في سنة ۱۹۲۷ كان وادي المسيسيبي مسرحا لنكبة امتدت من كايرو في ولاية إلينوي إلى خليج المكسيك، ولم يحدث مثل هذا الدمار في أمريكا طوال تاريخها في السلم، فقد ارتفع فيضان نهر المسيسيبي وغطت مياه النهر ثلاثة عشر مليون فدان من الأرض، وفقد أربعمائة أرواحهم، وأمسي سبعمائة ألف بلا مأوى، وبلغت قيمة ما أتلفه الفيضان ثلاثمائة وخمسين مليون دولار.

فلماذا حدث هذا؟ ولماذا تحول النهر الشيخ إلى الوحشية؟

فليست الفيضانات في وادي المسيسيبي بالشيء الحديد، ومنذ عصور معرقة في القدم كان المسيسيبي يطغى على شاطئيه، ونحن نعرف هذه الحقيقة، خلك لأنه عند الحواف التي يقف عندها الفيضان في كل مرة تتراكم طبقات من الغرين، وتراكمت الطبقات طبقة إثر طبقة حتى تكون على جانبي النهر جسران منخفضان، وجاءت أوقات كان النهر فيها يمتلئ أكثر من طاقته ومن ثم فإنه بريق ماءه على هذه الجسور الطبيعية التي بناها هو نفسه، ولكن لم يكن من ضرر لهذا يوم ذاك لأن أحداً لم يكن يعيش هناك، كانت هذه الأرض مستنقعات ملكا خالصاً للنهر، فلم يكن السكان الأولون من الهنود الحمر يحتاجون إليها.

ثم جاء الرجال البيض وبنوا مدينة نيو أورليانز ثم بدءوا يعملون على النهر، وبنوا السدود على طول جبهة النهر لإبقاء المسيسيبي خارج مدينتهم، ولكن عندما بدأ المزارعون يتملكون الأرض على النهر بنوا هم أيضا الجسور أو زادوا من ارتفاع الجسور الطبيعية التي كونها النهر، ولكن هذا لم يضايق النهر الشيخ كثيراً، كان المزارعون قلة، وكانت هناك ثغرات بين جسر وآخر، ويستطيع النهر أن يفيض عند هذه الفجوات، فقد كانت بمثابة مصارف ومشارب مياه طبيعية للنهر. مر الوقت، ووثبت إلى الوجود المدن والقرى على طول الطريق من اكابروه إلى الخليج، وسدت المزارع الثغرات بين الجسور، بل بدأت الجسور تمتد حتى غطت آلاف الأميال على طول النهر من الخليج إلى مصب نهر أوميو. ولكن المستنقعات إلى ما وراء الجسور، والتي كانت ملكا خالصا للنهر، قد جففت من الماء وحولت إلى مزارع. وهكذا بدأ المزارعون يزيدون من ارتفاع الجسور، وتعلموا كيف يجعلونها أقوى وأعلى، كانوا ينسجون حصيراً من فروع أشجار الصفصاف ريكدسونها في مواجهة النهر على جانب الجسور لصيانة الأرض ووقايتها من طغيان المياه.

ولكن النهر الشيخ كان يتعرف النقاط الضعيفة ويخترقها. وفي سنة ۱۸۸۰ اخترق النهر هذه النقاط الضعيفة ثم في سنة ۱۹۰۳ ۱۹۰۷۰ و۱۹۱۳ و۱۹۲۲، اخترق حي أقوى الجسور وأعلاها. وفي كل مرة كان الفيضان أسوأ من الذي سبقه، ولم يعرف الناس سبب هذا، ولكن الأسباب في الواقع كانت بسيطة ترى بسهولة.

وأحدها أنه بإغلاق النهر كانت سرعة المياه تزداد وبذلك تكون أكثر تدميرا، كان الناس يقولون لأنفسهم: ولقد ملأنا أسنان النمر وقلمنا أظفاره.

