غالباً ما توجد أفضل الحلول، وأكثر القرارات حكمة، وأكثر الأفكار تألقًا خارج إطار ما يحضره أحد الأطراف إلى المائدة، ورغم ذلك، فإننا نجد أنه من السهل علينا أن نصف أي شخص آخر بأنه مخطئ، وهذا غالبًا قبل أن نأخذ الوقت الكافي لكي نفكر فيما يقوله.

    وعندما نعتقد أن شخصًا ما مخطئ، تصبح هناك طريقة واحدة فقط تضمن بها الوصول لنهاية لا تحسد عليها لأي تفاعل، ولأي فرصة للترابط أو التعاون الهادف، وهي تتمثل في إخبار الشخص الآخر بأننا نعتقد بأنه مخطئ.

    كتب "اديباك مالوترا" - أستاذ جامعي في كلية إدارة الأعمال بجامعة هارفارد، والمؤلف المشارك لكتاب NegotiationGenius - في مقال افتتاحى بموقع Forbes.com، قارن فيه النقاش الدائر حول حصص إيرادات الاحاد الوطنى لكرة القدم الأمريكية (NFL) في عام ٢٠١١، مع النقاش نفسه الذي دار بين المالكين واللاعبين في الدوري الأمريكي للهوكي (NHL) في موسم ٢٠٠٤-  2005 فقال: "إن الأشخاص الذين ينسون تجارب الماضي يحكمون على أنفسهم بتكرار أخطائه، وربما يتساوى معهم أيضاً الأشخاص الذين يتعلمون الدروس الخاطئة من الماضي".

    وفي كلتا الحالتين، كان المالكون المهتمون بارتفاع النفقات، يطلبون من اللاعبين قبول حصة أقل من إيرادات الدوري، وفي كلتا الحالتين، كان اللاعبون يرفضون طلب الملاك، ويطلبون رؤية ما يثبت وجود ارتفاع في النفقات، وفي كلتا الحالتين، كان الملاك يرفضون أصلًا إقامة الدليل على مزاعمهم، وفي الدورى الأمريكى للهوكي (NHL)، أصبح الموقف كئيباً، فكل طرف من الاثنين، كان لا يتراجع عن موقفه. يقول "مالوترا" مفسرا: "القد انتشر الاتهام المتبادل بالطمع. وبسبب عدم القدرة على رأب الصدع حتى بعد شهور من انتهاء صلاحية...اتفاقية التفاوض الجماعي، قامت إدارة الدوري الأمريكي للهوكي (NHL) في النهاية بإلغاء الموسم، وكانت النتيجة خسارة إيرادات تقدر بملياري دولار أمريكي".

    هل كانت تلك النتيجة حتمية؟ طبعا لـ" مالوترا"، فقد كان من الممكن تجنب ما حدث لو فهم الجانبان المشكلة الأساسية للعلاقات البشرية التي تكمن في قلب هذا الأمر. فيقول:" لقد خسر كلا الجانبين الموسم، لأن الملاك كانوا يرفضون الاعتراف بأن لدي اللاعبين مخاوف مشروعة، وعندما نظروا إلى اللاعبين على أنهم أشخاص يتسمون بالطمع، وليس أشخاصًا يشعرون بعدم الثقة، انتهج الملاك الإستراتيجية الخاطئة - العناد بدلًا من الشفافية - بشكل أطول من اللازم".

    لقد وقع هذا الجدال في فخ” إنني على صواب، وأنت مخطئ''، لأن كلا الطرفين لم يفكر في البديل: وهو أنه ربما كان الاثنان على صواب. وهذا درس مهم هنا. يقول "مالوترا" مستنتجاً: "تؤتي المفاوضات ثمارها عندما يقر كل طرف بأن لدى الطرف الآخر مخاوف مشروعة، وفي حالة الدوري الأمريكي للهوكي (NHL)، كان يجب على كلا الطرفين -الملاك واللاعبين -تبني وجهة نظر أكثر تنوعا على مائدة المفاوضات -والا قام المشجعون في جميع أنحاء أمريكا بشيء آخر بدلًا من مشاهدة مباريات كرة القدم الأمريكية للمحترفين في الخريف التالي".

