منذ أقل من مائة عام كان منبع النيل أكبر لغز وأحجية محيرة في علم الجغرافية. فلقد دهش الناس: وكيف أن نهراً يجري في صحراء محرقة ومع هذا لم يجف؟

في أرض مصر لا يتصل بالنهر أى رافد يعاونه ويغديه. ولا يمكن القول بأن أمطاراً غزيرة تتساقط في أرض مصر، ومع هذا فإن النهر يصل إلى البحر مليئاً قوياً.

ثم إنه لمرة واحدة في العام يغيض بالماء. شماذا يغذى النهر؟ ولأنني سنة بقي الناس يسألون أنفسهم السؤال نفسه. ولكن أحداً لم يستطع أن يسير على النهر بالقدر الذي يمكن معه أن يصل إلى إجابة عن هذا السؤال.

كان كل فرد يعرف بأن للنيل ذراعين: إحداهما النيل الأبيض – وهو المجري الرئيسي الأزرق الذي يجيء من الحبشة، أو من إثيوبيا على ما يقال لها اليوم (1)، وكان جيمس بروث الرحالة المستكشف قد سار على النيل الأزرق إلى منبعه في الحبال، وقال: إن النيل الأزرق هو الذي يمد النيل بالغرين الغني الذي يعني الحياة للمصريين، وأوضح أن الطمى كثير الخصوبة لأنه رماد يكتسحه النهر من الصخور البركانية التي يشق طريقه وسطها. |

ولكن ما هي قصة النيل الأبيض؟

من أين يجيء؟ هل يبدأ من مجاري مياه صغيرة في الجبال العالية؟

وفي تاريخ قديم عندما حكم الرومان مصر حاول الإمبراطور نيرون أن يبحث عن حقيقة هذا، وأرسل بعثة تحت إمرة ضابطين أمرهما أن يسيرا على النيل إلى منبعه، ولكن الضابطين لم يصلا إلى نهاية المرحلة حتى منابع النهر، بل ذهبا إلى أبعد مما ذهب أي فرد آخر، وعادا يقولان بأنهما وصلا إلى مستنقعات واسعة مليئة بالنباتات المتشابكة شقا طريقهما فيها، ووصلا فيها وراء المستنقعات إلى كتلتين صخريتين كبيرتين يسقط بينهما النهر.

ولكن أحداً لم يعرف ماذا وراء هذه المساقط؟ بل إن أحداً لم يعرف هل هذه المساقط حقا موجودة؟

على أنه كانت هناك قصة أخرى كان على الرحالة المستكشفين أن يبحثوا ويحققوا صحتها، ففي الوقت نفسه الذي شق فيه الضابطان الرومانيان طريقهما عبر المستنقعات قص تاجر إغريقي اسمه ديوجنيس أنباء رحلة تجارية قام بها، قال: إنه سافر في إفريقية، فعبر الأرض من الساحل الشرق، وإنه سار لخمسة وعشرين يوما حتى وصل إلى بحيرتين كبيرتين وإلى سلسلة من الجبال تعلوها الثلوج، وهو يظن أن ثلوج هذه الجبال هي التي تغذي النيل بالمياه.

وسارت قصة التاجر الإغريقي مع القرون، وكل من كتب عن النيل كرر هذه القصة، قصة البحيرتين والجبال المغطاة في قممها بالثلوج، هذه الجبال التي عرفت باسم جبال القمر، واجتذبت هذه القصة خيال الناس كما تستهويهم الأسطورة التي تقال عن الذهب.

ولكن: هل توجد حقا هاتان البحيرتان؟ وهل توجد جبال القمر؟

وبلغ القرن التاسع عشر منتصفه ولم يصل أحد إلى إجابة، وفي سنة ۱۸۰۹ | بدأ ضابط إنجليزي اسمه جون هانج سبيك رحلة إلى أفريقية ليجمع ألواناً من الحيوان، ولكنه كان في الوقت نفسه معنيا بمنابع النيل.

وقال سسك لنفسه: وربما تكون جبال القمر سلسلة ممتدة عبر افريقية من الشرق إلى الغرب، وهناك سأجد أن النيل ينبع من الثلج كما ينبع نهر الجانج في جبال الهملايا. ولكن سبيك وجد شيئاً يختلف تماماً عن هذا، وفي ۲۸ من يناير سنة ۱۸۹۲ وقف محدقاً في كتلتين صخريتين كبيرتين يسقط بينهما النهر على طنف (إفريز) صخرى.

ورأى سبيك مجرى الماء الذي يتسع لمسافة 300 ياردة بمياهه الزرقاء اللامعة بهبط المسافة ست عشرة قدماً ونصف قدم، ويتحول إلى زبد أبيض هائج متلاطم؛ وعرف أنه يطل على النيل، كان يرقب النهر وهو ينفذ من شفة بحيرة فيكتوريا ليتركها بادئاً رحلته الطويلة إلى البحر المتوسط: ولم يحاول سبيك أن يسير على النيل شمالا إلى المستنقعات، كان قد اجتاز الأرض من الساحل إلى داخل القارة في الصورة نفسها التي قال ديوجنيس الإغريقي إنه قد فعلها، وكان سبيك في رحلة سابقة له قد اكتشف بحيرة فيكتوريا وأطلق عليها الاسم الذي عرفت به كان يشعر بأنه في مكان ما من هذه البحيرة الواسعة التي تصل مساحتها إلى مساحة أيرلندة سيجد النيل يخرج منها، وها هو ذا يقف عند ذلك المخرج على مسافة 30 ميلا للشمال من خط الاستواء.

