عندما وقف الإنسان على الشاطئ في العصور القديمة وجال ببصره نحو البحر بدا له أن ما رآه لم يكن شيئاً سوى الماء. مساحة شاسعة منبسطة من الماء الأزرق المشوب باللون الرمادى! أما الآن فإننا نعلم أن البحر الخضم لا يوصف ببساطة بهذا الشكل، فهو عالم قائم بذاته، عالم مملوء بالحياة، والعجائب والأسرار.

ولقد أحاط بنا دائما، نحن بني البشر، البحر من كل جانب، وتخيله الأقدمون نهراً عظيما ملتفا حول اليابس كما تلتف الأفعى. ومن المحقق أنه على الرغم من أن البحر لا يجري في مجرى مثل النهر، فإنه يحيط باليا بس ويغطى الجزء الأعظم من الكرة الأرضية.

ولا بد أن الأقدمين تساءلوا منذ الأيام الأولى للبشرية، عما إذا كانت هناك نهاية للمساحات المائية الشاسعة، لكنهم لم يقفوا عند حد التساؤل، بل إنهم بلغوا ما كانوا يصبون إليه، فتعلموا طريقة صناعة السفن وكيفية الإبحار بها، وتعلموا استخدام البوصلة ودراسة النجوم لكي يعرفوا اتجاه سيرهم.

واكتشفوا في غير سرعة، ما كان في الجانب الآخر من المياه، وعرفوا كل ما يمكن معرفته تقريباً عن سطحها. إلا أن البحر ظل سررًا غامضا، إذ أنه لم يكن شاسعا في مساحته فحسب؛ بل كان عميقا بعيد الغور. فأعمق بقعة في قاع البحر نبعد عن مسطحه بما يفوق ارتفاع أعلى جبل فوق الأرض.

 فيبلغ عمق إحدى بقاع المحيط قرب اليابان حوالي ۱۰۰۰۰ متر؛ أي عشرة كيلومترات ونصف كيلومتر. ويربو متوسط غور البحر على ۳٫۲ كيلومترات: وإذا علمنا أنه حتى عام ۱۹۳۰ لم يتمكن أي إنسان حي من الغوص إلى عمق أبعد من ۱۰۰ متراً من سطح الماء، يمكننا أن ندرك السبب في أن البحر لم يستكشف استكشافا تاما. ولندرس الآن بعض أسباب ذلك: أولا: لأننا لا نستطيع التنفس تحت الماء كما يعرف كل من حاول السباحة، وإذا حاولنا ذلك فإننا نغرق. كما أننا لا نستطيع التوقف عن التنفس حتى نبلغ عمقا بعيداً.

ثم إن الماء، بالإضافة إلى ذلك، ثقيل جدا، فهو أثقل من الهواء بكثير كما يعلم أي شخص حاول أن يرفع دلواً مملوءة بالماء. وكلما غصنا إلى أعماق أبعد ازدادت كمية الماء التي تتراكم علينا. كما أن البحر بالغ البرودة، وحالك الظلمة في الأغوار البعيدة.

إننا نستطيع أحيانا أن نرى الشمس ساطعة على قاع بركة ضحلة، وقد يؤدي بنا ذلك إلى الظن بأن الضوء ينفذ من الماء كما ينفذ خلال النافذة الزجاجية.

ولكن هذا غير صحيح. فأشعة الشمس لا يمكنها النفاذ إلى الأعماق البعيدة في البحر، ولا يوجد ضوء مطلقا في الأماكن العميقة.

على أن الناس كانوا، منذ أزمان بعيدة ترجع إلى الإسكندر الأكبر، أي إلى ما قبل المسيح بثلاثمائة عام، يفكرون في كيفية بلوغهم قاع المحيط ليروا ما يجري هناك. ويعود السبب في تشوفهم هذا إلى القصص التي كانت تروى دائما عن المخلوقات البحرية الغريبة التي كانت توجد على الشاطئ، أو مكبلة في شباك الصيادين، وربما ظن الناس أن ظلمة البحر البارد العميق لا تزال تخم ما هو أغرب وأعجب.