    إن الفروق الدقيقة تعد مفهومًا مهمًا يجب تذكره وسط الخلافات، وفي معظم حالات الجدال، تكون اختلافاتنا مع الآخرين أكثر دقة مما نسمح لأنفسنا برويته، فمن السهل علينا أن نتعامل مع التنافر على أنه هوة عميقة لا يمكن عبورها -ويصبح القرار الوحيد وقتها هو أن يقوم أحد الأطراف بالقفز (أو يتعرض للدفع) من على الجرف، بحيث يبقى الطرف الآخر وحيدا، وهذا أمر يتعد عن الحقيقة تمامًا. ينصح " المهاتما غاندى" قائلا: "إن الصداقة التي تصر على الاتفاق على كل الأمور لا تستحق أن تحمل هذا الاسم، إنما الصداقة الحقة هي التي تقوم دومًا بالحفاظ على مكانة الاختلافات الصادقة مهما كانت درجتها". والحقيقة هي أن الاختلاف كثيرًا ما يكون مجرد صدع صغير يمكننا تجاوزه بكل سهولة إذا حضرنا إلى مائدة المفاوضات بعقول أكثر تفتحًا.

    وقد فسرت إخصائية السلوكيات المؤسسية "استير جيليز" الأمر في مقابلة أجريت معها مؤخرا، فقالت: "إننا نتحدث لأننا نعرف شيئًا ما، أو نعتقد أننا نعرف شيئًا ما، أو يحدث هذا في مكان العمل، لأنه يكون هناك توقع بأننا "يجب أن نكون على علم بشيء ما". ويميل هذا التوقع بالمعرفة إلى العمل في غير صالحنا في تفاعلاتنا، لأنه يتسبب في إغلاق عقولنا أمام الاحتمالات الموجودة خارج نطاق معرفتنا التي نحضرها معنا إلى مائدة المفاوضات. إننا نبدأ التفاعل مع الآخرين بينما نؤيد فكرة معينة في عقولنا، وإذا لم نجد تأييدا من الطرف الآخر، فإننا نقضي بقية التفاعل في محاولة إما تفنيد تقييم الطرف الآخر، أو انتقاد حقه في التقييم من الأساس. وتصبح نتيجة هذا التعاون - أو الاحتمال الأكبر - هي الخسارة. وإذا كان هذا هو أسلوبك، فإنك نادرا ما ستحقق التقدم في علاقاتك مع الآخرين.

    وترى” جيليز" أن كل الطرق الفعالة لحل المشكلات، والتعاون، وتسوية النزاعات تبدأ بإفراغ العقل تمامًا - من الأمور التي نعرفها أو التي نعتقد أننا ينبغي أن نكون على علم بها.

    تعترف” جيليز" قائلة: "من الممكن أن يبدو هذا الأمر غير طبيعي للغاية لاننا تدربنا على إظهار ما نفك فيه وعلى استعراض معرفتنا وذكائنا -فإننا نتكلم لأننا نفكر"، ورغم ذلك، فعندما نتعامل مع الحديث بعقلية فارغة من أية أفكار مسبقة، فإننا نتخذ أسلوبًا أكثر تواضعًا وصدقًا. وهكذا، فإننا نقر باحتمال أننا ربما لا نكون على علم بكل الحقائق، وأننا ربما نكون -في الحقيقة -لسنا الوحيدين الذين على صواب، ولكن الأفضل من ذلك هو أننا نخلق فرصًا للتعاون الهادف -تبديد المعتقدات، والأفكار، والخبرات واعادة صياغتها لتصبح شيئاً أعظم بكثير من مجموع الطرفين.

    إن النظرية القائلة بأننا ربما لا نكون الوحيدين الذين على صواب، وأننا ربما نكون على خطأ، غالبًا ما تصف ما يحدث بالفعل، ولكن يبدو أننا نكره الاعتراف بذلك. فلماذا يحدث ذلك؟

    كثيرًا ما يحدث هذا لأننا نمنح الانتصار الشخصي قيمة أكبر من إمكانية التعاون، ولكن عندما نقوم بذلك، فإننا لا نعوق تقدم العلاقة فحسب، بل إننا نغامر بتدمير فرص تحقيق تقدم أكبر مما كنا نفكر فيه في الأساس، فإننا نتوقع الحصول على أقل القليل، عندما نسعى -في خضم الخلاف -إلى الخروج فائزين بغض النظر عن الطرف الآخر.

