لماذا اخترت هذا الكتاب أو حتى قررت أن تقرأ؟ لماذا اخترت مسيرتك المهنية أو موظفيك أو منظومة قيمك أو شريكة حياتك؟ وبجدية تامة بماذا كنت تفكر حينها، خاصة إذا وضعت في الاعتبار غالبية من عرفتهم على مر السنين؟ إذا احتجت يوما دليلاً على أننا لا نعي حقا دوافعنا -سواء نحن أو من حولنا- فحينئذ كل ما تحتاجه هو أن تمد يدك إلى أقرب ألبوم صور، أو استعراض أرشيف حساب فيسبوك؛ للحصول على تشكيلة من قرارات العلاقات التي لم نفكر فيها مليا، والخيارات السخيفة وبعض الآراء التي تستحق التراجع عنها: "إلغاء الإعجاب"!

ولأننا جميعا مجرد نتاج لمحصلة ما نتخذه من قرارات، فنحن بحاجة إلى وجود فهم أفضل للبواعث الكامنة وراء تلك القرارات، وما يجعلنا نقتنع
بشيء، وما يجعلنا نشتريه. وهذا أمر وثيق الصلة بما نناقشه، لا سيما أن العديد من النظريات التي تعنى بالسلوك الإنساني وتحاول تفسيره هي
نظريات معيبة، وتستند في فكرها إلى التفكير الرغبوي أكثر مما تستند إلى الخبرة.

ويقتضي الالتزام بالأمانة التامة القول بأنه خلال المائة عام الماضية -وربما خلال الجانب الأكبر من تاريخنا- انصب جل التركيز الذي يستهدف فهم
البواعث المحركة للسلوك الإنساني (البحث السلوكي كما يطلق عليه في الوقت الحالي) على البحث عن الأدوات النفسية والمادية، للتأثير على سلوك
الأفراد وتغييره ومحاولة السيطرة عليه. والغاية من ذلك هي جعلنا أتباعا أكثر طاعة، وأطفالاً أكثر تهذيبا، وعاملين أكثر إنتاجاً، وأفرادا في المجتمع؛ ومع توجه المجتمع نحو التصنيع والتطور نصبح مستهلكين طيعين وفرقا وأفرادا أرقى في الأداء. وتضمنت تلك الأدوات بعض الخيارات الغريبة على مر السنين، مثل: القمع، والتعذيب، والاختطاف، وأساليب الرقابة اللصيقة بل والعبودية، ولم يكن الأمن والسلامة المهنية من الجوانب التي اشتهر المصريون وبلاد الرافدين والرومان بل وحتى الأوربيون بالاهتمام بها. 

وأثمر جانب كبير من هذا الجهد نجاحا مختلطا مع ظهور نماذج الإقناع واختفائها، وإثبات أبناء الجنس البشري أنهم أسرى لأساليبهم، وأقل قابلية
للسيطرة عليهم عما كنا نظن. نحن لسنا آلات، ومن ثم فإن محاولة تغيير سلوكنا ليست بالمهمة اليسيرة.

ومع ذلك، فإن هذا الاتجاه، بدلا من أن يكون رمزا للفشل، فإنه سلح من يعملون في مجال البحث السلوكي والاستراتيجيات بفهم أفضل للبواعث التي
تستثير الجانب الحيواني في الإنسان، بل وتحولت في حقيقة الأمر إلى أحد الأصول في هذا الصدد.

وبعد إلقاء الضوء على جميع ما تقدم، تظل هناك حقيقة ثابتة مفادها أننا نواصل حتى يومنا إضفاء طابع رومانسي على السلوك الإنساني، مفضلين
النظر إلى عالم التحفيز، إذا لم يكن من خلال نظارة وردية، فمن خلال نظارة تلون عدساتها الإيجابية. إننا نحب التفكير في أن دوافعنا باعثها الأفكار
النبيلة والأخلاق الكريمة القائمة على نكران الذات، والشعور بجرأة المغامرة، والقدرة على تقبل التعقيد، والعمل الدءوب من أجل تحقيق النجاح (ما رأيك
في ذلك؟) . ولكن بالطبع تلك هي دوافعنا، وكل ما هنالك أن كل شخص آخريحتاج إلى تحسين شروط اللعبة.

هذا الاتجاه الفكري يجافي الحقيقة إلى حد كبير، وغير واقعي تماما، ولا يوجد ما يدعمه البتة، ليس هذا فقط بل نعتقد أنه يؤدي إلى نتائج عكسية؛ إذ
يتجاهل القوة الكامنة وراء ميولنا الطبيعية، وهو ما يدفعنا في نهاية المطاف نحو الفشل. إن هذا الوهم السعيد يسلبنا الإدراك الكامل لحقيقة أنفسنا
(وهو ما يتناقض مع حكمة النصيحة التي وردت في مقولة سقراط في بداية هذا الفصل)، ويحرمنا من غفران ما يصفه العديد منا بالعيوب، بالإضافة إلى
الاطلاع على الاستراتيجيات المستندة إلى الواقع، وليس إلى نظرية أكاديمية أو حتى علم نفس شعبي واسع الانتشار. بعض الناس ممن يحتلون موقع القيادة، أو يسعون للتأثير أو إحداث تغيير، أو يسعون وراء البيع، أو يدرسون، أو يرغبون ببساطة في تحدي أنفسناوتعزيز أدائنا، ربما يستطيعون الاستفادة من تقييم أكثر موضوعية للقوى المحفزة لسلوكنا والاستراتيجيات الواقعية، لكي نكون أكثر جاذبية وأقوى عزما وأمضى تأثيرا وأكثر إقناعا ونجاحا .