ولم يكن حب الاستطلاع هو السبب الوحيد لتشوقهم لاستكشاف قاع المحيط. فكان بعض الناس يرغبون في النزول إلى قاع المحيط مجرد الشعور بالإثارة بأنهم ذهبوا إلى حيث لم يذهب أحد قبلهم، ورأوا ما لم ير أحد قبلهم قط.

وكان بعضهم يرغب في العثور على كنوز ثروات المراكب الغارقة والحصول عليها، وهناك بعض آخر رغب في استكشاف بعض الأمور عن سر الحياة التي يحتمل أن تكون قد بدأت في أعماق البحار.

ولقد بدأ الناس منذ زمن قديم محاولة الوصول إلى طرق الغوص إلى أعماق البحار. وكانت أمنيتهم الوحيدة هي القدرة على التنفس تحت الماء مثل الأسماك والمخلوقات البحرية الأخرى! وحيث إن هذه الأمنية كانت مستحيلة فقد تحتم أن تعتمد محاولات الإنسان في بحث أعماق البحر على الهواء الذي يسحب إلى داخل الماء.

فنحن نعلم أننا إذا احتفنا الهواء بأيدينا في أثناء وجودنا في الماء. ثم قلبناها وضغطنا بها إلى أسفل في الماء، فإننا بذلك نحمل الهواء تحت السطح.

 ولقد كان الغواصون الأولون يعرفون هذه الحقيقة فاستخدموا لهذا الغرض أشياء مختلفة مثل الدلو أو البرميل. فعندما تقلب هذه الأشياء تحت الماء تمسك بالهواء داخلها، وإذا ما زج الغواصون برؤوسهم في هذا الهواء فإنهم يصبحون قادرين على التنفس، وهذه الطريقة. التي نجحت في المياه غير العميقة. هي أساس عمل خوذات الغوص المستخدمة في وقتنا الحاضر.

ومهما يكن من شيء فالبقاء تحت الماء أمر يكتنفه الكثير من المشاق والمتاعب، فكلما ازدادت كمية الهواء الخفيف الوزن الذي يحمله الغواص يزداد الثقل الذي يجب أن يزود به لكي يبقى تحت الماء. ولقد حل اختراع لباس الغوص الذي يمكن دفع الهواء فيه من أعلى الماء هذه المشكلة بالنسبة للأعماق التي تصل إلى 150 متراً.

إننا لم نتعرض بالكلام حتى الآن للغواصات، وربما يبدو أنه نظراً لأن الغواصات يمكنها أن تحمل الناس وتجوب بهم تحت أمواج البحر بتأثير قدرتها الذاتية، فقد يكون في ذلك حل المشكلة. وعلى أي حال فإن قصة جول فيرن تحكي لنا أن الكابتن نيمو قطع ۲۰٫۰۰۰ عقدة تحت البحر في الغواصة نوتيلس! ورب قائل، من قراء هذه القصة، يقول: «إن كل ما يتطلبه استكشاف أعماق المحيط هو تحسين السفن الغواصة والوصول بها إلى الكمال. وعلى أية حال فعلى الرغم من أن الغواصات أحرزت تقدما عظيما فإنه لم تتمكن أي غواصة حتى الآن من العمل بأمان في أعماق تزيد على 150 متراً تحت سطح الماء.

وفي العقد الثالث من هذا القرن انخرط الدكتور وليم بيب مدير قسم بحوث المناطق الحارة في جمعية على الحيوان بنيويورك في صفوف أولئك الذين كانوا يحلمون بزيارة أعماق البحار، ولقد أمضى الدكتور بيب وقتا كبيراً يجوب المحيط، منتشلا أحياءه بالشباك، ومكتشفا أسماكا وصورة أخرى من الحياة لم تعرف قط من قبل، كما أنه تعلم في تلك الرحلات حقائق جديدة عن الأنواع المألوفة. وعلى الرغم من المجموعات القيمة الوفيرة التي حصل عليها فإنه كان يعلم أنه ينقصه أكثر مما حصل عليه، فظل يحلم برحلة شخصية إلى أعماق البحار عسى أن يرى بعينيه الحياة فيها.