    تشاركنا "جيليز" القصة التالية من خلال خبرتها مع تكتل من الشركات المعروفة في مجال الإعلام، تسببت استجابتها السريعة لكارثة قومية في أعقاب صراعات داخلية.

    لقد رن هاتقها الخلوي في منتصف الليل _ لقد كان رئيس تكتل من الشركات المعروفة في مجال الإعلام، لقد كان الرجل يحتاج إلى” جيليز” في تيسير أحد الاجتماعات كأول شيء في الصباح للتعامل مع أحد أنظمة تجميع الكوارث.

    لقد كان الرئيس يشير إلى مأساة إعصار كاترينا. ففي أعقاب أحد أسوأ الكوارث الطبيعية التي اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية، أسرعت الشركة بتوزيع 90% من موظفيها في مناطق مختلفة من ساحل خليج المكسيك. ولم ثكن هناك خطة أو إستراتيجية معينة، بل كانت هناك فقط بعض التعليمات العامة بالرجوع بأهم الأخبار، وعندئذ، بعد مرور أسبوعين، عادت الفرق إلى استئناف العمل على نتائج مفككة للغاية.

    يقول الرئيس مفسرًا: "إن لديَ أربع فرق يتقاتلون فيما بينهم حول التغطية التي يجب أن تحظى بالأولوية. وأخوض حاليًا نزاعًا قانونيًا مع الإنتاج يدور حول الانتظار من أجل التدقيق والفحص المناسبين، وقد دخلت في نزاع محاسبي مع الجميع بسبب توزيع النفقات الفخمة للأمر برمته”. ثم صمت الرجل قليلا، ثم مضى ليخبرها بما تكلفه الأمر:” لقد تكلف أكثر من أي إنتاج سابق بمقدار ست مرات”.

    وأخبر الرئيس "جيليز” بأن دورها هو مقابلة كل فرق القيادة المتنازعة، ومساعدتهم على التحدث والاتفاق فيما بينهم.

    وكانت جيليز تعرف بالضبط ما يجب عليها القيام به.

    وفي صباح اليوم التالي، عندما جلست في قاعة المحاضرات التي تقرر أن يعقد فيها الاجتماع، شاهدت مشهدا مألوفًا للغاية: دخل كل مدير تنفيذي وكل واحد من كبار الموظفين إلى القاعة وهو يحمل مجازيًا، حجة - حجة سوف يعلنونها لكي يفوزوا بالنقاش، وبينما كان الجميع يستقرون في أماكنهم، سارعت” جيليز” إلى تقديم دعوة.

فقالت:” إنني أود من كل شخص أن يأخذ بعض الوقت، ويطرح على نفسه هذا السؤال:” ما الذي كان يمكنني القيام به بشكل مختلف خلال هذه المهمة لمساعدة الأقسام الأخرى على تحقيق النجاح؟".

    وتعتقد” جيليز” أنها سمعت في عقلها سلسلة من الأصوات المكتومة عندما ألقى الجميع بحججهم على الأرض، وأرهف الجميع السمع في جميع أنحاء الغرفة، عندما تبادل قادة الفرق -واحداً تلو الآخر -أفكارًا على شاكلة " في المستقبل، يمكننا...”.

    وبدأ المدير المالي بالاقتراح بأن فرق الحسابات والإنتاج يمكنها وضع ميزانية مبدئية للمشروعات في المستقبل.

    ورد النائب التنفيذي لرئيس قسم الإنتاج بدوره:” إننا لا نمتلك الوقت للجلوس ووضع الميزانيات عندما يظهر أحد الأخبار المهمة”.

وعندئذ تدخلت” جيليز” بسؤال قائلة:” هل تستطيع أن تفهم سبب اقتراح مدير الحسابات لهذا الإجراء؟".

    فأجاب النائب التنفيذي لرئيس قسم الإنتاج:” حتى لا نبالغ في النفقات”.

    فأضافت "جيليز": "إن قسم الحسابات يقوم بوظيفة مهمة من أجل بقاء هذه الشركة، وهي لا تقل في أهميتها عن الإنتاج". وعندئذ سألت كلآ من المدير المالي والنائب التنفيذي لرئيس قسم الإنتاج: هل بإمكان قسميكما أن يتعاونا معًا على وضع ميزانية مبدئية للمهام الأسبوعية، وميزانية أخرى للأخبار العاجلة مع وضع حد أعلى متحرك يعتمد على حجم الكارثة؟".

