أرجو ألا تشعر بالاستياء من هذا العنوان:

وكما ستتعلم، نحن ندين بالكثير لكوننا أنانيين وخائفين وأغبياء. وفي واقع الأمر، هذه خصال لا يجب أن نخجل منها، وإنما ينبغي فهمها بل وامتداحها. مسألة بقاء شكلت أنانيتنا وخوفنا وغباؤنا عوامل تطورنا، وساعدتنا على اعتلاء قمة السلسلة الغذائية، مع أن الأنواع الأخرى أفضل من حيث القوة والسرعة وحواسها أكثر حدة، بل وفي بعض الأحيان تكون أشد منا مكرا.

الوهم السعيد:

لقد خدعنا أنفسنا فيما يتصل بالبواعث المحركة لسلوكنا، وكيف يمكن أن يكلفنا ذلك النجاح والفاعلية والاتصال بالواقع - ولكن لماذا؟ لماذا يحدث الفشل؟ أقمنا النظم والعمليات والمنظمات والمجتمعات بالكامل على نحو مخالف للطبيعة البشرية، وبدلاً من ذلك نتوقع تحقيق توافق أشبه بالنتائج التي نتوصل إليها في المعمل على أرض الواقع. مسالة بقاء الفناء هو القاعدة، والبقاء هو الاستثناء. كارل ساجان تهانينا. إذا كنت تقرأ هذا الكتاب، فأنت تنحدر من سلالة فخورة من أشخاص أنانيين وخائفين وأغبياء. إن الذين سبقوك نجحوا في الاهتمام بأنفسهم لفترة طويلة من الزمن حتى تمكنوا من التكاثر، رغم أن هذا التكاثر تم -حين كان أسلافك يسيحون في الأرض- في سن مختلفة عما يعد الآن السن المناسبة. ففي حقيقة الأمر، كان عمر التكاثر وقتذاك أصغر بكثير عما هو حادث الآن، فالتكاثر كان يتم في عمر ربما يتسبب في دخولك السجن بقدميك لو فعلته الآن. ولكنه فضل ينبغي الاعتراف به لأن العديد من الأجيال التي سبقتنا أخفقت في توريث صفاتها الجينية لجيلنا.

وفي واقع الأمر كان من الممكن أن تمحى سلالتك من التاريخ بسبب شجاعة مفرطة شديدة التعقيد، أو فعل أناني مبالغ فيه ربما يكون قد حدث في كهف ومع حيوان متوحش وضخم، أو نبات غريب الشكل شديد القوة بفكين مثيرين للفضول. ومن ثم يكون هذا الكتاب غريبا في أنه يبدأ بنهاية سعيدة، وهي وصولك إلى هذه المرحلة من التاريخ؛ أحسنت! يوصف شارلز داروين عادة بأنه كان أول من أيد فكرة البقاء للأصلح.

ويفترض العديد منا أن داروين هو الذي صاغ تلك العبارة، ولكن ينسب شرف صك تلك العبارة، كجزء من سيرة ذاتية تبعث على الإعجاب، للفيلسوف البريطاني الموسوعي هيربرت سبنسر (ولكن يجب توضيح حقيقة أنه لم يتوصل إليها إلا بعد قراءة كتاب داروين "أصل الأنواع" On the Origin of Species). ولكن أصبحت العبارة في الاستخدام الحديث توضع في سياق ربما يتعارض مع المعنى الأصلي، ولكن فلنفرض أن السياق الذي أسيء فهمه إلى حد كبير صحيح ويدل ببساطة على أن البقاء للأقوى والأكثر سيطرة . ولكن حري بنا تذكير قرائنا عند هذه النقطة بأن الجنس البشري ليس أقوى الأنواع على وجه البسيطة، وليس الأصلح. في الواقع، تمكنت البشرية من البقاء وازدهرت على نحو أساسي بسبب إدراكنا لجوانب ضعفنا. لقد عشنا في عالم نتعرض فيه لخطر دائم، ومن ثم دفعنا ذلك إلى بذل جهد شاق لتعويض ضعفنا، وفعل كل ما هو ضروري للحفاظ على حياتنا ونسلنا.