وللوصول إلى هدفه صمم عدة أسطوانات غوص معدنية، لكنه سرعان ما تحقق أنها لا يمكنها أن تتحمل ضغط الأعماق البعيدة المخيف، إذ يزداد الثقل الواقع على البوصة المربعة من السطح الخارجي للأسطوانة بمقدار ۱۰ رطلا كلما ازداد عمقها ۳۳ قدما. وبالنزول مسافة نصف ميل تحت الماء تتعرض كل بوصة مربعة إلى ضغط يزيد على الطن، ولقد كان باديا أن المشكلة من المشكلات التي لا حل لها.

إلا أنها حلّت، وقد جاء حلها على يدي رجل يدعى بارتون، وهو الذي أصبح مصاحبا للدكتور بيب فيما بعد. كان أوتيس بارتون من المشغوفين بالتصوير تحت الماء، وكان هو الآخر يتوق إلى وسيلة للوصول إلى أغوار أعمق مما يمكن لخوذة الغوص أن تحمله إليها، وبحلول عام 1930 أمكنه توفير المال الكافي، كما أمكنه الوصول إلى أفكار كافية لإثارة اهتمام إحدى شركات الهندسة البحرية. فعمل مع الكابتن جون بتلر ووصلا إلى حل اعتقدا أنه هو السبيل العملي لاستكشاف المحيط، ولقد كان الأساس في فكرة بارتون هو أن الأجسام الكرية نتحمل ضغوطاً تفوق الضغوط التي تتحملها الأجسام ذات الأشكال الأخرى.

وعقد بيب وبارتون عزمهما على العمل معا في محاولة عمل ما لم يستطع عمله أي إنسان من قبل من كان يصدق أن كرة جوفاء من الصلب يقل قطرها عن 150 سنتيمتراً ويبلغ سمك جدارها ۳٫۱۷ سنتيمترات تقريبا يمكنها أن تحمل بأمان رجلين إلى أغوار المحيط المجهولة؟ لقد ساورالشك كثيراً من الناس - بما فيهم بيب وبارتون نفساهما ـ أن شيئا من هذا يمكن حدوثه، لكن هذين المكتشفين عقدا العزم على التحقق من ذلك.

وكان أول ما أراده الدكتور بيب هو إيجاد اسم لهذا الجهاز الغريب ذي الأعين الكبيرة الثلاث المنبثقة منه فجعلته شبيها بسرطان البحر، فقرر أن يكون الاسم الإنجليزي مكونا من كلمتين وصلهما بعضهما ببعض، وهما الكلمة الإنجليزية «للكرة» مضافاً إليها اللفظ الإغريقي وللعمق وفأصبح اسم الجهاز «كرة الأعماق.

اصطحب بيب معه فريقا من العلماء والميكانيكيين إلى جزيرة ننصتش ببرمودا حيث كان يوجد معمل بحوث تابع لجمعية علم الحيوان بنيويورك، وهو المكان الذي تدرس فيه موضوعات الأحياء البحرية.

ولقد استلزمت هذه المخاطرة كمية هائلة من المعدات، فأخذ الدكتور بيب معه قارباً بحريا وصندلا مكشوف السطح مزودة برافعة وآلة بخارية وبكرة ضخمة للف الأحبال الصلب التي تدلى بساطتها كرة الأعماق إلى باطن البحر.

ولقد أسهم بارتون بنصيب في هذه المعدات فأحضر الكرة ذاتها وأكثر من ۸۰۰ متر من الحبل المصنوع من الصلب بقطر قدره لا بوصة، كما أنه أسهم بحبل من المطاط الأصم مدفون في باطنه مجموعتان من الأسلاك الكهربية. خصصت إحداهما للإضاءة الكهربية والأخرى للتليفون.