أومأ كلاهما في إشارة على الموافقة، واستمرت عملية الوساطة.

وأشار رئيس الإدارة القانونية بالشركة إلى أن ادارته تستطيع تقديم وثيقة

ب"أكثر مشكلات التدقيق شيوعًا"، حتى يعرف العاملون في الإنتاج مسبقا كيفية تجنب عمليات التدقيق الطويلة.

ونظرت "جيليز" إلى النائب التنفيذي لرئيس قسم الإنتاج، الذي أومأ برأسه موافقَا، وقال: "سيكون هذا الإجراء مفيدا للغاية".

وأجاب رئيس الإدارة القانونية: "اتفقنا".

واستمر الاجتماع على هذا النحو، بل إنه مضى بعيدا في تناول تفاصيل العناصر المقترحة التي تضمنت الميزانيات والوثائق. وخلال ثلاثين دقيقة، اتفق جميع من في الحجرة على الحلول المقترحة، ولقد تم تأجيل الاجتماع بصورة رسمية إلى وقت آخر، ثم حدث أمر ربما يكون أكثر الأمور التي حدثت إثارة للدهشة: ظل العديد من المديرين التنفيذيين والعاملين معهم في الاجتماع من أجل الاستفادة من القوة الدافعة للتعاون.

وبينما كانت "جيليز" تهم بحمل حقيبتها من أجل المغادرة، اقترب منها الرئيس، وقال مؤكدا: "طوال خمسة وعشرين عامًا، لم أحضر أبدًا اجتماعًا مثل هذا يقوم فيه معظم الحضور بالاستماع أكثرمن التحدث".

    ومع تقمص روح كل الفنانين العظام الذين يبدأون العمل بورقة خالية، أو لوحة زيتية بيضاء، أو قطعة من الطين، يجب علينا أن ندخل كل النقاشات والمفاوضات بعقول متفتحة لما يمكن أن نكتشفه أو ننتجه معًا، وعندها فقطً، يمكننا الاستفادة من الإمكانيات والفرص الحقيقية لحسن التعامل مع الآخرين.

    في السادس والعشرين من شهر يونيو لعام ٢٠٠٠، في القاعة الشرقية من البيت الأبيض، في المكان الذي اعتاد فيه” تيدي روزفيلت" التدرب على الملاكمة، والذي أقامت فيه "إيمى كارتر" حفلة تخرجها في المدرسة الثانوية، والذي خيم فيه "الويس" و"كلارك" ذات مرة، أعلن الرئيس الأمريكي "بيل كلينتون" عن اكتمال أول دراسة مسحية للجينات البشرية كاملة قائلا: "إن البشرية على وشك اكتساب قوة جديدة هائلة للعلاج".

وبجوار الرئيس "كلينتون"، كان يقف الطبيب "فرانسيس كولينز"، وهو عالم شهير في علم الجينات الوراثية، ورئيس مشروع الجينات البشرية، ولقد قاد "فرانسيس" -لمدة سبع سنوات -فريقا دوليًا يضم أكثر من ألف عالم فيما أطلقت عليه الصحفية " جيه مادلين ناش" في صحيفة" تايم "تحدي القيام بإنجاز تقني صنفه الكثير بأنه يصل في أهميته إلى أهمية انشطار النواة، وهبوط الإنسان على القمر. وقال "كولينز" في هذا الوقت: "هناك مشروع واحد للجينات البشرية، وسوف يحدث هذا المشروع مرة واحدة فقط. وفرصة اعتلاء قمة هذا المشروع واضفاء لمستي الخاصة عليه تزيد عما كنت أستطيع تخيله".

لقد اضطر" كولينز" إلى القيام بهذا المشروع في ظل منافسة مع زميل سابق مما جعله أكثر إثارة وتشويقًا.