ولكن كان هناك سبب آخر، فالمياه تزداد في الأنهار عاما بعد آخر، | كان الحطابون قد قطعوا أشجار الغابات وتركوا جوانب التلال عارية، فهم لم يقنعوا بقطع أشجار الصنوبر لبناء آلاف المدن والبلاد، بل عادوا فقطعوا اشجار الأرز الأعمدة الأسوار التي ينشئونها حول المزارع، ثم قطعوا أشجار الطمراق لإعداد دعامات ( فلنكات( السكك الحديدية، وحطموا أشجار التنوب اللب الورق، فتركوا بذاك أرض الغابة عارية، ثم أشعلوا النيران فالتهمت كل ما بقي من خشب في أرض الغابة المنهوبة، وبذلك تركوا الأرض بغير غطاء ساتر، ولم تعد هناك جذور أشجار تمتص مياه المطر وتحفظ التربة، ولم تعد هناك أشجار أو حشائش لتمتص قطرات المياه وتجعلها تغوص برفق إلى باطن الأرض، بل اندفعت مياه الأمطار منهمرة فوق جوانب التلال وصبت في مجاري المياه.

وفي الجنوب كان الناس قد قطعوا الأشجار وحرثوا الأرض وزرعوا القطن، كانوا قد شقوا الأخاديد من أعلى إلى أسفل بدلا من أن يدوروا بها حول التلال وعندما انهمرت مياه الأمطار شقت الحفر والأخاديد العميقة وجرت بسرعة.

كان الفيضان حادثا مألوفا، ولكنه الآن تحول إلى ما هو أسوا، وفي سنة ۱۹۲۷ بعد موسم أمطار غزيرة حدث أسوأ الفيضانات، وتساقطت الجسور من «كايرو» إلى «نيتشز، وتحول المسيسيبي الغربي إلى بحر، كانت لويزيانا | الشمالية بحراً هي الأخرى، وأنقذت نيو أورليانز بنسف الجسر جنوبي المدينة. وانصبت فوق المدن والقرى والمزارع مياه صفراء اكتسحت الجسور (الكباري (المشيدة من الصلب، واقتلعت الخطوط الحديدية، وخربت المطاحن ومصانع السكر، وبقيت الدور المشيدة فوق أعمدة وسط المزارع وقد علت المياه إلى قرابة نصف ارتفاعها من سطح الأرض إلى الأسقف.

وتزاحم اللاجئون على الجسور المحطمة وقد صحبوا معهم كل ما استطاعوا إنقاذه من حيوان ومتاع، وبقيت الأسر المذهولة المأخوذة يحدق أفرادها في النهر الغاضب، كانت منازلهم ذات يوم هناك، ولكن اليوم لم يبق شيء غير المدافن التي تطل عليهم من فوق الأشجار التي تبرز وحدها فوق سطح الماء، وطفت جثث الحيوانات والأشجار والأسوار والجسور (الكباري (والدور الخشبية وأقفاص الدجاج، وزادت المياه التي اندفعت من أربعة وخمسين فرعاً للنهر من هذا الفيضان المحلى.

وزحفت الحيوانات تحاول النجاة من الماء، وشاركت الحيوانات المفترسة الناس في الالتجاء إلى الجسور المحطمة، ونسي الأيل واللعاب والفأر خوفه من الإنسان وكلبه، وجلست الديكة وطيور السمان فوق ركام الأثاث، واصطحب الأطفال بالفئرة ذات رائحة المسك (1)، لقد رحب الناس بكل المخلوقات عدا «الحيات، فقد أنكروا عليها حقها في البحث عن ملجا يقيها الفيضان.

وانطلقت طائرات الأسطول تملأ الفضاء بأزيزها فوق المنطقة التي غطاها الفيضان لإنقاذ الناس الذين يتعلقون بأسطح الدور وأعالي الأشجار، وخرت البواخر والقوارب عباب المياه في المناطق التي كانت قبل أيام أرضاً جافة، والتقطت من لا مأوى له، وأخذت الناس إلى معسكرات الصليب الأحمر، وأنقذت الحيوانات أيضاً، وقرب نيتشر أنقذت السفن خمسة عشر ألف رأس من الماشية من فوق الجسور والمرتفعات التي كانت قد لجأت إليها، كانت كلها جائعة حتى إنها أكلت قشور الأشجار للارتفاع الذي استطاعت أن تصل إليها بأفواهها. واستجابت أمريكا كلها لصيحة الاستغاثة التي انطلقت من الوادي، وطلب الصليب الأحمر خمسة ملايين من الدولارات ثم طاب عشرة ملايين أخرى وجاءت الأموال بسرعة وتقاطر الغذاء والثياب، ونقات السكك الحديدية هذا كله دون أن تتقاضى أجراً.

