تصب في البحر آلاف لا حصر لها من مجاري المياه، وفي سبل متعرجة وسط الوديان المسطحة الواسعة والممرات الجبلية الضيقة العميقة، وسط الغابات الاستوائية والمناطق الجليدية المقفرة المجدية، وسط أرض الحدائق والمراعي والمروج، تجتاز المدن والمزارع، أنهار كثيرة في العالم لا نهر واحد، ومع هذا ليس بينها نهر واحد ليست له أهميته وجدواه للإنسان.

لقد أقام الإنسان على حافات مجاري المياه قبل أن ينتقل إلى وحياة | الزارع، كانت الأنهار تعنى للإنسان، المياه العذبة ليروي ظمأه، وليطهر طعامه، وليغتسل.

وكانت تعنى بالنسبة إليه السمك الذي يصطاده، والطرق التي يتنقل من مكان إلى مكان بوساطتها، وسارت القوارب التي صنعها الإنسان وسط الأنهار جيئة وذهابا، وكان هذا أيسر وأسهل وأكثر أمناً من التعثر بالسير خلال الغابات التي لاطرق فيها، والتي تتوالى فيها الحيوانات المفترسة، تتربص به، وتكمن له.

ولكن شيئا آخر غير الإنسان كان ينتقل أيضاً على صفحات مياه الأنهار؛ لقد سارت الأفكار والآراء بطريق النهر مع الإنسان.

وكان الناس في قرية ما يقولون لأنفسهم - وهم يحدقون مشدوهين بما يرونه لدى جيرانهم: -. انظروا ماذا لدى جيراننا من غذاء وكساء وأدوات.. وقالوا لجيرانهم:

- «إننا نعطيكم هذا لنأخذ ذاك. وكانت التجارة..."

ثم قالوا لأنفسهم: انظروا كيف يصنع هؤلاء الذين هم في الجنوب منا على النهر، كيف يصنعون هذه القدور، وكيف يجففون الأسماك.؟ انظروا إلى أقواسهم وسهامهم ومصايدهم، انظروا كيف استطاعوا أن يروضوا الذئب! وتعلم الناس فنونا كثيرة جديدة.

وسار التقدم على طول الأنهار، سار بسرعة حتى إن سكان الجبال كانوا - في الغالبية - متخلفين عن سكان النهر. وانظر إلى أي خريطة نجد أغلب المدن العظيمة تقع كلها على الأنهار. لقد كانت هذه الأنهار في وقت ما هي طرق التجارة في العالم.

إن القاهرة والخرطوم ولندن وباريس ونيويورك وكلكتا وبيونس أيرس، كلها مدن تقع على الطرق النهرية، انظر إلى الدوائر السوداء التي تدل على المدن الهامة، إنها هي أيضاً تتجمع وتكثر غالباً بالقرب من مجاري المياه بسبب الحصب والتجارة والقوى المائية.

لقد ارتبط الإنسان ارتباطا وثيقا بالأنهار، ولملايين السنين كانت الأنهار هي التي تشكل حياة الإنسان. قالت الأنهار للإنسان: (عش هنا...لا هناك).

قالت له: "احرث الأرض الخصبة في جوارنا".. كانت الأنهار هي التي حثت الإنسان على السفر، قالت له: (سافر لتنظر ماذا وراءنا من بلاد!) وكانت الأنهار هي التي علمت الإنسان أن في الأسفار فوائد ونفعًا.

لقد أومأت للإنسان: "اطحن قمحك، ابن مصانعك...وليكن كل هذا في جوارنا، فإن مياهنا ستدير عجلات آلاتلك".

لقد أظهرت الأنهار للإنسان قوتها التي لا حد لها، قالت له: "خذ هذه القوة، حولها إلى طاقة، اختزنها إن شئت، إن قوتنا ستمنحك الضوء والطاقة".

إن نداء الأنهار دائم متصل مستمر، إنها تدق أذن الإنسان وهو ينصت لدقاتها وبطيع ما تأمره به...