لقد تم أخيراً تسلق أعلى جبل في آسيا، بل في العالم، فبعد سنين من الصراع تم للإنسان ما بدا له مستحيلا في يوم من الأيام. إلا أنه على الرغم من أن جبل إفرست سوف لا يطويه النسيان، فمن المحتمل ألا تسترعي قصة البطولة التي تروي قهره انتباه أكثر من متسل الحبال.

على أن الجبال جميعها لا تفقد عظمتها بمجرد أن يقهرها الإنسان، فثمة قمة عظيمة تسلقها الناس أكثر من ست مرات حتى الآن، وعلى الرغم من ذلك فلا تزال من أبهر الجبال وأجملها. ومن الغريب أنها لم تحدد على الخارطة أو تعط اسمها إلا بعد تسمية جبل إفرست وقياسه بأربعين عاما.

وربما نلتمس العذر، اللذين لا يعرفون الحبال من خبرة التسلق، فهم يعتقدون أن الحبل هو جبل، وذلك هو كل ما في الأمر، وليس هناك ما هو أبعد عن الصواب من ذلك، كما يعلم جميع رواد التسلق. فحقيق أن جبل إفرست هو أعلى جبل في العالم، ولقد أثبت أنه من أصعبها تسلقا، إلا أنه توجد مم أوطأ منه لم يمكن تسلقها على الإطلاق على الرغم من فن المتسلقين.

وتوجد جبال في أمريكا الجنوبية يزيد ارتفاعها على 6000 متر يمكن أن يتسلقها أناس دون أن تطأ أقدامهم الثلج أو الجليد. ومن ناحية أخرى توجد جبال في أمريكا الشمالية يبلغ ارتفاعها نصف ذلك الارتفاع، صعبة المراس ولا يمكن أن يقهرها إلا أصلب المتسلقين عوداً وأكثرهم خبرة.

وحتى قبل بدء القرن الحالي ببضع سنين، لم يكن هناك من يستطيع أن يحدد أعلى جبل بين الجبال التي تقع في شمال المكسيك، وتواترت الشائعات بوجود قمة عظيمة في قلب ألاسكا بحتمل أن تكون أعلى قمة في العالم، إلا أنه كان من الصعب الوصول إلى تلك المنطقة، وبقيت سنين عديدة بمنأى عن الأقدام، ولم يمكن لأي شخص القرب منها قربا كافيا للتحقق من ذلك وفي عام ۱۸۸۹ وقع بصر أحد الباحثين عن الذهب على الجبل، وحكى عنه بحماسة شديدة عند عودته للمدينة.

وفي عام ۱۸۹6 اقترب شخص آخر من القمة المجهولة الاسم قرباً يكفي لتخمين ارتفاعها، وجاء التخمين حسناً فيما يتصل بالارتفاع، لكنه لم يكن موفقا، في نظر الكثيرين، في اختياره للاسم الذي أطلقه عليه. فلقد قال إن ارتفاع الحبل كان ۹۰۹۰ متراً وأسماه جبل ماكينلي نسبة إلى أحد السادة غير المرموقين، وكان مرشحاً لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في ذلك العام.

ومن حسن الحظ أو سوئه التصق الاسم الذي اختاره الباحث بالجبل وحدد جبل ماكينلي في النهاية على الصورة «الخارطة، إلى الجنوب قليلا متوسط ألاسكا بالضبط. ولكن لم يحاول أي إنسان تسلقه إلا بعد مرور سبعة أعوام على ذلك، وحتى تلك المحاولة انتهت قبل أن تترك أثراً في جليده.

لقد كان هناك سبب قوى للفشل؛ فكان ذلك الجبل الضخم الذي أسماه الهنود العظيم، قائما في وسط القفار الموحشة التي لم تحدد على المصورة والخارطة، على الإطلاق، وكانت أقرب البقاع المأهولة بالسكان إليه فما عدا معسكرات المناجم أو التجمعات التجارية، هي فير بانكس الواقعة على نهر تانانا على بعد 40 كيلو متراً إلى شمال الشرقي، وأنشو راج الواقعة على شاطئ مدخل كوك على بعد 40 كيلومتراً إلى جنوبه الشرقي.

وتفصل بين جبل ما كينلي وبحر بيرنج مسافة تقرب من 140 كيلومتراً من الجبال والغابات والأنهار والمستنقعات المتجمدة، وتقع الحدود الكندية على بعد يزيد على 480 كيلو متراً شرقا يقطع فيها المسافر المزيد من الغابات والسلاسل الجبلية والأنهار العظمي.

وربما كانت القمة ذاتها أعظم كتلة جبلية مفردة في العالم. فيرتفع جبل ما كينلى ما لا يقل عن 5400 متر فوق التلال المنخفضة التي يبرز منها، على عكس جبل إفرست في آسيا الذي يرتفع أكثر قليلا من ۳۹۰۰ متر فوق قاعدته عندم دخل ثلاجة رونجبك، ويتكون سكان تلال جبل ماكينلي من الوعول والدبية خراف الجبال والذئاب فقط، وهناك اختلاف آخر بين جبل إفرست وجبل ما كينلي وهو أن ال 5400 متر التي يرتفعها هذا الأخير مغطاة بصفة مستمرة بالثلوج والجليد.

لا يمكن لجبل مثل جبل ماكينلي أن يوجد ببساطة دون إغراء الناس على تسلقه حتى القمة، حتى ولو كان قائما في وسط القفار الموحشة. ومن الغريب أن الناس البدائيين لم يراودهم الشعور بتحدي هذا الجبل الشامخ، أو إذا كانوا قد شعروا بهذا الشعور، فلا بد أن الخوف ثبط هممهم.

فلقد كانوا يعتقدون أن الأماكن العالية هي مأوى الشياطين المتوحشة والآلهة التي يهمها ألا يقلقها أحد. وربما يوجد بين المتحضرين أيضا بعض الناس الذين لا يقدمون على تسلق المرتفعات التي تحيط بمساكنهم؛ إذ أنهم واثقون من عدم وجود أ ي شيء على الجانب الآخر من تلك المرتفعات.

إلا أن الغالب هو أن الإنسان فضولي ومخاطر، وقد أمضى هذا التشوق للمخاطرة ميزة أخرى على جبل ماكينلي. فلقد بلغ من جاذبيته للناس أن أحدهم على الأقل، حاول أن يكسو نفسه برداء العظمة عندما ادعى أنه وصل إلى قمة الجبل، في حين أنه لم يقترب منه في الواقع.