ففي مايو من عام ١٩٩٨، بعد خمس سنوات من موافقة "كولينز" على قيادة هذا المشروع، أعلن "كريج فينتر" -عالم بيولوجي متحمس في معاهد الصحة الوطنية الأمريكية (NIH)، وكان ضمن العلماء الكثيرين الذين كانوا يكرسون جهودهم لبلورة فكرة الاستفادة من الجينات الوراثية في الشفاء من الأمراض -أنه كان ينشئ شركة لتسبق مشرع "كولينز" بأوبع سنوات.  

    وكان "السباق" بين "كولينز" و"فينتر" مادة خصبة لوسائل الإعلام. وكان الأمر المحوري في التعليقات الجارية يتمثل في الاختلاف الشديد بين شخصية الرجلين - فإحدهما متهور، والآخر متحفظ، ولم يكن هناك أمام "كولينز" - المتحفظ “خيار سوى المنافسة، وكان هذا يعني تحفيز علماء من ست دول، والعديد من الوكالات الحكومية، والكثير من المعامل الجامعية، على العمل معًا من أجل تحقيق الصالح العام وليس تحقيق مجد شخصي.

    ولذا فقد كان الأمر أكثر روعة عندما قام " فرانسيس كولينز” بتقديم” كريج فينتر" في القاعة الشرقية في ذلك اليوم على النحو التالي:” إنه متحدث فصيح، ومحفز، ولا يرضى عن نفسه أبدًا، وقد استهل طريقة جديدة للتفكير في علم الأحياء.... إنه لمن دواعي الشرف والسعادة أن أدعوه لكي يخبركم عن أهم إنجازاته”.

لقد اختار” كولينز” طريق التعاون والشراكة، وقاوم إغراء الادعاء بأن” فينتر” على خطأ، وفي الحقيقة، فقد رآه مختلفًا فحسب؛ ولكن هذا الاختلاف لم يكن يعنى بالضرورة أنه معارض أو معاند، وبينما يعترف "كولينز" بأنهما شخصان "مختلفان ... يرتبطان بطريقة مختلفة"، تشير "ناش"، الصحفية بصحيفة" تايمز" إلى أن "كولينز يقول الآن إنه ينظر إلى 'فينتر” على أنه يحفز على العمل بطريقة إيجابية للغاية"".

    إن لب التأكيد على أن الآخرين مخطئون يمثل بالفعل اعترافًا غير معلن بأننا لا نرغب في التعرض للرفض، وتماشيًا مع روح عدم تخطئة أنفسنا فإننا نسقط هذا الدور على الآخرين، ولولا وجود تذكير لماح وواضح، لسقط "ديل اكارنيجي" نفسه ضحية لهذه الاستجابة غير المرغوب فيها.

بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بفترة قصيرة، كان "ديل كارنيجي" مدير أعمال السير "روس سميث"، وخلال الحرب، كان السير "روس" هو الورقة الأسترالية الرابحة في الحرب، وبعد إقرار السلام بفترة قصيرة، فاجأ العالم بالطيران حول نصف العالم في ثلاثين يومًا، ولم يكن هناك من حاول القيام بمثل هذا العمل الفذ من قبل. لقد تسبب في حدوث ضجة هائلة، وقد كافأته الحكومة الأسترالية بخمسين ألف دولار، ومنحه ملك إنجلترا لقب فارس، وأصبح محور حديث العالم لفترة من الوقت.

    وذات ليلة، كان "كارنيجي" يحضر مأدبة عشاء أقيمت على شرف السير "روس"، وأثناء العشاء، روى الرجل الذي كان يجلس بجوار"اكارنيجي" قصة هزلية تنتهي باقتباس يقول: "وهذا جدير بأن يعلمنا بآن هناك قوة خارجية تشكل مصيرنا وأهدافنا، رغم كل ما نخطط له وندبره".

    وذكر الراوي أن هذا الاقتباس من أحد الكتب الدينية. لقد كان الرجل مخطئا، وكان "كارنيجي" يعلم ذلك حق المعرفة. وباعتراف "كارنيجي" نفسه، فقد نصب نفسه لجنة غير مدعوة، وغير مرحب بها، من رجل واحد لكي يصحح ما قاله الراوي.

    وظل الرجل الآخر مصرًا على موقفه، وقال: "من "شكسبير"؟ هذا سخيف! هذا الاقتباس من أحد الكتب الدينية، أنا متأكد من هذا"

    وكان " فرانك جاموند" -صديق قديم لـ” اكارنيجي" - يجلس على يساره. وكان "جاموند" قد قضى سنوات عديدة في دراسة "شكسبير”. ولذلك، انقق كل من الراوي و"كارنيجي" على سؤال الخبير في الأمر.