ولقد كان ذلك ضروريًا لكي يتمكن الرجال الموجودون في كرة الأعماق من التحدث إلى معاونيهم الموجودين على سطح الماء. وكانت الإضاءة الكهربية لازمة أيضا الإضاءة البحر المظلم خارج الكرة.

والآن فلنلق بنظرة على سطح الصندل وريدي، في أثناء تهاديه فوق سطح المياه الهادئة على بعد 13 كيلومتراً من جزيرة ننصتش ببرمودا في صباح أحد أيام شهر يونية عام ۱۹۳۰. فنجد السطح الخشبي القديم يتهادى في مهب الرياح تسحبه قاطرة بحرية بخارية، في حين أن أعضاء البعثة وعددهم تسعة عشر، بالإضافة إلى الدكتور بيب والمستر بارتون يهرعون في إعداد معداتهم.

ويسود عقول الجميع الشعور بالانفعال والإثارة، كل فرد منهم عليه واجب يؤديه، فعلى أحدهم ملاحظة الحبل الصلب، في حين نجد كثيرين آخرين مهتمين بأمر الحبل المطاط المحتوى على الأسلاك الكهربية، وكان على اثنين آخرين تشغيل الرافعة وملاحظة مراجل الآلة البخارية المخصصة لإدارتها، ولا يزال هناك الآخرون الذين ننتظره أعمال كثيرة عند بدء النزول الحقيقي، متأهبين لمد يد العون والمساعدة.

ويدخل بارتون والدكتور بيب كرة الأعماق ليتحققا من أن كل شيء على ما يرام. ولم يكن عملهما مريحاً، فاتساع الفتحة التي يدلفان منها إلى داخل الكرة يبلغ ۳۷ سنتيمتراً فقط، كما أنها محاطة بمسامير كبيرة بارزة، وعلى من يريد الدخول في الكرة أن يزحف دافعاً برأسه أولا بين تلك المسامير ثم خلال الفتحة.

وكان عمق البحر تحت الصندل أكثر من 1600 متر من الماء، ولم يساور المستكشفين أو باقي الفريق الشك في أن كرة الغوص يمكن أن تدلى إلى العمق الذي يسمح به الحبل الصلب. ولكن لم يمكن لأي واحد منهم أن يجزم بأن الغواصين سوف يكونان على قيد الحياة عند رفع الكرة إلى السطح ثانية.

فربما لا تتمكن كرة الأعماق من تحمل ضغط الأعماق الهائلة. بل ربما تتسرب مياه البحر المظلمة الباردة من أحرف نوافذها وبابها، وربما تنفذ عند الوصلة التي تدخل منها الأسلاك الكهربية إلى داخل القشرة الصلب.

فمن المحتمل أن تنهار الوصلة المحكمة، التي لا تتسرب منها المياه عند سطح البحر، تحت الضغط المفزع البالغ ستة ملايين ونصف مليون من الأرطال على عمق ربع ميل، لكن هذين المستكشفين كانا عالمين وليسا شيطانين جريئين، فلا بد أنهما كانا يعرفان الإجابة عن كل سؤال قبل المخاطرة بروحيهما.

وعلى ذلك أحكم إقفال الوحش الكبير ذي الأعين السرطانية يوم 3 من يونية عام ۱۹۳۰ دون أن يكون أحد بداخله وقذف به في الماء. وأخذ يغوص في الماء رويداً رويداً، وكان مرئيا على عمق ۲۲٫۵۰ متراً أو ۳۰ متراً في المياه الصافية، ثم اختفى في الظلام. وبمضي خمس وأربعين دقيقة كان قد تدلى من الحبل الصلب ما طوله ۹۰۰ متر، وبذلك تكون كرة الأعماق معلقة في منتصف المسافة إلى القاع تقريباً! وإذا كان من المقدر أن يحدث أي شيء لكرة الغوص الضخمة، فإنه يكون قد حدث فعلا أثناء ذلك الوقت، وعلى ذلك أعطى الدكتور بيب الإشارة لرفعها.