وجبل ماكينلي يشبه جبل إفرست في أنه عملت رحلات عديدة قبل أي محاولة لتسلقه، وذلك قصد الاهتداء إلى طريق الوصول إليه.

بدأ الهجوم على جبل ماكينلي بحماسة في عام 1906، ولو أنه جرت محاولة قبل ذلك في عام۱۹۰۳ وباءت تلك المحاولة الأولى بالفشل؛ إذ أنها وصلت إلى قاعدة الكتلة الجبلية العظيمة فقط، ولم تضف شيئا إلى المعرفة البشرية فيما يتصل بكيفية الوصول إلى القمة.

وفي منتصف شهر مايو عام 1906 انضم الأستاذ هيرشل باركر والمستر بلمور براون والدكتور فريدريك أ. كوك إلى فرقة من الجيش في رحلة إلى جبل ماكينلي، وبدأت الرحلة من سيلدوفيا القريبة من خليج كوك بألاسكا والتي تبعد 400 كيلومتر عن الحبل العظيم الغامض. وكان الفريق كبيراً وزود بعشرين حصانتا للأحمال وقارب بخاري وكثير من العمال والسياس ومساح ومصور، لقد كانت رحلة حقيقية زودت بالطعام الوفير والخبرات العديدة، كما دلت على ذلك جميع المظاهر..

كان الأستاذ باركر من رواد الجبال ذوي الخبرة، وكذلك كان المستر براون، أما الدكتور كوك فقد سبق له أن صحب بيري إلى منطقة القطب الشمالي، وجاب الكثير من القفار الموحشة جنوب ماكينلي. وأمضت البعثة الفترة من منتصف مايو حتى أغسطس تصارع الماء والثلج والجليد والمستنقعات والبعوض.

وعلى الرغم من أنها لم تقترب مسافة ملحوظة من هدفها، فإنها أثبتت أن الخيل حيوانات لا تصلح للحمل في بعثة مثل هذه البعثة. وظهر واضحا من الاكتشافات التي سجلت في هذه الرحلة أنه لا يمكن تسلق جبل ماكينلي من الناحية الجنوبية، وظهرت نتيجة أخرى لهذه الرحلة الكشفية تعتبر من أغرب الأمور الحيالية في تاريخ تسلق الجبال بأجمعه.

بدأت القصة العجيبة عندما انقضت بعثة عام 1906 في صيف ذلك العام، وبدلا من أن يخلد الدكتور كوك إلى الراحة عقد العزم على العودة إلى أعلى نهر سسيتنا ليرى أهناك أية دلالة على إمكان الوصول إلى ذلك الجبل الذي أطلق عليه هنود الشمال اسم «الدينالي» أو «العظيم، عن ذلك الطريق. وأراد براق أن يصحبه في هذه الرحلة إلا أن الدكتور كوك أصر على أنه سيقتصر على تأمل ما حوله، ولن يقوم بعمل استكشاف حقيقي.

أضف إلى ذلك أنه فضل أن يقوم براون بصيد بعض الحيوانات في جبال شوجاتش لصالحه، وذلك لأن أحد المتاحف في الشرق طلب من كوك ـ كما جاء على لسانه - أن يحصل على بعض عينات من حيوانات ألاسكا من هذه المنطقة.

ذهب براون وهو متبرم إلى حد ما ليقوم بالصيد، ثم عاد إلى سيلدوفيا حيث سمع إشاعة، تواترت بعد فترة قصيرة، بأن الدكتور كوك تسلق جبل ماكينلي، ولم يتردد براون في ني هذه الإشاعة؛ إذ أنه كان يعلم كما كان يعلم الآخرون الذين يعرفون تلك البلاد أن الدكتور كوك لم يكن لديه الوقت ليصل إلى الحبل ثم يعود. ومن باب أولى ليتسلقه.

ولشد ما كانت دهشة براون عندما ظهر الدكتور كوك وصاحبه في سيلدوفيا في الحال، بل عندما قرر الدكتور أنه وصل إلى قمة الجبل. ولكن ظلت الشكوك تساور براون فانتحى جانبا بإد باريل رفيق الدكتور كوك والذي كان صديقا حميما له، وسأله عما كان يعرفه عن جبل ماكينلي، ولم يشأ باريل أن يقول إنه وصل إلى الحبل، بل أجابه بأن قال: واذهب وسل كوك». وبذلك تأكد براون، إلا أن يديه ظلتا مكتوفتين حتى بعد أن نشر الدكتور العجيب كتاباً عن «قمة قارتنا» متضمنا صورة ذبلت بالعبارة «قمة جبل ما كينلي».

ولقد رفض كوك - الذي ادعى في ذلك الوقت أيضا الوصول إلى القطب الشمالي - الإجابة عن الأسئلة أمام لجنة من نادي المستكشفين، فجاء على لسانه أن عقله تبلبل من التجارب المزعجة التي مر بها، بحيث إنه لا يمكنه الكلام دون الرجوع إلى يومياته. وطلب من اللجنة إمهاله أسبوعين ليستعد فيهما، واختي في هذين الأسبوعين تاركا العالم بين مصدق ومكذب.

كان هذا هو الموقف عام ۱۹۱۰، أي بعد ما وصف جبل ما كينلى لأول مرة بأكثر من عشرين عاما، وكان الناس تتملكهم الحيرة في حين كانت القمة الضخمة تشرف عليهم من علي ائها كعهدها من آلاف السنين.

وتبدو بجمالها وهي في كسوتها البيضاء الموشحة بالذهب، المرصعة بألوان ظلال الجليد الأرجوانية، رأسية على الأرض وكأنها في خفة السحاب، ترى هل وطئت قدم الإنسان هذه القمة؟ أم أنها ظلت حتى ذلك الوقت بمنأى عن الأقدام فلم تمس؟ لقد كان الدكتور هيرشل باركر وبلمور براون يؤمنان بما لديهما من مبررات، أن أحداً لم يتسلق تلك القمة، وظل الجبل العظيم مستحوذا عليهما، وكانا يعلمان أنه لابد لهما من المحاولة مرة أخرى، ولو كان ذلك بغرض تكذيب ادعاء الدكتور فقط.