وبعد شهور عندما عاد المسيسيبي إلى مجراه الأصلي وعاد الناس إلى دورم لإنقاذ ما بقي بها كانوا محزونين، ولكنهم أكثر حكمة وتبصراً بالأمور، كانوا قد أدركوا أخيراً أن الجسور وحدها لا تستطيع احتجاز المسيسبي العاتي، فإن النهر الذي يحمل كل قطرة مياه تسقط في ثلى مساحة أنقرة لا يمكن أن خنجز وراء جدران، كان على الناس أن يردوا للمسيسبي ما اغتصب وه مه، كانعليهم أن يعيدوا له مشارب المياه في المصارف (.

وبدأت اللجان ترسم التخطيط للعمل، وقيل: إنه يجب أن يعاد بناء الجسور ولكن بطريقة جديدة، وقالت اللجان: إنه إذا كان من الضروري أن يخترق الفيضان أي مكان فإن على الناس أن يقرروا أين يجب أن يكون هذا، وهنا من الجسور الضعيفة، فإذا ما ارتفع النهر إلى ذروة الخطر اخترق الجسور الضعيفة واندفعت المياه في الأراضي المنخفضة في الأماكن غير الهامة.

ولكن لم يكن هذا كل ما قاله أعضاء اللجان، لقد قالوا: إن السيطرة على فيضان المسيسيبي العاني معناها السيطرة على فيضان فروعه وروافده أيضا، ومعنى هذا ضرورة السيطرة على فروع النهر وروافده أيضاً، بل السيطرة على مجاري المياه الصغيرة والغدران التي تصب فيها، ثم هذا النهر الصغير البعيد في الجبال.

وقالوا: إنه يجب أن تقام الخزانات هناك لاحتجاز المياه وجعلها تمر في فجوات جافة، ويمكن في الوقت نفسه استخدام المياه لتوليد الكهرباء للمزارع والمدن القريبة، إنه من الممكن وقف الفيضان، ولو عمل هذا بالطريقة الصحيحة الأمكن عمل الكثير، من الممكن أن يؤخذ المسيسيبي ككل، لقد قسم إلى أجزاء ومن الممكن إعادة هذه الإجزاء بعضها إلى بعض لتكون وحدة واحدة.

ولقد أصر الأخصائيون على شيء واحد هو ضرورة القيام بالخطى التي تحفظ التربة العليا لأرض الوادي، ذلك لأنه في كل سنة بأخذ المسيسيبي من هذه القشرة أكثر مما يأخذ أي نهر آخر في العالم في موسم فيضانه.

وقال خبراء التربة: «إن المياه تجيء في الربيع والخريف منحدرة فوق جوانب ألف تل، وهي في انحدارها تكتسح الطبقة العلوية الأرض الوادي، لقد قطع الناس الأشجار دون أن يفكروا في المستقبل، وحرثوا الأرض وزرعوا القطن وتحركوا غرباً عندما رهنت الأرض وضعف إنتاجها، والآن في كل سنة يكتسح النهر أربعمائة ألف طن من التربة، وبذلك يذهب أثمن مورد طبيعي إلى خليج المكسيك فيخرّب جزء من عشرين من أرض الوادي وتفقده الزراعة إلى الأبد، لقد ذهب ربع تربة القشرة الأرضية العلوية إلى الخليج، وهذا من الضروري أن تزرع الأشجار على جوانب التلال وفي الحقول التي وهنت وضعفت، من الضروري أن يعلم المزارعون الطريقة الصحيحة لحرث الأرض.. كانت أمريكا قد تعرضت لتجربة مخيفة، وكانت راغبة في أن تنصت للنصيحة، وأن تعمل.