ويلاحظ الدكتور بيب في أثناء لف الحبل الصلب أن أمراً قد حدث، فقد وجد أن الحبل المطاط المحتوى على الأسلاك الكهربية، والذي كان مثبتا في الحبل الصلب الذي تتدلى منه الكرة؛ التف حول الحبل الصلب، ونتيجة لذلك لا يمكن لف حبل الرفع حول البكرة دون تهشيم الحبل المطاط بما فيه من أسلاكة التليفون والإضاءة، اللذين بدونهما لا يمكن مواصلة محاولة الغوص. ولا يوجد مخرج لذلك إلا يجعل الحبل المطاط بنساب من ملف كبير «طوله ۸۰۰ متر، حول الكرة ذاتها.

وخفق قلب بيب، وبدأ يتساءل عما إذا كان للإنسان أن يجازف للوصول إلى تلك الأعماق البعيدة في باطن البحر. ولحسن الحظ ثم إصلاح الحبل المطاط وفصله عن الحبل الصلب في أربع وعشرين ساعة من العمل المضي، ووضع على شكل لفات كبيرة فوق سطح الصندل. ولقد تبين من الاختبارات التي أجريت أن الدائرة الكهربية لم يصبها ضرر ما.

وبعد ثلاثة أيام سطعت شمس برمودا على تجربة غوص جديدة، كانت في هذه المرة إلى عمق 4۰۰ متراً. وسارت الأمور سيراً مرضيا، ولم تتعقد الأحبال فكان سلوكها حسنا للغاية، ولم يتسرب من الماء إلا قليل لا يتجاوز ملء فنجان القهوة.

ولم يعد هناك أي سبب للتأخير، فإذا كانت الكرة الفارغة يمكنها الوصول إلى ذلك العمق، فكذلك يمكن أن يتم نفس الأمر للرجلين اللذين صنعا كرة الغوص فدلف بيب وبارتون داخل الكرة وهما يرتجفان من برودة أرضينها المصنوعة من الصلب. وجلسا القرفصاء بالدرجة التي مكنتهما منها الغرفة الكرية، وكان الأمر شبيها بوضع رجلين في حوض الحمام والبانيو، ثم تغطيته بحوض آخر مقلوب.

ولقد أخذا معهما مستودعين للأكسجين وأطباقا تحتوي على مواد كيماوية الامتصاص الرطوبة وغاز ثاني أكسيد الكربون الخارجين مع هواء زفيرهما. وكان الأكسيجين الذي ينبعث ببطء من المستودع يحل محل ما يستهلكه الغواصان من هواء الكرة. ولقد كان ذلك الإجراء ضروريًا حيث لم تكن هناك أنبوبة | للهواء تصل الكرة بسطح الماء كما هي الحال في خوذة الغوص العادية.

وسرعان ما استقر المستكشفان حيث قبع بيب قرب إحدى فتحات الكرة السرطانية وقبع بارتون حيث كان يمكنه ملاحظة الآلات والأجهزة.

وبدأ الفريق في الخارج في إحكام المسامير الغليظة في الباب المصنوع من الصلب الذي كان يزن ۱۸۰ كيلوجراما. وكان عليهم أن يطرقوا مفاتيح الربط وبالشاكوش، لكي يحكموا رباط المسامير إحكاما تاما. ويمكننا أن نتصور الصوت الذي أحدثه ذلك داخل الكرة الصلب المحكمة الإغلاق! ويقول الدكتور بيب: إن ضجيجه كان من أمقت الأصوات التي طرقت سمعه.. ولكنه ما إن انتهى من الاحتجاج على ذلك تليفونا حتى كان كل شيء قد انتهى.

ودارت عجلة الآلة الرافعة ببطء فارتفعت الكرة الصلب، ذات الطنين ونصف الطن براكبيها المتقرفصين في الهواء، ثم طرحت فوق البحر، وبإشارة من القبطان عكس دوران الرافعة وأنزلت الكرة نحو الماء. فارتطمت بالسطح وغاصت في باطن الماء محدثة فورانا من الفقاعات والرذاذ كسا سطح البحر باللون الأخضر.

