الأنهار والسحاب :

لوكنت قد سألت أيا من الشعوب القديمة: من أين جاء نهره؟

لكانوا قد قالوا لك: "لقد أرسلته السماء، إن نهرنا كان دائماً حيث هو الآن، وسيظل كذلك هنا، لقد كان النهر منذ بدء الخليقة".

وكنا نحن كذلك، حتى عهد قريب، نعتقد أن الأنهار كانت دائما كما نراها اليوم، ولكن تتوافر لنا اليوم المعرفة، نعرف أن لا شيء على وجه الأرض يبقى إلى الأبد. إن الأنهار تجئ، وتذهب، وللأنهار شبابها، واكتمالها، وشيخوختها.

تاريخ الأنهار والإنسان:

وحياة الأنهار أطول بكثير من حياة الإنسان، فلم يعاصر إنسان قط نهرا يقطع مراحله كلها من مولده إلى شيخوخته، ولكننا نستطيع أن ننظر إلى الزمن بمنظار مقرب، فنعرف قصة النهر من البداية، وسنبدأ بأن ننظر إلى السماء (إنه يبدأ مع سقوط المطر على الأرض).. ونرى الأمطار وهي تتساقط، ثم تسير في مجار متعرجة فوق كل منحدر، فإذا التقى منحدران تجمع المجريان فوقهما، ويقل عدد مجاري المياه الصغيرة، ولكنها تقوى وتشتد، وحفر هذه الجداول القوية الأرض، يشق كل منها أخدودا، وتكبر الأخاديد والغدران، وهنا يجتذب أكبرها نظرنا.

فإذا ما توقف المطر جف غديرنا الكبير، فإذا ما سقط المطر ثانية عاد الغدير من جديد فامتلأ بالماء وبدأ في حفر الأرض، ويزداد عمق الأخدود سنة بعد أخرى، وأخيراً يصبح الأخدود كبيراً حتى لا نستطيع أن نسميه أخدودا، فقد أصبح واديا.

وستجد في البداية أن المياه تجرى في وادينا عندما يتساقط المطر، ثم البعض الوقت، بعد توقف المطر؛ ولكن مع ازدياد عمق الوادي - نجد المجرى المائي يستمر لوقت أطول، ذلك لأن المياه تتسرب وترشح من جانبي الوادي، وهذه المياه التي تتسرب من جانبي الوادي هي ما تسرب من المطر إلى باطن الأرض واحتفظت به كالإسفنجة، ولكنها عندما تتشبع بالماء تعود فتطلقه.

ويتكرر سقوط المطر سنة بعد أخرى، وفي كل مرة تظل المياه في الوادي لوقت أطول، وتحفر في المجرى تعمق أكبر. وأخيرا نجد المياه باقية تجرى في الوادي طوال الوقت.

وهنا نقول لأنفسنا: «إن شيئا آخر يغذى هذا الغدير».

نعم. إن هذا الشيء هو المياه التي تتسرب وترشح من باطن الأرض، إنها تجيء من مستوى أكثر انخفاضًا من مستوى سطح الوادي، مستوى توجد فيه المياه دائما، توجد في الحفر والشقوق وفي ثنايا الأرض وبين الصخور، وهذا هو السبب في أن غديرنا لم يعد يزورنا لبعض الوقت ثم ينصرف، فمع استمرار جريان المياه يكون قد كون نفسه ليكون غديراً دائماً مستمرا.

وندرك أنه سيكون مجرى أساسيا؛ ذلك لأنه في مرحلة تشكله وتكونه نجد غدرانا أخرى تتكون في الأخاديد المجاورة، ونراها تتصل بمجرانا، ومن اليمين واليسار تجيء الجداول والنهيرات لتصل بالمجرى الرئيسى، وكما يجيء زعماء الأقاليم بهداياهم إلى رئيسهم، فإن الغدران الصغيرة تجيء بالمياه مسهمه بها في تكوين المجرى الأساسي الرئيسي.

وتسمى هذه المجاري المائية الصغيرة، الفروع أو الروافد، وهي تشبه عروقا كبيرة من أوراق الشجر التي نتصل معا في العرق الأوسط لورقة النبات، إنها تبدو كأغصان شجرة قوية كبيرة، ومثل الغدير الرئيسي دور الجذع في هذه الشجرة، وتسمى ورقة الشجر الكبيرة بشرايينها، والشجرة الضخمة بفروعها.

ونطلق عليها - شبكة النهر وفروعه، ونقول للأرض التي يرويها هذا النهر وروافده: ۱ حوض النهر. ولكن المجرى الرئيسي مازال شابا فتيا، وهو يسير منتعشا مليئا بالحيوية بسبب اندفاعه فوق منحدر حاد، وهو في اندفاعه يحمل معه طينا غرينيا وحصى، بل حتى جلاميد الصخور، وكل هذه تصقل مجرى النهر وتزيد من عمقه.

