كيف عرف النحل طريقة بناء شهد العسل؟

بالصدفة ـ هذا هو بوابة علم البيولوجيا على هذا السؤال!

ويذهب هذا العلم إلى القول بأن هذا البناء المدهش والشديد الإتقان هندسياً، بالأخص جهة أطرافه المسطحة باتقان وأشكاله المسلمة بفخامة واضحة، وأتساعه رغم صغر حجمه بحيث يستوعب حوالي 80 ألف نحلة، هو من عمل الغريزة العمياء والدقة الفنية اللامتناهية لنظام الجينات. وعلى هذا فإن كل خطوة تتخذها النحل أثناء بناء مدنها، إن كان لجهة حفر الخلايا ضمن جدار شهد العسل بواسطة أسنانها أو جهة التأكيد من سماكة الجدران، هي مرهونة بالتعليمات التي تصدرها الجينات في خلايا النحل.

وهذه التعليمات (تمليها) سلسلة أحداث جينية نادرة الحدوث حصلت على مدي ملايين الأجيال، وقد أنتقلت عدة أحداث من جيل إلى جيل وتم حفظها لكونها ساعدت هذه الكائنات على البقاء والتكاثر.

وتحتوي كل خلية من خلايا جسم النحلة على عدة كاملة من الجينات، وهي الطبعة الزرقاء بلغة الخلية لتكوين نحلة كاملة. وتحصل النحلة على جيناتها من والديها ـ کما هو معروف.

فإذا ما حصل خطأ ما يغير البناء الجزيئي لهذه الجينات المتوارثة قبل عملية الاخصاب أو بعدها، فإن ذلك يؤدي إلى تغيير التعليمات التي تصدرها الجينات، وبالتالي الى نمو الكائن المعني وتصرفه بشكل مختلف. وهذه الحوادث الدينية أو التبديلات تحصل مصادفة بين كل فترة وفترة.

وأغلب هذه الحوادث يكون مأساوياً لدرجة أن الوليد المسخ لا يري حتى النور. ومع ذلل، فإن عدداً قليلاً من هذه الحوادث يكون لها نتائج ايجابية، وتحمل خصائص جديدة لبنية هذه الكائنات، الأمر الذي يساعدها على البقاء، وعندما تتوالد النحل، تعطي خصائصها الجيدة التي تمليها الجينات إلى وليدها.

وعلى سبيل المثال، تملك النحل سلسلة جينات الغرض منها امتحان جدران خلايا النحل، وتحويل النحل العامل الى عناصر أكثر فعالية، بحيث لا يعود هناك هدر في كمية الشمع الذي تصنع منه خلايا النحل، وبحيث لا تكون جدران الخلايا هشة لتنهار على البيض الذي يحوي صغار النحل.

وهذه الفعالية الأكبر في عملية البناء تعطي النحل النقل الامكانية للانشغال بأمور أكثر جدية ـ مثل التوالد ـ فيها تقع مهمة تثبيت الجدران وصنع الشمع لسد الثقوب فيها على عاتق النحل غير المتنقل. وسيأتي اليوم الذي يحتل فيه هذا النحل العامل والبناء المرتبة الأولى في التكاثر بين كل مجتمع النحل، وذلك لفعاليته الكبرى في مصنع جدران الخلايا ۔ وبذلك ستكون له الأكثرية الكبرى في مراكز السكن ومناطق الحصول على الطعام، ما يعني أنه بعد الآلاف، لا بل الملايين، من الأجيال لن يكون البقاء ممكناً إلا لهذا النوع من النحل البنَّاء وعلى هذا فإن قفير النحل هو إذن المكان الذي يضم أكثر الحوادث الجينية نجاحاً في تاريخ النحل.

ويبقى السؤال هنا هو: كيف تبني النحل القفير بدقة عند حصولها على تعليماتها الجينية؟ ومثلاً، كيف تبني النحل الشهد المسطح؟ علماً أن الأدوات الوحيدة التي يستخدمها النحل هي تكوينه (والنحل البناء يضم كل النحل المؤنث التي لم تكتمل خواصه الجنسية بعد)، وبعض المواد الأولى التي يجدها في الطبيعة، والقوى الخفية الموجودة على الأرض. وقد أظهرت التجارب أن النحل يستطيع بشكل أو بآخر تحسس حقل الأرض المغناطيسي، ويقدر باحساسه الداخلي أن يبني خلاياه وفي زاوية معينة من هذا الحقل.

وبمعنى آخر، فإن بإمكان النحل أن تتفق على الوجهة التي ستبني عليها شهدها، من دون أن تحتاج بالضرورة إلى معلم بناء يشرف على عملها. كما أن بإمكان النحل أن ترسم خطوط الخلايا السداسية بشكل مثالي متكلة بذلك على الفادن (وهو اداة مؤلفة من خيط في طرفه قطعة رصاص ومهمته فحص أستقامة الجدار) الخاص بها، وهو رأسها.