كان بيب بنظر من وراء النافذة ذات الزجاج والكوارتز، الذي بلغ سمكه ۷٫۹۲ سنتيمترات، فرأى قاع الصندل يختفي من فوقه ببطء حي غاب عن بصره كلية في النهاية، كما اختفى معه العالم الخارجي ولم يعد هناك إلا الفضاء، كما لوكان الغواصان ممتطيين مركبة فضاء صاعدة إلى أعلى بدلا من أسفل، إلا أن هذا الفضاء كان مملوءاً بالماء. وواصلت الكرة هبوطها ۱۰ متراً! ثم ۳۰ متراً! ثم 60 متراً.

وعندما وصلت الكرة إلى عمق ۹۰ متراً صدرت صرخة عن بارتون، فقد لاحظ تسربا بسيطا للمياه من تحت الباب المحكم، ففحصه بيب بقلق، ووجد أن التسرب لم يتزايد إلا أنه كان يعرف أن الضغط المسبب له كان يزداد كلما ازداد العمق الذي يهبطان إليه، ولم يكن أمامهما ما يمكن عمله إلا أن يواصلا الهبوط وير يا ما يحدث، فاستمرا في الهبوط، وانقلبت الخضرة خارج النافذة الكوارتيزية إلى الزرقة.

وسرعان ما تخطيا أبعد عمق وصل إليه غواص من قبل، ومن هنا بدأ الاستكشاف الحقيقي. وكان ما هما مقدمان على رؤيته ابتداء من تلك اللحظة، عالما جديدا لم يره أحد غيرهما من قبل. فتحولت زرقة المياه في الخارج تدريجيا إلى السواد.

وكان بيب أو بارتون يضيء المصباح الكهربي بين لحظة وأخرى ليرى تسرب الماء من تحت الباب، ترى ألم يكن الأمر يزداد سوءاً حقيقة؟ أم أنهما أرادا أن يعتقدا ذلك؟ وعلى عمق ۲۶۰ متراً أصدر بيب أمره بالتوقف عن الهبوط. وجلس في الظلام برهة يفكر، لقد كانا مستريحين، وكان الهواء يسير سيراً حساً، ولم يبد أن تسرب الماء آخذ في الزيادة. ولكن فجأة وبدون أي سبب، خاله شعور قوي، بعدم الاستمرار، فأعطى الإشارة للرفع.

ولقد عرفا فيما بعد ما كان يمكن أن يحدث لو أنهما قررا الهبوط إلى عمق أبعد، وذلك عندما أجريا تجربة غوص بكرة فارغة حيث أحكمت الكرة في هذه المرةوأسقطت إلى عمق ۹۰۰ متر، ثم رفعت بعد ساعة وأربعين دقيقة.

فما إن ظهرت الكرة معلقة فوق السطح استعداداً لإنزالها عليه لفحصها حتى لاحظ الدكتور بيب في الحال أن أمراً قد حدث. لقد كان الماء يندفع بشدة من وجه إحدى النوافذ. وعندما استقرت الكرة على سطح المركب وجد بيب أنها مملوءة تقريبا بالماء.

وإليك ما حدث.. كانت الكرة قبل الغوص مملوءة بالهواء، وعندما اندفعت المياه إلى داخل الكرة ضغطت الهواء بحيث أصبح طبقة رقيقة في الجزء العلوي للغرفة الكرية. وكان هذا الهواء ثائراً فكان يريد أن يتمدد إلى حجمه الأصلي، وبذلك كان يتصارع مع الماء الذي حل محله.

ولقد تمكن الدكتور بيب من رؤية المياه الفائرة في أثناء صراع الهواء في الخروج من الثقب الضئيل الذي تسرب منه ماء البحر. فبدأ في فك المسمار الأوسط للباب الصلب، عندئذ بدأ الهواء الصاخب في الزئير والصرير وطرد الماء المتطفل إلى الخارج خلال ثقب المسمار، محدثا سحابة من الرذاذ المصحوب بالأزيز.