وفي أوائل مايو أقلع باركر وبراون مع فريق بعد إعداداً تاميًا لكنهم لم يأخذوا معهم خلا هذه المرة. ومرة أخرى سلكا الطريق إلى الجبل العظيم من ناحية الجنوب. وإننا إذا تأملنا الخارطة نجد أن سلسلة ألاسكا الكبيرة التي يكون جبل ماكينلي جزء منها تمتد شمالا وشرقا كجناح منشور صاعد من شبه جزيرة ألاسكا غربي خليج كوك. وتغطى المنطقة الواقعة جنوب شرقي هذا الجناح الجبلي العظيم شبكة من الأنهار الحجرية السريعة التي تصب في خليج ألاسكا وتجرى في تلك الأنهار السريعة مياه ثلجية من الثلاجات الكبيرة في السلسلة الجبلية العظيمة.

ولقد بدا واضحا لباركر وبراون أن القافلة إذا اتبعت مجرى أكبر الأنهار إلى مصادره فإنها لا بد واصلة إلى أكبر الثلاجات التي تؤدي على جميع الاحتمالات - إلى أكبر انحدارات الحبل. فاختار المستكشفان، لهذا الغرض، نهر اسسيتنا، الذي يصب في النهاية الشمالية لخليج كوك. ثم اتبعا رافده والشوليتنا، إلى نقطة تبعد 14 كيلومتراً جنوب شرق الحبل حيث توجد ثلاجة عظيمة يندفق منها في النهر سيل جارف من الماء الثلجي الناصع البياض، وهنا أقامت القافلة معسكرها الأساسي بعد سفر استمر ستة أسابيع تقريبا، وأخذوا ستعدون لما حسبوه المرحلة الأخيرة في قهر ماكينلي.

ومرة أخرى كان عليهم أن يتعلموا أن ثمة أشياء في سلسلة ألاسكا يندر أن تبدو على حقيقتها. فكانت الثلاجة الى اعتزموا سلوك طريقها تبدو كطريق ثلجي متسع يؤدي إلى الحبل، لكنها كانت في الحقيقة أحبولة قاتلة من الحروف الثلجية والشقوق العميقة، المغطاة بغطاء خادع من الجليد الذي كانت تتألق عليه الشمس تألقا باهراً غالبا ما كان يضطره المار إلى التوقف عن المسير منشدة آلام العمى الجليدي، وفي كل مرة توقفت فيها القافلة كان المستكشفون محاصرون ببر ودة العواصف الثلجية، وانجراف الحلبد.

وعلى الرغم من أن المتسلقين صمدوا حتى أواخر يولية فإنهم كانوا غير قادرين على إحراز تقدم كبير. لكن جهودهم لم تذهب هباء؛ فعندما وصلوا إلى منتصف الطريق في أثناء صعودهم نحو الثلاجة العظيمة، رأوا واديا ثلجيا بين الحروف الصخرية المغطاة بالجليد. وكانت هذه النقطة هي آخر ما تمكن الدكتور كوك من الوصول إليه في الفترة التي تغيبها، واعتقد رجال القافلة أن الصور التي نشرها في كتابه والتي ادعى أنها صور قمة جبل ماكينلي لا بد أن تكون قد أخذت قريبا من هذه المنطقة، وسرعان ما تحققوا من صحة اعتقادهم عندما تسلقوا الحرف الذي يقع عند رأس الوادي.

والتقط بلمور براون صورة تشبه تماماً الصورة التي أطلق عليها الدكتور كوك قمة أعظم جبل في أمريكا الشمالية. إلا أن براون كان وهو يلتقط الصورة واقفاى على ارتفاع يقل عن ۱۸۰۰ متر فوق سطح البحر وعلى بعد ۳۲ كيلومتراً من ماكينلي.

ومرة أخرى رجعت القفار الشاسعة التي تحيط بماكينلي إلى حالتها الطبيعية فكانت الوعول تهيم على سطح التلال لا يزعجها إلا الذئاب، وفي الصخور الشامخة كانت الخراف الجبلية ترعى لا يكدر صفوها مكدر، أما الجزء الأكبر من «العظيم، فكان شامخا في بياضه الناصع ضخما بلغ عنان السماء يناطح الشمس والسحاب.

إلا أن هذا العالم ليس عالم سكون، فكانت ملايين الأطنان من الثلج المتدفق من على أكتاف الحبل نهدر ونصلصل، كمدفعية الجيش، في طريقها إلى أحواض الثلاجات العميقة. ومن الصخور الشديدة الانحدار كانت تنهار جبال ثلجية بأكملها انهيارة راعدة يتقدمها الغبار الثلجي متدحرجا في سحب يبلغ ارتفاعها آلاف الأمتار. أما في أعلى الأعالى فكانت قمة ماكينلى الناعمة تتألق في أشعة الشمس الساطعة في اطمئنان كأنها تقول: «هيا، تقدم وحاول الصعود إلى إذا أردت لكي توجه بنظرك إلى أسفل، وانظر ما لا بد لك من مصارعته.

وبعد سنتين من المحاولة الثانية الفاشلة كان الأستاذ باركر وبلمور براون مع أرثر أتن وميرل لاقوى على استعداد لمحاولة أخرى، وبدأوا رحلتهم هذه المرة في يناير حيث لا يمكن ركوب القوارب في الوصول إلى أعالي الأنهار، وكانت مياه نهر ا سسيتنا، وه شوليتنا، الثلجية غارقة في سكون عميق تحت عدة أمتار من الثلوج المتراكمة عليها، واستخدمت البعثة فرقة من الكلاب في صعود المضايق التي سبق لها أن صعدتها في قارب بخاري.

وفي 19 من فبراير عام ۱۹۱۲ أقلعوا من مستعمرة سيتنا الصغيرة في رحلة تزيد على مسيرة 160 كليو متراً نحو الشمال. وكانوا يأملون في أثناء تقدمهم أن يعثروا على طريق يقودهم عبر السلسة العظيمة إلى الجانب الشمالي الشرقي الجبل ماكينلي. واعنقد رجال البعثة أن هذا الاتجاه كان الاتجاه الوحيد الذي يمكنهم من تسلق الجبل.

وبعد شهر تقريبا، وفي يوم ۱۳ من مارس، وجدوا ضالتهم، نهراً مجهولا غير معروف الاسم، يجري في التواء خلال غور عميق من الشمال الغربي.