إذ يتصل رأس النحل ببقية جسمها عن طريق نقطتين متحركتين يغطيهما شعر خشن حساس جداً. وعندما ينشد هذا الرأس الثقيل نسبياً بفعل الضغط عليه الذي تمارسه الجاذبية، فإن ذلك يؤدي إلى دغدغة شعرات الرقبة عند النحلة، ويدلها على الاتجاه إلى (أسفل)، ويمكنها من تحديد اتجاهها النسبي، والسبب وراء إختيار شكل الموشور السداسي لبناء خلية النحلة يعود إلى كون هذا الشكل مثالياً لاحتواء أي شيء عندما تكون أدوات البناء بحد ذاتها قليلة إلى هذا الحد. وزيادة على ذلك، فإن خلايا النحل تكون عادة محنية إلى الوراء بمقدار 13 درجة لمنع العسل من الاندلاق منها.

ولا أحد يعرف تماماً كيف أن باستطاعة النحل أن تبني خلية بست زوايا من 120 درجة لكل منها، إلا إنها، على ما يبدو ـ تقيس المسافة بواسطة الفسحة التي بين رجليها الإماميتين وذلك أثناء عملية نشر الشمع بواسطة فكها. وبما أن كل النحيل في القفير هي من قياس واحد فإن ذلك يفسر لماذا تكون النتائج بهذه الدقة والثبات، يبقى أن الشمع الذي تستخدمه النحل في عملية البناء هو عبارة عن افرازات دهنية تصدرها غدد موجودة داخل بطن هذه الكائنات، وتخرج على شكل رقائق تدفع بها النحل باتجاه فكها بواسطة قوائمها الأمامية.

وهناك تعمد إلى علكها ومزجها بالسائل اللعابي حتى تصل إلى الحرارة المطلوبة. ثم تعمد إلى نشرها على سماكة واحدة مقدارها 0.003 إنشاً، ثم تحذف منها وتزيد عليها حتى تصبح بالسماكة المطلوبة. وأخيراً، ولكي تمتحن النحلة جودة عملها، تقوم النحلة بنطح جدار الشمع بواسطة الهوائي الموجود على رأسها، ثم تستمع إلى الذبذبة الصادرة عن هذه العملية التي تدلها على مدى سماكة الجدران.

وأول ما يبدأ به النحل هو بناء شهد العسل من مكانين أو ثلاثة أمكنة في الجزء العلوي منه.

ويجتمع لهذا العمل حشد من النحل في كل مكان من الأمكنة الثلاثة، فيبدو هذا الحشد وكأنه فريق كرة قدم مجتمع حول الكرة. وبهذه الطريقة يبقى النحل الشمع ساخناً بقصد اعطائه الشكل المرغوب في وقت لاحق.

ويعمد النحل إلى بناء خلايا الشهد بمعدل ثلاث أو أربع خلايا في كل وقت، مرتكزين بذلك على الجدران المشتركة التي تجمع بين الخلايا.

و(يتبادل) النحل العمل المرهق بحيث تحل واحدة مكان الأخرى كل ثلاثين ثانية.

وتفترق كل مجموعة من النحل عن الأخرى كلما أتسع بناء الشهد، وعندما تتصل اطرافه بعضها ببعض يعود من المستحيل تفريق عمل مجموعة من النحل عن مجموعة أخرى، حيث أن أطراف الشهد تلتصق ببعضها بطريقة متناسقة تماماً، ولا يمكن الجزم بأن الخلايا كلها هي من الحجم ذاته، والواقع أنها تأتي باحجام ثلاثة مختلفة ومدروسة: الحجم الأول والأصغر يتم شغله من قبل مواليد النحل، كما يتم استخدامه كذلك لتخزين اللقاح والعسل؛ أما الحجم الثاني فهو للنحل البنَّاء (ذكر النحل)؛ ويبقى الحجم الثالث والأخير ـ وهو الأكبر - فيخصص لملكات النحل.

وعند هذا الحد لا يمكن القول بإن سمعة النحلي بخصوص فعاليته في العمل هي من غير اساس: فبغض النظر عن كونه منظماً إلا أنه يتمتع بخاصة أخرى مهمة، وهي قدرته على الحفاظ على مواده الأولية من خلال تكرار استخدامها هي ذاتها في عمليات بنام لاحقة.

والدليل أنه عندما تترك النحل قفيرها ما لتبحث عن غيره (وهو ما يسمي بـ (وخشرم)، اي جماعة النحل) فهي تأخذ معها مخزوناً من الشمع من قفيرها المهجور، وتضعه في السلال المتواجدة في أرجلها، وتعود وتستخدمه لبناء شهد العسل الجديد.