يقول الشيخ يوسف القرضاوي في كتابه الحلال والحرام في الإسلام:

«واتفق الفقهاء على أن إسقاطه (أي الجنين) بعد نفخ الروح فيه حرام وجريمة لا يحل للمسلم أن يفعله لأنه جناية على حي متكامل الخلق ظاهر الحياة. قالوا: ولذلك وجبت في إسقاطه الدية إن نزل حياً ثم مات، وعقوبة مالية أقل منها إن نزل ميتاً».

ثم نقل فتوى الشيخ شلتوت والتي جاء فيها: «إذا ثبت من طريق موثوق به أن بقاءه (أي الجنين) بعد تحقق حياته يؤدي لا محالة إلى موت الأم فإن الشريعة بقواعدها العامة تأمر بارتكاب أخف الضررين فإذا كان في بقائه موت الأم وكان لا منقذ لها سوى إسقاطه كان إسقاطه في تلك الحالة متعيناً.. ولا يضحى بها في سبيل إنقاذه لأنها أصله وقد استقرت حياتها ولها حظ مستقل في الحياة ولها حقوق وعليها حقوق وهي بعد هذا وذاك عماد الأسرة. وليس من المعقول أن نضحي بها في سبيل الحياة الجنين لم تستقل حياته ولم يحصل على شيء من الحقوق والواجبات».

وقد ناقش الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه مسألة تحديد النسل وقاية وعلاجاً ([1]) الأسس التي بني عليها أحكام الإجهاض وآراء الفقهاء في المذاهب المختلفة.. ونوجز ذلك فيما يلي (من كتابه وغيره من الكتب) (2).

 

 الأسس التي بني عليها أحكام الإجهاض:

الأساس الأول: لا تعد النطفة (الحيوان المنوي) ذات حياة محترمة ما لم ينغلق عليها الرحم ثم تبدأ بالتطور الى علقة ... ولا عبرة شرعاً بتلك الحياة.

الأساس الثاني: لا يجوز العدوان بإجهاض وغيره على الحياة الإنسانية وهي التي تجاوزت المرحلة النباتية Vegetative Life) )والحيوانية ودخلت في أرقى طور من أطوارها وهي الحياة الإنسانية إلا أن يكون ذلك على وجه العقوبة والقصاص. ويستند ذلك إلى قوله تعالى: ) ولقد کرمنا بني آدم ( وإلى قوله تعالى: ) ومن قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا (. ولا خلاف بين الفقهاء جميعاً في هذا.

الأساس الثالث: ملاحظة الحقوق الثلاثة وهي حق الجنين وحق الأبوين وحق المجتمع.

لاساس الرابع: وهو يتمثل في جملة أحاديث صحيحة تتعلق بهذا الموضوع وهي قوله صلى الله عليه وسلم:

۱) «  ن أحدكم يجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوما نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ثم يكون مضغة مثل ذلك ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح»، أخرجه الشيخان عن ابن مسعود رضي الله عنه.

۲) « إذا مر بالنطفة اثنتان وأربعون ليلة بعث الله ملكا فصورها وخلق سمعها وبصرها وجلدها ولحمها وعظامها ثم يقول أي رب أذكر أم انثى » رواه مسلم عن حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه.

۳) أخرج الشيخان عن أبي هريرة أن امرأتين من هذيل اقتتلتا فرمت احداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها فاختصموا إلى رسول الله r فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو جارية. وقضى بدية المرأة على عاقلتها.

وقد أجمع الفقهاء على أن قتل الجنين بعد نفخ الروح يحرم حرمة تامة مهما كان الجنين مشوهاً أو غير ذلك. ولم يسمحوا بالإجهاض إلا إذا كانت حياة الأم في خطر فقدموا حينئذ حياتها على حياته لأنها أصله ([2]). وإن كان ابن حزم والظاهرية وبعض الفقهاء لم يسمحوا بقتل الجنين حتى في هذه الحالة (2).

واختلف الفقهاء بعد ذلك في الإجهاض قبل نفخ الروح التي يحددونها بمائة وعشرين يوما (من بدء التلقيح).. وقد انقسموا في ذلك إلى ثلاث فئات:

الفئة الأولى: ويمثلها في ذلك المالكية والإمام الغزالي من الشافعية وابن رجب الحنبلي من الحنابلة وهم يحرمون الإجهاض منذ اللحظة التي تستقر فيها النطفة في الرحم.

قال الإمام الغزالي في الإحياء: «وليس هذا أي العزل كالإجهاض والوأد لأن ذلك جناية على موجود حاصل. وأول مراتب الوجود أن تقع النطفة في الرحم وتختلط بماء المرأة وتستعد لقبول الحياة. وإفساد ذلك جناية. فإن صارت نطفة فعلقة كانت الجناية أفحش. وإن نفخ فيه الروح واستوت الخلقة ازدادت الجناية تفاحشاً. ومنتهى التفاحش في الجناية هي بعد الانفصال حياً» ([3]).