حتى ذلك الوقت لا يكون قاع الوادى أكثر سعة من مجرى النهر، يكون الوادي أشبه برتر ۷ ويكون مجرى النهر هو زاويته الحادة، ولكن تكون هناك عدة تغييرات في طريقها للاستكمال، وتأتي هذه التغييرات بطيئة بحيث لا يلاحظها الشخص الذي يعيش بجوار النهر، ولكن مع التاريخ الطويل للأرض بتسع الوادي في وقت قصير.

ذلك لأن عدة قوى تعاون النهر في تحطيمه للأرض التي يجري فيها، فالجو بنحتها، والرياح تلفحها وتهلكها، والأمطار تكتسحها أمامها، والصقيع بشققها ويصدعها، وذرة إثر ذرة، وقطعة إثر أخرى، تتفتت الأرض وتتساقط في مجرى النهر فتدفعها مباهه إلى البحر، ويبدو جدارا الوادي وكأنهما يتقلصان وينكمشان متباعدين عن النهر، ثم يزداد تباعدهما بعضهما عن بعض تدريجيا مع الأيام.

على أننا لا نلبث أن نجد الهر لم يعد يملأ قاع الوادي كله، فقد تسطح الوادي في هذه الصورة: ويتعرج النهر في مسيرة وسط الوادي متثنيآ من جانب إلى الجانب الآخر، ويبدو النهر كأفعى تلوى ونتي ولكنها التواءات دقيقة غير حادة، ويقطع الجانب الخارجي لكل التواء في جدار الوادي، ذلك لأن التيار يكون قويا في هذا الجانب الخارجي:

وهذه الالتواءات يجب أن تسترعي انتباهنا، ذلك لأن قصة النهر من هذه المرحلة هي أن هذه الالتواءات التي تشبه التواءات الأفعى تقوى وتشتد في حين تزداد سعة الوادي يوماً بعد يوم، فإذا ما صارت الالتواءات منحنيات وأقواساً عمقيه في شكل، وهي التي ندعوها التواءات وتعرجات، وكان قاع الوادي أوسع من أى التواء، قلنا عن النهر: إنه قد بلغ حد النضج والنمو فإذا ما ازداد انحناء هذه الالتواءات وكانت في شكل «حدوة الفرس،، وتكونت سلسلة منها عبر الوادي الواسع، قلنا عن النهر: إنه يهرم، وإنه قد بدأ مرحلة شيخوخته: والنهر الطاعن في السن لا يقطع في الأرض، بل إنه يسير الهوينا في استرخاء، حاملا معه ثقلا كبيراً من الغرين إلى البحر، وينتعش فقط في وقت الفيضان، وفي هذا الوقت قد يكتسح أمامه جانبيه، أو ربما يقطع ويشق مجاري جديدة يسير فيها.

ولكن.. ألا يحدث أي شيء آخر؟

لا يستطيع أحد أن يعرف ماذا يحمل المستقبل لنهرنا، فقد يمر بمزيد من المغامرات. والمنطقة الخارجة التي نسميها القشرة الأرضية لا تظل ثابتة بحال ما، فهي دائمة الارتفاع في مكان ما، ودائمة الانخفاض في مكان آخر:

فإذا كانت الأرض التي يتلوى فيها نهرنا نرتفع وتعلو عاد النهر فتيا أو على حد قول العلماء: جدد النهر شبابه، ذلك لأنه يبدأ يقطع في مجراه من جديد، ويكون مرة ثانية واديا آخر شكل رقم ۷ داخل الوادي القديم: ويتسطح هذا الوادي الجديد ثانية كما تسطح الوادى الأول، وتتكرر القصة المرة بعد الأخرى وتعود في كل مرة سيرتها الأولى من جديد.

ولكن ماذا يحدث إذا كانت الأرض تهبط وتنخفض بدلا من أن ترتفع؟

لو حدث هذا لكان نهرنا يواجه المتاعب، فإن مياه البحر ستغمر الوادي ويغرق النهر، لقد غرق الكثير من الأنهار ووديانها على ما نعرف من التاريخ القديم، وخليج سان فرانسسكو كان أصلا وادي نهر ثم غرق، وكذلك كان خليج شيزابيك Cqcsapeake Bay وفرجات كارولينا Coroliua Sonuds كانا مجريين لنهرين غرقا تحت مياه البحر، وأغلب الخلجان على ساحل نيو إنجلند شقتها فما مضى مجاري أنهار، ولكنها غرقت بعد ذلك، وقد غرق نهر هدسون حتى مدينة تروي Troy في ولاية نيويورك.

فإذا سألنا: وماذا يحدث إذا كانت الأرض لا ترتفع ولا تنخفض؟

في هذه الحال يواجه النهر مستقبلا تعساً، فإن الأرض ستتحول ببطء إلى سهل، ويكون أقل ارتفاع في مستوى البحر مهلكا مميتا للوادي، إذ لابد أن يغرق، وفي النهاية يطوى المحيط كل شيء.