ولم يساورهم أدنى شك في أن هذا النهر يقودهم في اتجاه الوجه الشمالي الشرقي للجبل، ولكن لم يمكن لأي شخص أن يتنبأ بالعقبات التي تقابلهم في الطريق. وكان رجال القافلة لا يزالون على بعد 14 كيلومتراً من المكان الذي كانوا يأملون أن يجدوا عنده الطريق الذي يسلكونه ليمكنهم من بدء التسلق، ولو أنهم وجدوا بدلا منه جدران الصخور والثلج شديد الانحدار التي أوقفت تقدمهم في المرتين السابقتين لكانوا أصيبوا بالهزيمة مرة أخرى.

والآن يجب علينا أن نتذكر أن تسلق الجبال في الشمال الأمريكي أمر

يختلف عن التسلق في منطقة جبل إفرست في شمال الهند حيث يمكن استئجار الحمالين لحمل الطعام والعدد، ففي ألاسكا يتحتم على المتسلقين أن يحملوا أمتعتهم عندما يصلون إلى النقطة التي لا يمكن للكلاب الاستمرار في السير بعدها.

وفي 13 من مارس عندما وصلت بعثة باركر وبراون إلى النهر المجهول المؤدي إلى سلسلة جبال ألاسكا، كان ما معهم من مؤونة ومعدات يكفي أربعة أشخاص لمدة أربعة أشهر، وكان لابد من حمل كل ذلك فوق الثلاجات والمنحدرات الثلجية غير السوية في طقس بلغت درجة حرارته الصفر وجليد لا سع يعمي الأبصار، لمسافة تزيد على 64 كيلومتراً دون الاستعانة «بخارطة» أو أثر الإرشاد الرجال والكلاب. وكان الانحدار في بعض الأماكن شديداً بحيث كان عليهم أن يعلقوا الزلاقات في أحبال ربطت في فؤوس جليد ثبتت في الجليد. وبعد أسابيع ثلاثة من التقدم المحطم للقلوب في ظروف جوية قاسية جدا وجدت القافلة طريقا وعبرت السلسلة عند أعلى نقطة فيه، وكان ذلك الطريق فرجة على ارتفاع ۱۸۰۰ متر في الحاجز الحبلى العظيم.

وبعد أسبوع رأوا تحتهم - وكانوا هابطين – شيئا أمكنهم تعرفه؛ ذلك هو ثلاجة مالدرر العظيمة التي نسب اسمها إلى الطوبرغواني الذي وصفها لأول مرة، ويجري هذا النهر الثلجي الضخم في جلال وانعطاف من أكتاف الجبل العظيم إلى الأرض المغطاة بالغابات على الحافة الشمالية لسلسلة ألاسكا الجبلية.

وفي ۲4 أبريل كانوا قد وصلوا إلى ثلاجة مالدرو وعبر وا القنوات التي تخرج منها، ثم بدأوا في التسلق مرة أخرى وهم يجذبون وراءهم ۲۷۰ كيلوجراما من الأحمال إلى ارتفاع ۷۰۰ متراً. وهنا فوق خط الأشجار أقاموا معسكرهم بين الحورات وأشجار القطن البري المعوقة ولا يفصلهم عن جبل ماكينلي غير ۳۲ كيلومتر فقط! فاستكانوا للراحة استعداداً للهجمة النهائية، وأكلوا لحما عبيط طازجا، من الخراف الجبلية التي تمكن براون من صيدها. وكانوا بين الحين والحين، يقومون برحلات قصيرة نحو الجبل لدراسة أحسن الطرق المؤدية للقمة.

وفي ۲۸ من أبريل كانوا على أهبة الاستعداد، وكان عليهم أن يسير وا 16 كيلومتراً تقريبا أعلى ثلاجة مالدرر في طريق محفوف بمخاطر العثرات والجليد المتشقق. ولم يكن من الممكن حمل المؤونة والمعدات تلك المسافة في وقت كان دون الاستعانة بالكلاب.

وعند ارتفاع ۳۰۰۰ متر تقريبا أقاموا معسكرهم في زوبعة ثلجية قاسية على بقعة مستوية تحت مسقط ثلجي هائل مباشرة وقريبا من رأس الثلاجة.

وقد اضطروا إلى الانتظار تحت ظروف الطقس القاسية. وفي هذا المعسكر أتاهم الإنذار الأول، فكان الحبل يستجمع كل قوته ليحفظ نفسه من تدنيس الإنسان له، ولندع بلمور براون يروي لنا ذلك بنفس كلماته:

وكان الوقت بعد الغداء، حيث كان الأستاذ باركر نائما، وكنت أتجاذب الحديث مع لا قوى همسا، في حين كنا منصتين لفرقعة الجليد الذي تقذف به العاصفة جدران مأوانا الواهن. وفجأة شعرنا أن الثلاجة تميد تحتنا وأرعد الجبل القريب منا بانهيارات ثلجية. وقد ظننت أننا سقطنا في كهف ثلجي، أو أن السيراك (بروز في المسقط الثلجي الذي كان يعلوهم) كان يتساقط آخذنا معه، ولكن ردتنا إلى رشدنا بعد لحظة صدمة أخرى، وعندما جالت بخاطري فكرة الزلزال كان الهواء قد أرعد وأخذ يخفق تحت تأثير قوة الانهيارات التي لا حصر لها. لقد كان صوتا مريعا ومخيفا، وكم كنا سعداء عندما سكتت الأصداء وعدنا نسمع مرة أخرى صوت الريح والجليد الكثيب.. وحل يوم 5 يونية قبل أن يكون كل شيء معدا للهجمة النهائية على القمة.

وقد تم نقل المؤن إلى ارتفاع ۳۳۰۰ متر، أما بعد ذلك فكان لابد من حمل الأشياء الضرورية للتسلق الأعلى على ظهور المتسلقين، على أن الطقس لم يكن متعاونا، فقد كانوا في وقت متأخر.