ويقول ابن رجب الحنبلي في جامع العلوم والحكم»: وقد رخص طائفة من الفقهاء للمرأة في إسقاط ما في بطنها ما لم ينفخ فيه الروح وجعلوه کالعزل وهو قول ضعيف. لأن الجنين ولد انعقد وربما تصور. وفي العزل لم يوجد ولد بالكلية.

ثم قال: «وقد صرح أصحابنا بأنه إذا صار الولد علقة لم يجز للمرأة اسقاطه لأنه ولد انعقد بخلاف النطفة فإنها لم تنعقد بعد. وقد لا تنعقد ولداً». ثم يقول: وهذا كله مبني على أنه يمكن التخليق في العلقة كما قد يستدل على ذلك بحديث حذيفة ابن أسيد المتقدم .

الفئة الثانية: وهذه الفئة تسمح بالإجهاض متى كان له سبب مثل مرض الأم أو غيره من الأسباب إذا كان الجنين لم يتخلق بعد أي لم تظهر فيه الأعضاء وحديث حذيفة ابن أسيد المتقدم الذي رواه مسلم أن ذلك يحدث بعد مرور أربعين يوماً..

ويقول الدكتور سعيد رمضان البوطي (2) أن الاجهاض إذا تم قبل التخليق وبرضى من الزوجين وبوسيلة لا تعقب ضرراً على الأم فإنه يعتبر مكروهاً كراهة تنزيه وليس محرماً. وذلك عند الشافعية - (ما عدا الفئة التي يمثلها الإمام الغزالي) والحنابلة (ما عدا الفئة التي يمثلها ابن رجب الحنبلي).. ومعظم علماء الأحناف.

وخلاصة رأي هذه الفئة جواز إسقاط الجنين قبل التخليق أي قبل مرور أربعين يوما من بدء الحمل (وتحسب منذ لحظة تلقيح الحيوان المنوي للبويضة).

الفئة الثالثة: وهي أكثر الفئات تسامحاً.. وهم يجيزون الإسقاط قبل نفخ الروح أي قبل مرور ۱۲۰ يوماً منذ بدء الحمل وتحسب منذ لحظة التلقيح.. وبما أن أطباء أمراض النساء والولادة قد درجوا على أن يحسبوا الحمل من بداية آخر حيضة حاضتها المرأة لا من بداية الحمل وهو التلقيح لأن المرأة تتذكر بداية حيضها بسهولة، فإن مدة الحمل الحقيقي هي أقل من تلك التي يحسبها أطباء التوليد بأربعة عشر يوماً.

 

ولذا فإن مدة ۱۲۰ يوماً منذ بدء الحمل توازي ١٣٤ يوماً منذ بداية آخر حيضة حاضتها المرأة والتي يعتمدها أطباء التوليد.

ويمثل هذه الفئة المتسامحة بعض علماء الأحناف: «وقال في الفروع: وظاهر كلام ابن عقيل في الفنون إنه يجوز إسقاطه قبل أن ينفخ فيه الروح ([4]).

وبعض علماء الحنابلة. قال ابن عابدين في الحاشية على کتاب الدر المختار (2):

وقال في النهر: هل يباح الإسقاط بعد الحمل؟ نعم يباح ما لم يتخلق منه شيء إلا بعد مائة وعشرين يوما. قال ابن عابدین: «وهذا يقتضي أنهم أرادوا بالتخليق نفخ الروح والا فهو غلط لأن التخليق يتحقق بالمشاهدة قبل هذه المدة». ثم أفاض ابن عابدين في الرد عليهم لأن التخليق يبدأ بعد الأربعين كما في حديث حذيفة ابن أسيد الذي رواه مسلم.

وقد أجاز الإمام الرملي من الشافعية الاجهاض قبل نفخ الروح (3) وأباح الإمام السبكي إجهاض حمل الزنى ما دام نطفة أو علقة (ويحسبونها أربعين يوما نطفة وأربعين يوما علقة) (4).

وهكذا نجد المالكية والظاهرية وبعض الشافعية والاحناف والحنابلة يمنعون الإجهاض ویرون حرمته في جميع فترات الحمل ما لم يكن هناك خطر على حياة الأم فيباح آنذاك ولو بعد مرور ۱۲۰ يوماً.