    استمع السيد "جاموند"، ولكز "اكارنيجي" من تحت المنضدة، ثم قال:" "ديل" ، أنت مخطئ٠ إن هذا السيد المحترم على صواب، إن هذا الاقتباس من أحد الكتب الدينية".

    وفي طريق عودتهما إلى المنزل في هذه الليلة، قال” كارنيجي" لـ"جاموند": " "فرانك"، لقد كنت تعلم أن هذا الاقتباس من "شكسبير" ".

    فأجابه "جاموند": "بالطبع، من مسرحية هاملت، الفصل الخامس، المشهد الثاني، ولكننا كنا ضيوفًا في مناسبة احتفالية عزيزي "ديل". لماذا تحاول إثبات خطأ الرجل؟ هل سيؤدي هذا إلى جعله يحبك؟ لماذا لا تتركه يحفظ ماء وجهه؟ إنه لم يطلب رأيك، إنه لا يريده، عليك أن تتجنب دائمًا اتخاذ مواقف حادة ومتعنتة”.

    لقد تعلم” كارنيجي” من هذا الموقف درسا لم ينسه أبدا.

إن إخبار الناس بأنهم مخطئون سيؤدى إلى تحويلهم إلى أعداء لك فحسب، فقليلون هم الأشخاص الذين يستجيبون بشكل منطقي عندما يتم إخبارهم بأنهم مخطئون؛ وكثيرون هم الأشخاص الذين يستجيبون بشكل عاطفي ودفاعي عندما تشكك في آرائهم، يجب عليك ألا تكتفي بتجنب القول: "أنت مخطئ". فمن الممكن أن تخبر الناس بأنهم مخطئون من خلال نظرة، أو لهجة في الحديث، أو إيماءة، ولذلك يجب عليك آن تحذر إصدار أو إظهار الأحكام بكل الطرق التي تتواصل بها، وإذا أردت أن تثبت شيئًا، فلا تزعج ولا تجرح أي شخص جراء هذا.

    ومن السهل أن نسمح لنبرة معينة بأن تتسلل إلى أساليب تواصلنا عبر الإنترنت، وهي نبرة تخبر الشخص الآخر بأنه مخطئ، وفي بعض الأوقات، لا ندرك وجود هذه النبرة إلى أن نقرأ ما كتبناه في وقت لاحق. إننا نعتقد بأننا نتحلى بالدبلوماسية، ولكن كل كلمة يدم في غياب اسبيرات الواضحة أو نبرة الصوت الهادئة، عادة ما تحمل الادانة. وهذا هو أحد الأسباب التي تجعل الواجهة الشخصية أفضل أساليب تسوية النزاعات.

    وبدلاً من تقديم جدال مبتور عبر البريد الإلكتروني، أو الرسائل النصية الفورية، أو موقع تويتر، عليك بخلق بيئة للحوار تتسم بمزيد من الاحترام، والتراضي، ثم قدم وجهة نظرك بعقل متفتح. ورغم احتمال أن تكون على صواب، وأن يكون الشخص الآخر مخطئاً، فليس هناك منطق في الانتقاص من ذوات الآخرين، أو التسبب في إفساد العلاقات بصورة دائمة. إذا تذكرت الأشخاص الذين يصرون بعناد على أنك مخطئ، فكن متأكدا من أن الآخرين سوف يتذكرونك بهذه الطريقة السلبية نفسها إذا اخترت أن تحول التفاعل معهم إلى فرصة لتلقينهم درسا معيدا بدلا من الاستفادة منها كفرصة لتقوية العلاقات.

    عليك اللجوء دائمًا إلى الدبلوماسية. وعليك الاعتراف بأنك ربما تكون مخطئا، والتسليم بأن الشخص الآخر ربما يكون محقًا. أظهر الاستعداد للتوافق، واطرح أسئلة، وفوق كل هذا، تناول الموقف من وجهة نظر الطرف الآخر، وأظهر له الاحترام.

إن مثل هذا الأسلوب المتواضع يؤدى إلى بناء العلاقات والألفة، وتحقيق نتائج غير متوقعة.