وفي 8 من يونية انتاب الرعب أعضاء الفريق بعد أن قضوا ثلاثة أيام في عاصفة ثلجية شلت نشاطهم، وكان السبب في فزعهم صوت غير عادي خيل إليهم أنه صادر من الثلاجة التي كانوا يقفون عليها. وبدا لهم أن الثلج يزأر ويتشقق وسمعت أصداؤه تأتيهم بصوت هادر كأنها أصوات مدافع تنطلق من بعيد. ولو أن رجال الفريق كانوا يعلمون سبب ذلك الصوت، لكان لهم الحق في القلق، ولكنهم لم يمكنهم فهم السبب حتى بعد أن وجدوا رماداً لم يعرفوا مصدره في القدر التي كانوا يستخدمونها في إذابة الجليد لعمل الشاي.

وعلى الرغم من أن الضوضاء بدت كأنها صادرة من الثلاجة فإن سببها كان يبعد عنهم مسافة 480 كيلو متراً في شبه جزيرة ألاسكا. حيث ثار فجأة بركان قديم يطلق عليه: بركان كاتماي، يقع في الجزء الجنوبي الغربي من البلاد وعلى ارتفاع ۲۲۰ متراً. ولقد حدث هذا الفوران الذي يعتبر أعظم فوران في العصر الحديث يوم 8 يونية ۱۹۱۲. وكان ذلك غريبا، إذ أن البركان كان خاملا عدة أعوام. ولقد كانت الصدمة التي نتجت عن هذه الحادثة هي التي ارتجفت منها صخور وثلاجات جبل ماكينلي وأحدثت الانهيارات الخطرة.

وربما كان للفوران علاقة بالطقس القاسي الذي جاء في غير موعده، والذي كان السبب في متاعب المتسلقين وهزيمتهم النهائية.

ووصل باركر وبراون ولا ثوى إلى الحرف الشمالي الشرقي العظيم في 19 من بونية، وقاموا بتجربة تسلق، هذا على الرغم من الجليد والسحب المتواصلة وخطر الانهيارات الذي كان يهددهم باستمرار. (أما آتن فكان قد عاد إلى القاعدة بكلاب الفريق). وارتفعوا في هذا التسلق التجربي إلى 3960 متراً على جرف من الجليد شبيه بحد السكين كان انحداره يتراوح بين 50 و60 على الجانبين بطول ۱۰۰ متر على أحد الجانبين و۱۰۰۰ متر على الجانب الآخر.

ولقد كان انحدار هذا الحرف كبيرة جدا مما اضطر براون إلى قطع قمته ليسوى مكاننا يمكنهم الوقوف عليه.

ولقد اعتقدوا في بادئ الأمر أنهم يستطيعون نقل مؤنهم إلى التجويف المعروف بالحوض العظيم الذي يفصل قمة الجبل الشمالية عن قمته الجنوبية في أقل من يوم. لكنهم استغرقوا في الواقع ثلاثة أيام ليصلوا إلى مدخل الحوض.

وهناك تعرضوا لعذاب آخر بالإضافة إلى محنة العواصف الثلجية المتزايدة، ذلك عندما اكتشفوا، وهي على ارتفاع 5400 متر، أن الصنف الرئيسي في غذائهم ـ هر بس اللحم - لم يعد يناسبهم. ولقد كان هذا الأمر خطيراً لأنه لم يكنلديهم طعام آخر ليمده بالطاقة والوقاية من البرد حيث كانت درجة الحرارة على ارتفاع ۸۰۰ متر في السابعة والنصف من مساء ۲۹ من يونية 19 تحت الصفر.

وفي ۲۷ من يونية، استولى عليهم الاعتقاد بأن صباح الغد سوف يشرق عليهم وهم فوق القمة، هذا على الرغم من الطعام غير المناسب وعدم قدرتهم على النوم المريح في البرد القارس. فلقد انتهت أسوأ مرحلة للتسلق. وكان ميل. الطريق يسير بالتدريج تقريباً إلى أعلى ابتداء من الحوض العظيم. وبدا الأمر بسبطا.

وعندما وصلوا إلى ارتفاع ۱۷۰۰ متر، كانوا قد تركوا وراءهم آخر صخرة عالية وأمكنهم أن يروا لأول مرة القمة فوقهم. إلا أنه كان من الضرورى أن ينحتوا درجات في الجليد. ولما أصبحوا على مقربة من ارتفاع ۱۰۰۰ متر حيث أفقد البرد القارس أرجلهم وأيديهم الإحساس تقريبا شعروا بلفح الريح المحمل بالثلج منبئا بقدوم عاصفة ثلجية أخرى نحوه، ومن خلال الجليد اللاسع أمكنهم أن يروا أن الميل الذي أمامهم كان أقل انحداراً بكثير. لقد كانت بداية القمة الحقيقية! وواصلت الريح في الاشتداد، واستمرت تعصف بوجوههم المتجمدة.

كان براون سابقا زميليه فعاد إليهما ونحت ثلاثتهم مقعداً في الثلج، ولكنهم ما كادوا يفعلون ذلك حتى تبين لهم أنهم لا يمكنهم البقاء في هذه البقعة، فقد بدأوا يجمدون، وأراد الدكتور باركر مواصلة الصعود إلا أن براون كان يعرف أن ذلك مستحيل، وأشار في صمت إلى خط صعودهم، فرأوا أن مواقع أقدامهم كانت قد غطيت بالحليد.

وتلمسوا طريقم هابطين في العاصفة، وكانوا يتحسسون خطواتهم بأطراف فؤوس الثلج التي كانت معهم. ووصلوا إلى أعلى معسكر لهم فيما بين السابعة والنصف والثامنة من ذلك المساء حيث وجدوا ما يحميهم نسبيا، وكان قد أعياه صراعهم للريح الباردة التي كانت تهب بسرعة ۸۸ كيلومتراً في الساعة، في درجة حرارة ۱۰ تحت الصفر.

ولبثوا في معسكرهم طوال اليوم التالى، إذ أن الجليد الجديد غير مأمون السير عليه. وأمضوا وقتهم في الحديث عن الطعام والطقس، وفي محاولة تجفيف ملابسهم المملوءة بالثلج.