 

ويتوسط آخرون من الشافعية والحنابلة والأحناف فيبيحون الاجهاض متى كان قبل التخليق أي قبل الأربعين لأن التخليق يبدأ بعد الأربعين لحديث حذيفة ابن أسيد المتقدم. ويتسامح بعض العلماء من الأحناف والشافعية والحنابلة فيبيحون الإجهاض متى تم قبل نفخ الروح والتي يحددونها بمرور ۱۲۰ يوما منذ بدء الحمل (لحظة التلقيح) والتي توازي ۱٣٤ يوما (١٩ أسبوعاً) من بداية آخر حيضة حاضتها المرأة وقد أجمع الفقهاء على حرمة الإجهاض بعد نفخ الروح إلا عندما تكون حياة الأم في خطر فتقدم حياتها حينئذ على حياة الجنين لأنها أصله ([5]).

وقد نص القانون الكويتي الصادر في يناير ۱۹۸۲ على جواز الإجهاض إذا تعرضت حياة الأم لخطر محقق أو إذا تأكد لدى الأطباء أن الطفل سينجب بعاهة غير قابلة للعلاج كالتخلف العقلي الشديد المستديم ويتطلب القانون موافقة آراء ثلاثة من الاطباء الاستشاريين وموافقة الأبوين على ذلك (2).

وقد أصبح من الممكن بعد التقدم الطبي تشخيص تشوه الجنين بواسطة التصوير بالموجات فوق الصوتية Ultra Sound أو بواسطة بزل عينة من السائل الأمنيوسي المحيط بالجنين Amino Centesis أو بغير ذلك من الوسائل الطبية التي يظهر فيها جديد كل يوم... ويمكن إجراء هذه الفحوصات في فترة تتراوح فيما بين الأسبوع الثالث عشر والسادس عشر في معظم الحالات.

وإذا تم إجراء هذه الفحوصات قبل الاسبوع السادس عشر (والحساب هنا عادة من بداية آخر حيضة حاضتها المرأة) فإن إجراء الإجهاض قبل ۱۲۰ يوماً من بدء الحمل (أو١٣٤ يوماً منذ آخر حيضة حاضتها المرأة) ([6]) يكون متيسراً. وبذلك تنتفي الحاجة إلى إجراء الإجهاض بعد نفخ الروح إلا إذا كانت حياة الأم في خطر ... وذلك أمر نادر الحدوث جداً.

وإجراء الاجهاض قبل نفخ الروح قد أباحه بعض الفقهاء من الحنابلة والشافعية والاحناف وإن كان رأيهم مرجوحاً.. أما الإجهاض بعد نفخ الروح فالإجماع على حرمته.

ولذا ينبغي على من يعملون بالمهنة الطبية أن ينتبهوا إلى هذه النقطة وعليهم إذا اضطروا لإجراء الإجهاض أن يحرصوا على أن يكون في الفترة التي تسبق نفخ الروح (۱۲۰ يوماً) إلا في حالة واحدة وهي تعرض حياة الأم للخطر.

(1) ص ۹۹ - ۱۱۷

(2) فتاوی مقدمة إلى قسم الطب الإسلامي مركز البحوث الطبية جامعة الملك عبد العزيز بجدة من السيد محمد أحمد الشاطري والسيد عمر حامد الجيلاني , وكتاب خلق الإنسان بين الطب والقرآن للمؤلف، وبداية المجتهد ونهاية المقتصد لابن رشد

(1) فتاوی شلتوت والحلال والحرام في الإسلام للشيخ يوسف القرضاوي.

(2) ابن حزم في المحلي ود. سعيد رمضان البوطي في مسألة تحديد النسل وقاية وعلاجاً والباحثة أم كلثوم الخطيب في قضية تحديد النسل.

(1) إحياء علوم الدين ج 2/ 65.

(۲) مسألة تحديد النسل وقاية وعلاج .

(1) الأنصاف: علاء الدين علي بن سليمان المرادي ج 1/386.

(2) حاشية ابن عابدین ج ۲/ ۳۸۹.

(3) نهاية المحتاج ج 8/ 416.

(4) عبد الرحمن المشهور: غاية تلخيص المراد من فتاوی زیاد/ 347.

(1) فتاوی شلتوت ويوسف القرضاوي في الحلال والحرام.

(2) عصام غائم: الإجهاض للضرورة هل هو جائز أم لا، مجلة الفيصل الطبية، العدد التاسع.

(1) جاء في دائرة المعارف البريطانية ج ١٤/ ۹۷۷ (طبعة ١٥) إن الإجهاض هو ما تم قبل ١٣٤ يوماً (أي قبل ۲۰ اسبوعاً).. فإذا تم بعد ١٣٤ فلا يسمى إجهاضاً بل ولادة قبل الموعد، فإذا تم الإجهاض في نهاية الأسبوع التاسع عشر (۱۳۳ يوماً) فإنه يسمى إجهاضاً.