكن ما مكانة هذا النهر بين أنهار العالم؟

فإن يانجتسي ليس أطول أنهار العالم، ولا هو أوسعها ولا أقواها، فأين يمكن أن يكون مكانه إذن بين أنهار العالم؟

أهمية نهر يانجيتسي عالمياً:

من الضروري أن تمنح النهر مكان الشرف كأم نهر في العالم، ذلك لأنه يخدم أناساً أكثر عدداً ممن يخدمهم أي نهر آخر. ثم هو يؤدى للناس الذين يعيشون في حوضه خدمات هامة حاسمة، وبهذا - إلى غاية ما يمكن أن يكون للكلمات من معنى - فإن نهر يانجتسي شريان الحياة للصين، فهو ليس بالهر التجاري الذي تنقل المتاجر عبره وتوزع فحسب، إنه هر زراعي أيضاً، ولو نظرت إلى نهر يانجتسي من عل وأنت في طائرة، لوجدت النهر يروى بمياهه ملايين المزارع في كل الأرض من حواليه.

وتمتد من النهر شبكة من الحفر.. ومن عل تبدو هذه الحفر كطرقات مدينة، وتمتد هذه الحفر إلى مزارع صغيرة، مزارع في مساحة حدائق الدور حيث يعمل النساء والرجال عملا لا نهاية له، وبالات يدوية عرفتها العصور القديمة يزرعون الأرض ويمدونها بالمخصبات وينقلون النبات ويستأصلون النباتات الجنوب نهر يا نجتسي ترى الفلاحين يعملون على «العجلات الدراسة، لإخراج المياه من باطن الأرض إلى أحواض من الخشب لغمر حقول الرز، ذلك لأنه إلى جنوب با نحتسي تقع كل حقول الرز في الصين، أما للشمال من النهر فتوجد حقول الغلال والذرة والحبوب.

والغريب أن هذا النهر الذي يعتمد عليه عشر مجموع الجنس البشري تجرى لنصف طوله دون أن يكون له أي نفع للناس، فمنبعه في الأرض العالية الموحشة في شمال التبت، ويندفع النهر ساقطاً لارتفاع ثلاثة أميال ثم يطغى ويتعثر لمئات الأميال في خندق عميق موحش، ويملأ النهر هذا الخندق الضيق، وتندفع مياهه ترغي وتزبد وسط الجدران العالية الوعرة التي تحتجزه، إنه يسير نثورة غضبه وسط ظلال مخيفة، فهو نهر غير مروض، ثم هولا يصلح للترويض.

وفجأة يتحول النهر متجها للشمال، ثم يتعرج في سيره نحو الشرق، وهنا يلتقط النهر بعض فروعه وروافده، ويصطدم بالحبال فيشق ممرات ضيقة عميقة وسطها، وفي الألف الميل الأخيرة من رحلته التي تصل إلى ثلاثة آلاف ومائتي ميل يكون يا نجتسي النهر المرح المشرق الذي تمجده بلاد الصين وتباركه.

فإذا ما خرج النهر من هذه النجاج حدث تغير كبير فيه، فإنه يسير متموجاً متعرجاً وسط أرض خصبة كانت يوماً ما أسفل سطح البحر، وهنا تنتهي الوحدة الموحشة التي كانت طابع النهر، فتقوم على جانبية المدن والقرى والمزارع، ولكن المناطق الرملية المضللة للسفن لا تزال قائمة في بعض نقاط مجراه، | على أن النهر على طول مجراه بعد ذلك حتى مصبه يكون مليئة بالحركة، فنجد المئات والألوف من البنك وغيرها من السفن التي تسمى السنبان بأشرعتها المرقعة وسفن الصيد والسمن النهرية من حجوم مختلفة متباينة كبيرة وصغيرة تمخر النهر جيئة وذهاباً.

والعائمات والمنازل النهرية المشيدة على القوارب تمخر النهر متجاورة بالآلاف مكونة مادنة طافية فوق الماء، ويتأثر لون مياه النهر بالطمي الأصفر الذي جاءت به في اندفاعها وسط السدود والخوانق والفجاج، فإذا ما اقترب يانجتسي من مصبه أسقط عنه الطمي الأصفر ليقيم دلتا عظيمة فسيحة، وعلى مسافة كبيرة من الساحل يكسو الطمي الأصفر بحر شرق الصين باللون الأصفر.

ويقص علينا العلماء أن حضارة الصين لم تبدأ على هذا الطريق المائي الرئيسي، بل بدأت على نهر طويل آخر للشمال منه، هو نهر هوانج هوا. النهر الذي نقول عنه: "النهر الأصفر".