وفي الساعة الثالثة من صباح أول يولية أقلع ثلاثتهم في ضوء النهار الساطع نحو القمة مرة أخرى، ولكن خفقت قلوبهم وهم في تسلقهم؛ فقد كانت هناك كتلة سحابية كثيفة سوداء تتدحرج إلى أعلى وادي سسيتنا، ووصل المتسلقون إلى ارتفاع ۱۷۹۰ متراً قبل أن تحبط العاصفة الثلجية السوداء بالحبل مرة أخرى. وهكذا انتصر الدينالى، أو العظيم مرة أخرى! فهؤلاء ثلاثة رجال أبطال يتخبطون تخبط الأعمى وه هابطون في العاصفة يائسين فاقدي الإحساس، وقد وجدوا أنفسهم مضطرين إلى إعلان هزيمتهم بعد صراع استمر أربعة أشهر ونصف الشهر. لقد كانت هزيمة نهائية بالنسبة لباركر وبراون، إلا أن هذين الرائدين لذلك الحبل العظيم لم يشعرا بأن هزيمتهما تعد فشلا، فعلى أية حال لقد استكشفا وفتح الطريق للقمة وبلغا قمة الجبل، وفشلهما الوحيد ينحصر في أنهما لم يصلا إلى أعلى جزء للقمة - أي القمة الحقيقية.

وفي 4 من بولية وصل المتسلقون الذين نال منهم الإعياء إلى معسكرهم الأساسي حيث كان ينتظرهم أرثر آتن والكلاب. وهنا أخذوا قسطهم من الراحة وهم بصنفون معداتهم ويجففونها. وفي 6 من بولية وبينما هم جالسون في معسكرهم يتناقشون في أمر الطقس الذي كان منذراً بالويل إذ سمعوا فجأة صوتا يشبه الرعد يأتي من اتجاه جبل ماكينل. وغطى الجبال ضباب مباغت بدا كأنه يزمجر ويولول.

ثم انهار المعسكر عليهم وانقلب كل شيء غير مثبت، بما في ذلك الموقد رأسا على عقب، وانفصلت صخرة ضخمة تزن مئات الأرطال عن الأرض واستقرت أمام خيمتهم على بعد عدة أمتار منهم. وتماوجت الأرض وتدحرجت واهتزت مثل الهلام. وانفصال الوجه الغربي لجبل بروكس، وهو قمة يبلغ ارتفاعها 3600 متر تقع شرق ماكينل، انفصل هذا الوجه بأكمله عن الحبل وانزلق كأنه انهيار ضخم نحو وادي الثلاجة الى تقع أسفله. وبعد بضع دقائق انتشر غبار الثلج إلى ارتفاع آلاف الكيلومترات في الهواء ثم اندفع هابطا إلى الوادي نحو معسكر رواد الجبال الذين تملكتهم الدهشة.

لقد وجد الرجال الوقت الذي اتسع لتثبيت أطراف خيمتهم بالصخور.

والزحف تحنها عندما صدمتهم السحابة التي كانت مندفعة إلى أسفل بسرعة۱۹ كيلومترا في الساعة، وواصلت هديرها هابطة إلى الأراضي المنخفضة، وما إن مرت بهم السحابة حتى زحفوا إلى الخارج ونظروا حولهم في استغراب، لقد أصبحت الأنهار الواقعة أسفلهم بلون الشيكولاتة من الطين وفاضت على جسورها، وبدت الجبال التي كانت ناصعة البياض من فوقهم ندية وغشيتها سحابة من الثلج وغبار الصخور.

نظر المستكشفون الأربعة بعضهم إلى بعض في صمت، لقد تبين لهم أنهم لو كانوا فوق الجبل في هذه اللحظة لما بقوا أحياء، لقد عاشوا، عن طريق المصادفة المحضة في التوقيت، في أعظم زلزال، وكان من الممكن أن تحطم الأرض المرتجفة مدينة بأجمعها وتقتل أغلب سكانها لو أن هذه المدينة كانت واقعة في حدود 100 كيلومتراً.

وفي طريق العودة سمع المتسلقون إشاعة تقول إن بعض المنقبين قد تسلقوا القمة الشمالية للجبل (تنخفض عن القمة الحقيقية بحوالي 300 متر) منذبضعة أسابيع عن طريق فير بانكس التي تقع على بعد 40 كيلومتراً إلى الشمال. ولقد تشكك المستكشفون في هذه الإشاعة، إذ أنهم رأوا تلك القمة الشمالية وكانوا يعرفون ظروف التسلق في الجبل.

وبهزيمة أصلب قوة وأحسنها عتاداً، أرسلت حتى ذلك الوقت لتسلق جبل ماكينلي، كان الجبل قد استنفد جميع الحيل التي في جعبته. ولم يكن الدكتور هدسون ستاك رئيس شمامسة يوكون، يدري عندما أقلع في ربيع عام ۱۹۱۳ أنه كان يقترب من جبل كانت أيامه - كلمة لم يتسلقها إنسان - معدودة.

كان الدكتور ستاك رجلا ضئيلا نحيلا لا يزيد وزنه على 67 كيلوجراما لكنه كان متسلقا ذا خبرة. وكان قد أمضى أعواما كثيرة في جليد ألاسكا وثلجها اللذين لا يمكن أن يتغيرا، كما جاء على لسانه، لمجرد أنها ارتفعت ۱۰۰۰ متر في الهواء.

وكان اثنان من مصاحبي الدكتور ستاك في التسلق الواقعي؛ من أهالي ألاسكا الذين ساروا متجمعين وعلى زلاقات آلاف الكيلومترات من الطرق غير المطروقة في جميع أنحاء البلاد الشاسعة. وكان الرجل الرابع في الفريق مبعوثا شابا كانت له خبرة سنتين في الشمال.

لقد كان هؤلاء الرجال يعرفون، بل كانوا قادرين على استخدام الأراضي بطريقة أفضل من أعضاء بعثة باركر وبراون، فلم يحملوا معهم كمبات غير الازمة من مفرى اللحم، لأنهم كانوا يعلمون أنه من الممكن العثور على حيوانات الصيد عند معسكرهم الأساسي، ومن الممكن تجهيز الصيد للغذاء وقت صيده.

أقام الدكتور ستاك مركز قيادته في نينانا التي تقع على بعد 80 كيلومتراً جنوب غربي فير بانكس وتبعد مسافة تزيد قليلا على 160 كيلومترا عن جبل ماكينلي، ومن هذه النقطة بدأ الدكتور وفريقه اقترابهم من الحبل من الناحية الشمالية ووصل إلى معسكره الأساسي في أوائل أبريل وأقامه في التلال السفحية بالقرب من المكان الذي أقام فيه باركر وبراون معسكرهما من قبل.