وبقي الساعات يحدق في المياه التي ترغي وتزبد، وقد اجتذب هذا المنظر تفكيره في كل شيء سواه، وراح يرقب آلاف الأسماك وهي تثب إلى مساقط النهر، وفي جو هادئ قرب أعلى نقاط المساقط كان يرى أفراس البحر وهي تفتح أفواهها الواسعة الضخمة القرمزية اللون في تثاؤب الكسالى، ورأى التماسيح تصطلي بالشمس، والماشية لا تصل إلى حافة الماء لتروي ظمأها. وهم سبيك لنفسه: «منظر ساحر يغلب لب كل من رآه».

ولكن كان هذا أقل جمالا وروعة من دهشة العالم كله حين يعرف الناس كيف يبدأ النيل الأعظم، مساقط ترغي وتزبد تخرج من البحيرة العملاقة ودهش العالم المتحضر لهذا الكشف.

وجاءت أنباء جديدة أخرى، فإن مستكفين آخرين كانوا يتعقبون خطى سبيك، وكان لدى هؤلاء جديد يضيفونه لقصة سبيك، قالوا: إنه توجد بحيرتان، لا بحيرة واحدة، وإن ثلوج جبال القمر تغذى النيل حقا بالمياه، ولكن بعد أن يترك النيل بحيرة فيكتوريا فإنه يصب لداخل كتلة مائية كبيرة لا يلبث أن يخرج منها ثانية، هذه الكتلة المائية هي بحيرة ألبرت، وهذه لا تتغذى بمياه الأمطار فحسب، بل بالثلوج التي تذوب من سلسلة جبال (روويتز وري)، ولم تكن جبال رو وبنزورى شيئاً آخر غير جبال القمر، ومن ثم فإن قصة ديوجنس حقيقية في كل تفاصيلها.

ومع هذا الاحتياطي الكبير من المياه كان النيل في مأمن من أن يجف، وهو يستطيع أن يسير لآلاف الأميال تحت وقع أشعة الشمس المحرقة، وأن يصل إلى البحر عانينا قويًا.

ولكن كانت للقصة بقية لها غرابتها، فليس النيل الأبيض بالبحيرتين اللتين تغديانه بالمياه هو الذي يسبب الفيضان السنوي، إن دور البحيرتين كان مجرد إبقاء النهر مليئا وليس لهما دور في فيضانه، بل إن هذا الفيضان يسببه النيل الأزرق والعطبرة الرافد الآخر الأصغر والذي يجيء هو أيضا من الحبشة، وبدون هذين النهرين لم يكن النيل ليفيض بالمياه برغم هاتين الخزانتين الفسيحتين المليتين بالمياه.

ولو شاهدت النيل الأزرق والعطبرة في شهور الحفاف لما صدقت أن لهما دوراً ما في الفيضان، في شهور الجفاف العشرة من كل سنة يكون النيل الأزرق مجرى ماء ضحل لا يصلح للملاحة، ويجف العطبرة تماماً، فإذا ما بدأ سقوط الأمطار في الحبشة امتلأ النهران لشهرين كاملين بمياه متلاطمة الأمواج، ويجيء هذا التحول فجأة حتى ليبدو في كل مرة عندما يحدث وكأن معجزة تقع.

ويقص «الكابتن، صمويل بيكر الذي اكتشف بحيرة ألبرت واكتشف أيضا رافد العطبرة، يقص علينا كيف فوجي رجاله ذات مرة بوصول المياه.

كان رجاله قد ساروا لأيام طويلة في حوض النهر، أرض جافة تحرقها المياه في الحفر العميقة والأخاديد التي كونها النهر عند اندفاعه بقوة في مجراه. وذات ليلة - ليلة الرابع والعشرين من يونيو - عندما كان كثيرون من الرجال يغطون في نومهم على الرمال النظيفة في حوض النهر، سمع الرحالة وزوجه صوتاً كصوت قصف الرعد عندما يجيء من مسافة بعيدة، وزادت القعقعة حتى أيقظت الرجال، وتسارع البعض إلى حيث ينام الناس صائحين: والنهر... النهر..».

وفي لحظة استيقظ الرجال مذعورين، وفي غمرة الاضطراب الذي حدث أوضح المترجم للرحالة أن هذا الصوت ليس قصف الرعد، بل هو صوت النهر المندفع. ولم يكد آخر الرجال يصل متعثراً إلى أعلى جدار النهر حتى كانت المياه قد ملأت النهر وغطت كل شيء في الظلمة الحالكة.

وعلى أضواء الصباح الأولى أطل الرحالة بيكر على نهر نبيل هو أعجوبة الصحراء وكانت الأرض بالأمس صفحة من الرمال المحرقة يمتد على حافتيها صف من الشجيرات الجافة، وإفريز من الأشجار يحدد حافة النهر، وفي ليلة واحدة حدث التغيير الغامض يتحول النهر الجاف إلى مجرى ماني يصل عرضه إلى خمسمائة باردة، ويختلف عمقه بين خمس عشرة وبين عشرين قدما.

وفي ذلك الوقت يكون المهندسون في مصر قائمين بقياس ارتفاع نهر النيل ويبعثون بتقاريرهم عن هذا الارتفاع على طول النهر، ويرقب الفلاحون تغير لون مياه النهر بسبب أتربة الصخور البركانية التي تحملها المياه، ويبدأ الفيضان، فالأمطار تسقط، والثلوج تذوب في أرض الحبشة.