من الأحزان والفواجع التي تصادفنا في رحلة الحياة هي قدر علينا ان نواجهة، وكل واحد منا لابد أنه قد مر يوما ما بتجربة فقد شخص عزيز على نفسه و فجعه الموت برحيل أحد المقربين اليه وكما يختلف الناس في شكلهم وطباعهم فإنهم أيضا يختلفون في الأسلوب الذي يعبرون به عن أحزانهم ويتعاملون به مع فاجعة الموت او فقد شخص عزيز عليهم تختلف الخسارة وشعور الأسى والحزن الذي نشعر به عند فقد عزيز علينا بالموت عن الخسائر الأخرى حين تفقد شيئا ثمينا او بعض ممتلكات او الاموال او غير ذلك ومن الاشياء التي يتسبب فقدها في الحزن الممتلكات المادية والثروة او بعض الاشياء المعنوية كالمركز الاجتماعي، والنفوذ، والسمعة، والسلطة، وهذه الخسائر تؤدي إلى تجربة مريرة يعيشها الإنسان ومعاناة قد تطول فترتها قبل أن يستعيد توازنه ويستانف مسيرته في الحياة، ويطلق على هذه الحالة وصف رد الفعل الحزن والأسى Grief Reaction وهنا تقدم وصفا لها.

بين الحزن والاكتئاب :

هناك خلط في الأذهان بین حالة الحزن وهي شعور معتاد يصادف ای واحد منا نتيجة لسبب محدد وبين حالة الاكتئاب التي تعتبر حالة مرضية غير طبيعية قد تحدث دون سبب واضح، والفرق بين الحزن كأحد المشاعر الانسانية المعتادة وبين حالة الاكتئاب النفسي المرضية هو أن الحزن يعتبر من المشاعر والانفعالات النفسية المعتادة عند مواجهة موقف يتطلب ذلك تماما مثل الخوف، والغضب، والضيق، وايضا مثل الفرح والسرور، وكلها تقع ضمن قائمة الانفعالات والمشاعر الانسانية المعتادة التي تحدث في مواقف الحياة المختلفة، والحزن بهذا المفهوم يحدث بصفة مؤقتة كرد فعل للموقف وهنا يكون طبيعيا و غير مصحوب بأية أعراض اكتئابية مثل التي ورد ذكرها في المواضع السابقة .

ورغم ذلك فهناك أوجه كثيرة للشبه بين حالة الحزن الشديدة التي تتملك الانسان عند فقد شخص عزيز لديه وبين حالات الاكتئاب، ويبدا "السيناريو" هنا بوفاة شخص عزيز خصوصا اذا كان ذلك بصورة مفاجئة أو سريعة او غير متوقعة على سبيل المثال : حالة الزوجة التي تصدم بوفاة زوجها دون سابق تمهيد او حالة مرض طويل تجعل موته شينا متوقعا، والزوجة هنا تكون قد ارتبطت بعلاقة انسانية وعاطفية وثيقة مع زوجها على مدى سنوات طويلة ويكون الزوج بالنسبة لها اقرب المقربين وشريك الحياة الذي يمثل السند الاساسي لها بعد هذه الرحلة الطويلة وهنا تبدا رحلة الحزن عقب صدمة الوفاة مباشرة وتمر الحالة بمراحل متعددة سنقوم بوصفها هنا بشئ من التفصيل .

 

الصدمة .. المرحلة الأولى للحزن

توصف المرحلة الأولى للأحزان عقب الوفاة مباشرة في المثال الذي ذكرناه للزوجة التي تفقد زوجها بالوفاة المفاجئة لانها مرحلة الصدمة وتحدث هذه الصدمة بصورة واضحة وشديدة اذا لم تكن الوفاة متوقعة في هذا التوقيت حيث لم يكن الزوج يمر بحالة مرضية أو بلغ مرحلة الشيخوخة حيث يسهم ذلك في التهيئة النفسية لحدوث الوفاة، والوفاة المفاجئة نتيجة لبعض الأمراض مثل السكتة القلبية او نتيجة للحوادث يكون تأثيرها اقوى واشد على المحيطين بالشخص مقارنة بالوفاة التي تحدث عقب العلاج من مرض طويل ودخول المستشفى عدة مرات او عند التقدم في السن، وفي مرحلة الصدمة يمكن أن تبدو هذه الزوجة بعد ان تسمع الحبر متماسكة لنفسها لا تظهر عليها علامات التأثر بصورة واضحة قد يظن من يراها انها لم تتأثر بالفاجعة او انها في حالة سيطرة كاملة على مشاعرها، وفي هذه الاثناء قد تقوم هي نفسها بتخفيف وقع الصدمة على الاخرين من حولها ويظن البعض انها لم تتأثر نتيجة لهذا الموقف لكن الواقع غير ذلك.