ويبدي الصينيون أسفهم وألمهم عند حديثهم عنه، لأن النهر كثير الفيضان، ثم إن فيضانه مخيف رهيب،ولا تكثر الحركة على نهر هوانج هو، إذ تسده الحواجز الرملية.

ولكن من الواضح أن النهر لم يكن كذلك منذ أقدم العصور، فمنذ ألفين وخمسمائة سنة عني الصينيون بحفر قناة تربط «هوانج هوة بنهر يانجتسي، وفي تاريخ لاحق مدوا هذه القناة العظيمة شمالا إلى بكين وجنوباً إلى وهانحشار، وبذلك كانت جملة طول القناة ألفا ومائتي ميل (۱۹۳۰ كيلو مترا )، وقد غطت الرمال جزءاً من هذه القناة الآن، ولكن الجزء الذي بين النهرين لايزال قائمة، فهي دليل واضح على أن الصينيين كانوا منذ عصور مغرقة في القدم مهندسين مهرة.

ويقول العلماء: إن الحضارة بدأت على نهر هوانج هوفي نفس الطابع الذي بدأت فيه الحضارة المصرية القديمة، قامت بسبب الحاجة إلى العمل للسيطرة على النهر، فقد كان النهر يوم ذاك يحمل ركاماً من الغرين الأصفر كل صيف فيسد الغرين مجرى النهر، فيحدث الفيضان وتطغى المياه على جانبي النهر فتغرق المزارع والقوى، وشحذ المهندسون الصينيون عقولهم، وفكروا فيها يجب أن يفعلوه وكانت لدى مهندس اسمه «يوه فكرة، وكل الأعمال العظيمة كانت في البداية فكرة، وبدلا من أن يرتفع الرجل بجدارى النهر قرر أن يزيد من عمق مجراه، وكان نجاحه عظما حتي اختاره الناس إمبراطورة على الصين.

ويقال: "إن ديو" قد عمل لتسع سنوات حتى عاد بمياه النهر إلى المجرى الصحيح، في هذه السنوات التسع لم يفكر الرجل فيما يأكل أو يلبس، شغلت كل حواسه بالعمل حتى إنه ليمر بباب داره فلا يلتقي بنظره إلى داخله لو سمع صوت بكاء طفله، ويذكر الصينيون د يوه حتى اليوم، لأنهم يذكرون دانما كلمات قديمة جاء فيها: «ما أعظم ما حققه” بو “ولولاه لكنا اليوم أسماكا تسبح في الماء».

ولكن النهر الذي سيطر عليه «يو» يعتبر اليوم من الأنهار القائلة للجنس البشرى، فالمجاعة تجيء في أعقاب الفيضان، وتقتل المجاعة عدداً أكبر من يغرقهم النهر، والمشكلة هي صعوبة مواجهة تراكم الغرين الذي يرفع من قاع | مجرى النهر، حتى إنه في بعض أجزاء النهر يجب الارتفاع بالجسور لخمس

أو ست أقدام في كل سنة: ويحتاج نهر يانجتسي أيضاً إلى زيادة ارتفاع جسوره، وهو يقطع كل مجراه السفلى بين جدارين من صنع الإنسان، ومع أن النهر أقل تدميراً وإتلافا من "هوانج هو"، إلا أنه ليس سلس القيادة دائماً، فين الحين والحين يثور النهر ويهدم جداره في بعض النقاط، وتدمر القرى وتضار المدن وتغطى آلاف الكيلومترات من الأراضي الزراعية بالمياه، وقد فقد خمسة عشر ألفاً أرواحهم نتيجة لفيضان سنة ۱۹۱۱

ولكن الصينيين شعب صبور، وهم لا يشكون نهر يانجتسي، فهو يبدو رحيما بهم مترفقاً عندما نقارنه بنهر هوانج هو، وهم يعتبرون فيضانه شيئا رتيبا، ويتحدث أولئك الذين يفهمون هذه الأشياء، يتحدثون عن خزان يمكن إقامته لحجز المياه في الفجاج خلفه، ولكن الفلاحين لا يفهمون هذا.

ويقول الناس، عندما يثور النهر ويحط هذه الدعامات على جانبيه: "إن تنين النهر غاضب" ! وكل ما يفعلونه، هو أن يحملوا أطفالهم وما يستطيعون من متاعهم ثم يذهبوا للإقامة على الشواطئ العالية: فإذا ما هبط منسوب المياه عادوا ثانية إلى مناطق إقامتهم الأولى فأعادوا بناء منازلهم من الطين، وزرعوا حقولهم، وسدوا الثغرات التي شقها النهر في الجسور، وتابعوا الحياة كما كانوا يعيشونها من قبل.

إنهم يتقبلون الشر كما يتقبلون الخير، ويعتبرون الفيضان التقليدى ثمناً بخساً بدفعونه لسداد بعض ما هم مدينون به للنهر.