ومن ثم ارتجلنا واخترعنا وتكيفنا وبحثنا عن سبل لحماية أنفسنا، ولجأنا إلى الاستكانة أحيانا عندما دعت الحاجة لذلك. ربما تعكس عبارة البقاء للأصلح" تطورنا إذا صيغت على النحو التالي: "البقاء للأبسط والأكثر ذعرا وأنانية". والآن قبل أن تشعر بالإهانة مما قد يعتبره البعض وصفا مهينا لأصولنا المشتركة، انتظر هنيهة لترى مدى نجاح ذلك كاستراتيجية. أي نوع آخر من الكائنات أناني وخائف وغبي بما يكفي ليدخل مخلوقا آخر إلى داخل منجم ليعرف إذا كان الهواء الموجود بالداخل آمنا أم لا؟ أو أي مخلوق آخر حذر بما يكفي لإقناع واحد من بني جلدته بتذوق طعامه لخوفه من أن يكون الطعام مسموما؟ إن مهنة الذواقة، كما أسماها الرومان، اختراع إنساني فريد (وهي ليست خطة محكمة تماما؛ لأنه في روما القديمة فشل ذواق طعام الإمبراطور كلوديوس في اكتشاف عيش الغراب الذي كان يفترض أن يكون مسموما، والذي يعتقد أنه أودى بحياته في النهاية) .

واشتهر أدولف هتلر بأنه كان مصابا بارتياب حاد - خوفا من أن يدس له السم في الطعام- حتى كان يستعين بأكثر من ذواق؛ فقد كان يجبر خمس عشرة امرأة على تذوق طعامه قبل أن يمسه. وحتى في البيت الأبيض يعتقد أن لدى الرئيس الأمريكي حاليا ذواقا للطعام بشكل ما، مع أنه من الطبيعي ألا يؤكد البيت الأبيض تلك الشائعة أوينفيها. وناهيك عن التداعيات الأخلاقية لهذه الممارسة، ما زال يتحتم عليك الإعجاب بما يفرزه الخوف والقليل من الأنانية من عبقرية وإبداع.

كانت استراتيجيات البقاء التي نتحدث عنها مفيدة للغاية. واستطاع الجنس البشري التغلب على الأنواع الآخرى من المخلوقات والمخاطر التي كانت أكبر منا حجما وأشد خطرا. لقد نجونا من مخاطر طبيعية لا حصر لها ولا عد، وتحملنا المجاعات والأمراض والكوارث. وعشنا -بل وازدهرنا- في بيئات عدائية دون فراء أو أنياب أو سم أو مخالب. ربما بالطبع سقط منا ضحايا بالملايين أو نحوها على طول الطريق، ولكن لا يمكنك إعداد طبق أومليت دون كسر بضع بيضات. أليس كذلك؟ كان البقاء عملأ مبهرا أخفقت الأنواع الأخرى في القيام به. وفي حقيقة الأمر يرى العلماء أن نجاح الجنس البشري قد أدى إلى تسارع وتيرة الفناء الطبيعي بما يقدرونه بـ 1000 إلى 10.000 ضعف.

واستنادا إلى تلك الأرقام، فإننا لم نقنع ببساطة بالقدرة على البقاء فحسب، بل غزونا وأصبحنا النوع الغالب على كوكب الأرض. مع أنه، إذا تفكرنا في الأمر بعد حدوثه، فقد تكون تلك الغلبة هي سبب دمارنا في نهاية الأمر لأننا ندفع كوكب الأرض دفعا نحو هاوية فنائنا. إن أفراد القطيع الذين امتلكوا ناصية التخطيط الاستراتيجي -أو بالأحرى الذين كان لديهم ما يكفي من الأنانية والخوف والغباء- حتى استطاعوا البقاء ارتقاء درجات السلسلة الغذائية، لم يكونوا تلك الأرواح الشجاعة التي تؤثر على نفسها، والتي توصلت إلى حلول معقدة ووقفت بلا خوف في مواجهة الرياح الوشيكة أو الجيوش الثائرة، أو شملت برعايتها المحتاجين وقت المجاعات أو الكوارث. بل على النقيض من ذلك، كانوا على الأرجح من اختبئوا وقت العاصفة ووقفوا بعيدا خلف خطوط القتال، واعتزلوا الآخرين عند تفشي الأوبئة الفيروسية. ومن ثم، بالنظر إلى تحيزنا الثقافي للاحتفاء بأصحاب الكرم والشجاعة والذكاء، كيف تأتى الأمر أن كون المرء أنانيا وخائئا وغبيا مسألة ذات قيمة ليس بالنسبة لأسلافنا فحسب، بل ظلت ذات قيمة أيضا بالنسبة لنا نحن الذين نعيش في العالم الحديث؟