ولقد أمر بيب الجميع بالابتعاد عن الكرة لتحققه مما كان يمكن أن يحدث، ثم أدار هو بمعاونة مساعد له يد المسار المتوسط النحاسية، فازداد اندفاع الماء الزائد المختلط بالهواء، وفجأة انفلت المسمار من أيديهم مندفعا بعرض سطح المركب كقذيفة المدفع، وتبعه عمود من الماء في صلابة الحديد، ولو أن بيب كان واقفاً في طريق المسمار أو عمود الماء عند اندفاعهما من الكرة لتمزق جسده اربت.

وفرح كل رجل من رجال الفريق لعدم وجوده في الكرة الصلب عندما كانت على عمق ۹۰۰ متر حيث بدأ الهواء المحبوس والمياه العميقة في صراعهما. ولقد كان السبب في المشكلة هو أن لوح الكوارتز الجديد لم يكن قد أحكم وضعه في إطاره.

وبعد مضى أربعة أيام أنزلت الكرة وهي فارغة إلى عمق ۹۰۰ متر ولم تنشأ مشكلات في هذه المرة، فدلف بيب وبارتون داخل الكرة الصلب واتجها مرة أخرى نحو العالم المجهول. وتعطل التليفون على عمق ۷۰ متراً، وأصبح الغواصان بدون الأصوات الآتية إليهما من العالم الخارجي في وحدة قاتلة لا حول لهما ولا قوة، ولكن لحسن الحظ أن الضوء الكهربي كان لا يزال يعمل، فلقد تمكنا من إرسال إشارة ضوئية كان قد سبق الاتفاق عليها، وفهم منها الفريق الموجود على السطح أن بيب وبارتون يرغبان في أن يرفعها إلى أعلى.

وفي 11 من يولية كان الطقس حسبًا للغاية وأقلع المستكشفان نحو الأعماق دون أن يبعثا بالكرة فارغة أولا، وأحس بيب أنهما أصبحا يعرفان القدر الكافي التشغيلها، وبدأ تفكيره في فرص هبوطهما ثم عودتهما يقل، في حين ازداد تفكيره في النظر خارج النافذة والبحث عن دلائل الحياة. ولم ير حتى تلك اللحظة أي شيء لم يمكنه رؤيته من سطح الماء. وأصبح هو وزميله مستكشفين.

وعلى عمق 60 متراً رأي بيب في هذه المرة، سمكة أمكنه أن يعرفها، وهي القرش المعروف في مياه برمودا. ولكن كان يجب أن تكون ذات لون أزرق قائم تزينه أشرطة أفتح لونا، لكن هذه السمكة لم تكن كذلك، إنها كانت بيضاء ناصعة ذات أشرطة سوداء، وهنا ظهرت دلالة أخرى على الفرق بين العالم الأرضي وعالم الأعماق، فحتى الألوان كانت مختلفة، فنحن نرى الألوان حيث يوجد الضوء فقط كما نعلم.

وعلى عمق ۱۲۰ متراً رأي أول سمكة من أسماك الأعماق، سمكة لم يرها حيّة على الإطلاق على السطح، رآها تعوم أمام النافذة، وأصبح عالم البحر مملكة كلها سحر وأسرار مملوءة بالشرر البراق. فمن أسماك ذات شعاعات ضوئية ممتدة على جوانبها! إلى مخلوقات شفافة ذات بطون ممتلئة جمرات متوهجة! وقواقع ذهبية ليس لها أصداف ترفرف بأجنحتها وتطير! وأسماك فضية نحيلة وضاءة! وجراد البحر الذي كان يبعث بسحابات من الضوء كما لو كان مسدسا مائيا مملوءة بسائل ناري.

وواصلت كرة الأعماق هبوطها ببطء وانتظام وعلى عمق يزيد على ۳۰۰ متر كشفت الأنوار الكاشفة القوية التي كانت تنبعث من إحدى النوافذ الكوارتيزية عن سمكة غريبة ذات أضواء تميل إلى الخضرة على جانبيها، ولم يكن الدكتور بيب أو أي شخص آخر قد رأى مثل هذه المخلوقات من قبل.