 وكان قد اصطحب معه صبيين هنديين من إرسالية نبنانا - جوني فريد وإسباس - وعهد إليهما بالعناية بالكلاب وقيادتها، وأعيد إسياس من المعسكر الأساسي إلى نينانا مصطحباً معه إحدى فرقى الكلاب، أما جون فريد فقد بني في المعسكر الأساسي ومعه الفرقة الأخرى من الكلاب، وعلى الرغم من أنه كان يناهز الخامسة عشرة من عمره فإنه كان يقوم بالأعمال المنزلية ويذهب للصيد ويرعى الكلاب.

سلك الدكتور ستاك في صعوده الحبل طريقا يطابق تماما طريق باركر وبراون، واستخدم الكلاب، كما استخدمتها البعثة السابقة، في حمل المؤن على ثلاجة مالدرو إلى أبعد نقطة ممكنة. ومن هذه النقطة كان على الرجال أن بحملوا أحمالهم على ظهورهم، فكانوا يودعون مؤنهم في حفر ويعودون لإحضار المزيد منها، ولقد تم كل ذلك في العواصف الثلجية والبرد القارس، والغريب أنه بالإضافة إلى ذلك كانت الشمس تلفحهم بحرارتها، وكان عليهم أن يحملوا أحمالهم فوق ثلوج الثلاجة الموخوزة بالشقوق المختفية تحت الجليد والتي تبلغ أعماقها مئات الأمتار. ولقد قدر الدكتور ستاك أن كل رجل من رجال فريقه الأربعة تسلق في الواقع أكثر من ۱۸۰۰۰ متر بدلا من ۱۰۰۰ متر – المسافة الحقيقية للقمة.

كانت ضرورة حمل الأشياء إلى أعلى ارتفاع ممكن وتركها في المعسكر، ثم العودة ثانية لإحضار المزيد منها هي الأمر الذي كاد يفسد بعثة ستاك، في أثناء عودتهم من أسفل الجبل ذات يوم مثقلين بالأحمال إلى المعسكر الذي سبق أن أقاموه في موقع أعلى، رأوا دخانا يعلو الثلاجة، كان صادرة من موقع معسكرهم!

ويعني ظهور الدخان في هذا المكان الذي يعلو خط الأشجار في الشمال شيئا واحدة فقط - هو وجود الإنسان، ولكن من هو الإنسان الذي يمكن أن يكون موجودة في المعسكر؟ أسرع الدكتور ستاك وفريقه حتى وصلوا إلى مخبأ مؤنهم في الوقت المناسب لإنقاذ جزء من المؤن. فوجدوا النيران تضطرم في يمتهم وأفنت كل سكره الثمين، واللين المجفف، ومسحوق الخميرة، والفواكه المجففة. والبسكويت، وأغلب طباقهم والجوارب الاحتياطية والقفازات وأفلام التصوير. وحقيقة لقد دن الدخان على وجود انسان، لكن هذا الإنسان كان واحداً منهم ألفي عود ثقاب بإهمال دون أن يتأكد من إطفائه.

وفي 9 من مايو أرسلت الكلاب ثانية إلى المعسكر الأساسي، مع جون فريد: وأقلع المتسلقون في طريقهم إلى الحوض العلوي الواقع بين قمة جبل ماكينلي، متسلقين الحرف الشمالي الشرقي العظيم المؤدي إلى ذلك الحوض من ثلاجة مالدر و، وكانوا قد قرأوا مقالا كتبه بلمور براون في إحدى المجلات يصف فيه هذا الحرف. فقال عنه براون إنه: وطريق جليدى مائل شديد الانحدار لكنه عملي». وهذا هو ما ظهر في الصورة الفوتوغرافية التي نشرت مع المقال. إلا أن الحرف الذي كان أمامهم لم يكن يشبه على الإطلاق الحرف الذي ظهر في الصورة! لقد كان عبارة عن كتلة من الثلج والصخر تفتتت واختلطت قطعها فأصبحت شبيهة بأسنان المنشار.

.

وقف الدكتور ستاك مشدوها غير قادر على تصديق ما رأته عيناه ثم أدرك السر، فلقد جعل الزلزال الذي روى عنه فريق باركر وبراون - وكان أسوأ زلزال بعد نكبة سان فرانسيسكو في عام 1906 - الطريق الوحيد المعروف القمة ماكينلي مستحيل الاجتياز تقريبا.

التي الدكتور ورفاقه بأنفسهم في هذا الخليط من الكتل الثلجية الضخمة التي تناهز المنازل في حجمها، وشقوا طريقا فيه، واستغرق تسلقهم الحرف ثلاثة أسابيع، وهو الحرف الذي تسلقه باركر وبراون في يومين. وتبرز رحلة ال 4 , 8 كيلومترات هذه – بواقع 6;1 كيلومتر في الأسبوع -كانتصار من الانتصارات المرموقة جدا في تاريخ تسلق الجبال. فلقد فت فعلا في عضد مقاومة ماكينلي.

إلا أن الحبل العظيم كان لا يزال محتفظا ببضعة أسهم في جعبته. فبعد أن استنفد كل الحيل الممكنة لتثبيط هم مهاجميه، حاول بالحرارة هذه المرة.

فلقد استقر الطقس بشمسه الساطعة سطوعا متواصلا لا تشوبه عواصف ذات بال، وسجل المحرار والترمومتر» في 4 من يونية درجة حرارة 50 وهي حرارة خطيرة على الجليد العاكس لأشعة الشمس، وحمل الأمان على الجليد في هذه الحرارة من الأعمال المفجعة القاصمة للظهر.

لكن الحرارة والوهج وأحيانا البرد - إذ أن درجة الحرارة كانت تنزل أحيانا إلى 10 أو ۲۰ تحت الصفر - لم تمنع المتسلقين من الاستمرار في المضي إلى هدفهم. لقد كان الطقس صافيا بدرجة غير معتادة، وكان لدى الفريق طعام وفير. فعبروا الحوض العظيم بسهولة نسبيا وأقاموا معسكره عند قاعدة الحرف النهائي، وكان أمامهم تسلق يوم واحد، في حين كان ما لديهم من الطعام والمؤونة يكفيهم ثلاثة أسابيع. وكان الدكتور ستاك، أكبر الأربعة سنا وأعجزهم لا يقدر على التسلق أكثر من دقيقة أو دقيقتين دون أن يستريح وقتا أطول من ذلك بكثير.