ونود الإشارة في هذا الكتاب إلى أن استراتيجية السباحة مع تيار الطبيعة البشرية، ومواءمة العمليات مع الأشخاص، وتمكين الأفراد والجماعات من إظهار أفضل ما فيهم (وليس ما نريدهم أن يكونوا عليه)، أكثر جدوى ونجاحا من الاستراتيجيات التي نتبعها حاليا؛ إذ تحد استراتيجياتنا الحالية،
في محاولة للحفاظ على السيطرة المطلقة، من كفاءتنا وتكبح حماسنا وتقيد إمكانية التحكم في المهارات والمواهب التي نتمتع بها والاستفادة منها
استفادة تامة.

لقد عملنا خلال فترة طويلة من مسيرتنا المهنية كقادة استراتيجيين ومبدعين فيما يمكن وصفه بأضخم تجربة نفسية على مستوى العالم، وهي صناعة الإعلانات. وبالتأكيد، مجال الإعلان له وصول إلى أبحاث وأحجام عينة ونتائج متنوعة الثقافة لا يستطيع العالم الاكاديمي والعلاجي الدنو منها. ولم تحكمنا، ولو بين الفينة والفينة –وهو ما يدعو للخجل- موضوعات كالأخلاق  والضمير والبوصلة الأخلاقية (بغض النظر عما تعنيه) .

ومع هذا، سمح لنا ذلك بالحيادية الشديدة في أعمالنا أغلب الأوقات، والانفصال اجتماعيا تقريبا عن القيم والآراء التي ربما تشوه تفسير النتائج.
والأمر الساخر حقا في هذا الشأن أنه أمدنا كذلك بالقدرة على التركيز على نحو أكبر على "الحقيقة’’.

ونعمل الآن في مجال نشاطنا الحالي -بمعهد المستحيل the Impossi  ble Institute، وهو عبارة عن مستودع فكر للتجديد والاندماج والقيادة-
بعالم التدريب والتحدث والاندماج الثقافي والتنمية. وركزنا هنا أيضا على تحقيق النتائج، وليس على محاولة الحد من السبل التي من شأنها مواءمة
النتائج التي تتحقق مع قيمنا وتحيزاتنا وآرائنا الشخصية في العالم، لا سيما أن هدفنا ليس تشكيل العالم من جديد ليكون على شاكلتنا (على الأقل لا نود المجاهرة بذلك على رءوس الأشهاد).

ولكن قد يكون من الخطأ افتراض أن التركيز على النتائج هو أحد مرادفات العالم التجاري، فالنقيض تماما من ذلك هو الصحيح في واقع الأمر. لقد افترضنا أن الابتعاد عن عوالم التعليم ما قبل الجامعي والجامعي المنعزل ودخول العالم التجاري سيمكننا من توجيه المزيد من التركيز على النتائج، وجمع البيانات التي يمكننا الاستفادة منها في استقراء المعنى والأسلوب، وتوقعنا وجود تأكيد .جوهري أكبر في مقابل الاتجاهات المنهجية للعالم الأكاديمي الذي ترعرعنا فيه جميعا، ولكننا فوجئنا بأن الأمر ليس كذلك على الإطلاق.

يريد العالم التجاري بالطبع تولي قيادة العاملين به وعملائه والتأثير فيهم وإقناعهم، ويريد بوضوح تحقيق نتائج مهمة، ولكنه مهووس على نحو غريب بالحاجة إلى السيطرة وإملاء سبل تحقيق تلك النتائج. بمعنى آخر يريد تحقيق الثراء، وأن يكون على صواب في آن واحد، وهو صراع لا يحد من قدرتنا على تحقيق النجاح فحسب، بل ويضر بقدرة الأفراد واستعدادهم للمساهمة في المجتمع ككل.

إننا لا نريد أن نبدو ميكافيليين أكثر مما ينبغي في وصفنا لأنفسنا، ولا نريد الإشارة إلى أن النظام القائم على نفس القدر من النبل كما يريد ربما أن يصور نفسه، فما توصلنا إليه هو أن نظم القيادة الحالية وأسلوب بناء الثقافات والأداء  تغرق في الانتقاد وفوض القيود، بل وأكثر تحيزا في واقع الأمر للقيم عما قد تبدو عليه للوهلة الأولى.

كما اتضح أن الميل للرغبة في السيطرة على كيفية تحقق النتائج، ومن ثم السيطرة على سلوك الأفراد وعلى العملية، كنقيض لتعديل النتيجة بما يتلاءم
مع التحفيز والقيم الموجودة مسبقا للأشخاص المعنيين بالأمر، هو أمر محبط للغاية، ليس للأفراد المشاركين في العملية فحسب، بل للأشخاص الذين
يقودونهم وزملائهم والعملاء والطلاب والأشخاص الآخرين الذين يعملون حولهم.

ربما يكون أشد الأمور إثارة للإزعاج هو أن ممارسة إجبار الأفراد على التأقلم مع عمليات غير طبيعية تخالف الطبيعة البشرية هو أمر عالمي تقريبا. لقد شاهدنا ذلك مع العملاء في كل قارة تقريبا، وفي كل نشاط تجاري، وفي القطاعين التعليمي والحكومي، وفي مشروعات التجديد وعمليات مراجعة ثقافة المنظمة وفحصها، والتنمية الشخصية والتدريب والتوجيه الذي نقوم به مع القادة من مختلف الأجناس والثقافات والأعمار والمشارب.

وفي حقيقة الأمر أدى هذا النموذج القائم على محاولة إحداث تغيير يتوائم مع غاية نبيلة إلى نتائج غير نبيلة واسعة النطاق وفظيعة للغاية، وهو ما
يقودنا إلى محور هذا الكتاب.