وعلى عمق ۳۹۰ متراً، كان البحر مثل الليل مليئا بالنجوم السهمية والصواريخ المندفعة، وكانت تقترب من النافذة أحيانا مخلوقات غير معروفة تعوم نحو النافذة ثم تنفجر إلى وابل من الشر.

وفي ظلام البحر بحمل كل شيء تقريبا ضوءه ينيره ويطفئه حسب إرادته. وكانت معظم المخلوقات، وليس كلها تماماً، تظهر فترة في أشعة الأضواء الكاشفة المنبعثة من كرة الغوص، فتمكن الدكتور بيب من رؤية حدود أجسام مخلوقات صخمة معتمة نختفي من الضوء. نرى ماذا كانت تلك المخلوقات؟ إننا سوف نعرف شيئا عنها يوما ما. فأسرار أعماق البحار كثيرة جدا بحيث لا يمكن الكشف عنها جميعا في بضع غوصات قصيرة.

وتوقفت كرة الأعماق عن الغوص على عمق 428 متراً، وهنا يروى لنا الدكتور بيب أنه شاهد سمكة خيالية متناهية في الصغر لا يتجاوز طولها ۱۰ سنتيمتراً تعوم بسهولة في الضوء المنبعث من كرة الأعماق، ولقد بدا له أنه من المستحيل عليه أن يصدق أنه لا يمكنه فتح باب الكرة والعوم بنفس السهولة التي تعوم بها تلك السمكة. إلا أنه لو كان حاول ذلك ما لقي حتفه غرقا، إنما كانت قطرات الماء الأولى اندفعت خلال جسمه بقوة تحت الضغط المائل كأنها قذائف.

ولم يتقدم الغواصان في ذلك اليوم عن ذلك الحد، لكنهما حاولا الغوص مرتين في السنوات الأربع التالية في نفس تلك الكرة الصغيرة العتيدة المصنوعة من الصلب، ووصلا في المرة الأخيرة في أغسطس عام 1934 إلى عمق ۹۰۸ أمتار.

وعند هذا المستوى شاهدا مخلوقات أضخم وأغرب من تلك التي وجداها في طبقات الماء الأعلى. شاهدا مخلوقات عاش أسلاف بعضها في أغوار المحيط زمنا قد يصل إلى ملايين السنين قبل أن يوجد الإنسان.

وعلى الرغم من أن غوصات الدكتور بيب الأولى في كرة الأعماق التي صنعها أو تيس بارتون فتحت الطريق إلى منطقة لم يرتدها أحد من قبل فإنه لا تزال هناك عشرات الألوف من الأمتار من أعماق المحيط باقية تنتظر الاستكشاف.

وسوف تبدو كرة الأعماق لعلماء المستقبل المستكشفين بدائية ومضحكة كما حدث للقاطرة البخارية الأولى أو الطائرة الأولى، إلا أن كرة الأعماق الأولى جعلت في استطاعة الإنسان زيارة العوالم المجهولة.

ولقد غاص، حديثا، الدكتور أوغسطس بيكارد العالم البلجيكي وبعض ضباط البحرية الفرنسية إلى عمق يزيد على ۳۰۰۰ متر في البحر المتوسط أكثر من مرة!

وربما نتعلم كيف أن الحيتان يمكنها الغوص آلاف الأمتار دون الاستعانة بكرة الأعماق، في حين أن الإنسان لا يمكنه ذلك، وربما نعرف شيئا عن ثعابين البحر التي تعيش في كهوف أعماق البحار الظلمة بل ربما نتعلم الكيفية التي تتحكم بها كائنات الأعماق الحية في أضوائها لترشدها في طريقها خلال الظلمات.

لقد انفتح باب آخر عظيم للمعرفة على مصراعيه. وما هي إلا مسألة وقت حتى يمكننا جميعا ولوجه.