وهكذا مضوا في طريقهم، يحابيهم الطقس الذي كان صافيا، ولو أنه انقلب قارس البرودة ثانية. لقد كان صافيا جدا لدرجة أنه أمكنهم أن يروا صارياً خشبيا فوق أعلى نقطة للقمة الشمالية! وعلى ذلك فالإشاعة التي سمعوها كانت صحيحة. لقد وصل المنقبون الآلاسكيون من فير بانكس إلى القمة على أي حال.

فلقد ظهر فيها بعد أن المنقبين صعدوا من الثلاجة في يوم واحد دون الاستعانة بالأحبال أو فؤوس الجليد، وكانوا يحملون معهم صار يا طوله 4٫۲ كيلومترات، أمكنهم أن يغرسوه في أعلى نقطة للقمة الشمالية، تلك القمة التي ظن بلمور وبراون أنه لا يمكن لأي إنسان أن يتسلقها. حقيقة أنهم وصلوا إلى نقطة تبعد 24۰ متراً أو ۳۰۰ متر من قمة أعلى جبل في أمريكا الشمالية، إلا أنه لم يسبق هذه الرحلة رحلات تسلق كثيرة مثلها في تاريخ البشرية أجمع. ولا يدري أحد السبب في اختيارهم القمة الشمالية. ربما دخل فيروعهم أنهم صعدوا إلى القمة الحقيقية للجبل، وربما أنهم اختاروا القمة الشمالية عن قصد، لأنه يمكن رؤيتها من موطنهم فير بانكس في الطقس الصافي، في حين لا يمكن رؤب القمة الجنوبية العليا من ذلك المكان.

شعر الدكتور ستاك ورفاقه بالخلاص عند ما تبينوا أنهم غير مضطرين التسلق القمة الشمالية لإثبات ما إذا كان أي شخص قد وصل إليها أم لا؛ فضوا في طريقهم خطوة خطوة حتى وصلوا إلى آخر درجة في الجبل العظيم. واقد مرت بهم لحظات شعر فيها الدكتور ستاك أنه غير قادر على الاستمرار لكنه لم يستسلم على الإطلاق.

واتضح لهم أمر من الأمور، فعلى الرغم من أن بعثة براون وباركر قد وصلت في العام الأسبق إلى ارتفاع يزيد على 600 متر على التاج الحقيقي للجبل، إلا أنهم كانوا بعيدين عن القمة الحقيقية بمسافة أكبر مما ظنوه بكثير.

وبدا لهم الميل الأخير، الذي لم يقع بصرهم في أثناء قطعه، إلا على الجليد، طويلا لا نهاية له. غير أنهم وصلوا إلى تلك النهاية ولم يعد يقال إن والعظيم، لم يتسلقه أحد، ولو أن ذلك لم ينقص من عظمته شيئاً. لقد وصلت بعثة ستاك إلى القمة الحقيقية لجبل ما كينلي.

واستلي المتسلقون المنهكون على الجليد بعد أن أدوا صلاة قصيرة للشكر، ثم أخذوا بعض الأرصاد الدرجة الحرارة وقراءات البارومتر، وحددوا الموقع باستخدام بوصلة منشورية، والتقطوا من الصور العدد الذي سمحت لهم به أصابعهم المتجمدة، ولم يهبوا للاستمتاع بالمنظر والإعجاب به إلا بعد أن أتموا كل هذه الأعمال.

ولقد وصف الدكتور ستاك شعوره بالرهبة في ذلك المكان العالى بعد أن صعد إليه بما يلي: وإن أولئك الذين صبوا إلى أمنية عظيمة تكاد تكون متطرفة، وتحققت لهم تلك الأمنية طبقا لما كانوا ينتظرونه تماما، هم فقط، الذين يمكنهم التغلغل إلى الشكر العميق، والرضا الذي ملأ القلب عند الهبوط من فوق الجبل.

ولم يكن ثمة فخر بالقهر أو أي أثر لذلك الابتهاج بالنصر الذي يعم البعض عندما يصعدون إلى قمة عالية لأول مرة، أو انتباه إلى الحظ السعيد الذي رفعنا بضع مئات من الأمتار أعلى من أولئك الآخرين الذين صارعوا وهزموا. إنما انتابنا شعور بأننا منحنا شرف التعامل مع الأماكن العالية على الأرض، فلم يسمح لنا فقط برفع أعيننا المتشوقة إلى تلك القمم التي بقيت في غموض وانعزال منذ بداية العالم، بل سمح لنا أيضا أن نقدم لها أنفسنا في جرأة ونسود عليها في قاعات عرشها التي كانت مغلقة حتى ذلك الوقت، ونسكنها وننظر من فوقها إلى ما تحتنا لنرى جميع الأشياء وهي منتشرة من خلال نوافذ السماء ذاتها،

وكان المتسلقون قد أخبر وا جولي فريد عندما تركوه مع الكلاب فوق الثلاجة أنهم عائدون في ظرف أسبوعين، لكن مضت أربعة أسابيع، وعندما وصلوا إلى المعسكر الأساس كانوا قد تغيبوا ۳۱ يوما.

ولقد كان جوني الذي ناهز الخامسة عشرة أمينا على وديعته، فاعتنى بالكلاب عناية طيبة، وكذلك بالمعسكر فجعله جديدة. ولقد جلب هذا الصي الهندي الذي كانت مدرسته الوحيدة هي القفار الموحشة ومدرسة الإرسالية، النبل والشرف للجبل الذي لطخ اسمه إلى حد ما الدكتور كوك سليل الجامعات.

فقد كان جوفي مع المتسلقين الأربعة فوق الثلاجة عندما اكتشفوا أن النار تضطرم في خيمتهم وأن مؤنهم قد فنيت، وكان يعلم أنه لن يكون لديهم سكر أو لبن بعد انتهائهم من محنتهم فوق الجبل، فترك نصيبه من السكر واللبن الذي ترك له في المعسكر ولم يمسسه طوال الأيام الواحد والثلاثين التي قضاها وحيداً، وظل السكر واللبن ينتظران المستكشفين المنهكين المتعبين إلى أن وصلوا إلى قاعدتهم.

وإنه لمن الصعب أن نصدق أن سعادة الدكتور كوك في ادعائه الكاذب بلقب قاهر جبل ماكينلي كانت في عظمة سعادة جوني فريد عندما تنازل عن شيء من حقه لصالح الآخرين.