ومن وجهة النظر النفسية فإن الأشخاص الذين لا يعبرون عن أحزانهم بصورة واضحة تتناسب مع الحدث أو الذين لا تظهر عليهم ای علامات التاثر فإنهم معرضون أكثر من غيرهم للمرور بمراحل تالية صعبة قد تؤثر في حالتهم النفسية وتؤدى الى اصابتهم بالاضطراب النفسي، وبالنسبة لهذه الحالات بالذات يجب الاهتمام في فترة الحزن الأولى بالاشخاص الذين تبدو عليهم علامات عدم الاكتراث ولا تظهر عليهم علامات الحزن والتأثر لأن هذه المرحلة لا تدوم طويلا ويتبعها في الغالب مرحلة تظهر فيها علامات الحزن الشديد واعراض أخرى تشبه اعراض الاكتئاب والنصيحة التي يوجهها علماء النفس هي ضرورة تشجيع التعبير عن المشاعر والانفعالات في هذه المرحلة وعدم كيتها لأن ذلك يعتبر ضرورة هامة بالنسبة للصحة النفسية .

نهر الحزن والأسى

لا تدوم طويلا مرحلة الصدمة وبعد فترة تترواح بين ساعات وايام محدودة تبدأ المرحلة الثانية من رد فعل الحزن والأسى وفي هذه المرحلة يشعر الانسان بتيار من الحزن الجارف ورغبة شديدة في البكاء بحرقة واذا اخذنا حالة الزوجة التي فقدت زوجها الذي كانت تشعر نحوه بالكثير من الود وربط بينهما الحب على مدى سنوات طويلة نجد أن في المرحلة التالية من الحزن التي تتبع افاقتها من الصدمة بداية التصادم مع الحقيقة القاسية فهي الآن أصبحت توقن بان زوجها قد فقدته للنهاية وهو ليس بجانبها ولن يعود لكنها ترفض في هذه المرحلة ان تصدق هذه الحقيقة فيراودها ظن بان زوجها موجود ولم يفارق المكان وفد تصور انه أمامها في بعض الأحيان وقد تسمعها يردد نفس الكلمات التي اعانت أن تسمعها منه وتسيطر على تفكيرها مشاعر لا تقاوم بإنه موجود بالفعل ولم يرحل، وقد تحدث نفسها انه قد غاب مؤقتا عنها كما كان يفعل من قبل وانه لابد سيعود وحين يحين موعد عودته في المساء تنتظر أن تسمع طرقات الباب وتؤكد لنفسها انها ستفتح الباب فتجده أمامها وتكون في استقباله كالمعتاد وتظل تعيش فی هذه الحالة المرضية التي يختلط بها في بعض الأحيان شعور جارف بالحزن واليأس والأسى .

وفي هذه المرحلة ايضا تبدأ بعض الأعراض الاكتئابية في الظهور منها الاحساس بالاجهاد، والتعب، والوهن الشديد في كل أعضاء الجسم، فهي لا تقوی على الكلام فتفقد شهيتها للطعام وتفقد الاهتمام بكل شئ من حولها ولا تستطيع النوم الا لدقائق معدودة حيث اها اذا اغمضت جفونها نبدأ في الأحلام التي ت دور كلها حول الفقيد وحياتها السابقة معه فهي تراه في منامها بصورة حية لدرجه انها تتخيل انه موجود امامها ثم تفتح عيلبها لتصدم بالحقيقة المره مما يؤثر سلبيا على حالتها النفسية ويزيد من شعورها بالاكتئاب، وتختلط لديها مشاعر الياس بمشاعر الغضب والقنوط وهي تلوم نفسها على اي شئ تكون قد ارتكبته في حق الفقيد في حياتها معه في الماضي وقد تثور غضبا فتسأل في ياس "لماذا ابتعد على اليس هذا من نوع الظلم ، وقد تتهم نفسها بأنها تسببت فيما حدث له حين قصرت في العناية به أثناء مرضه او تتوجه بتورتها إلى الأطباء الذين لم يقدموا الإسعاف الملائم له وكان ذلك سببا في وفاته .

 

 

 

 

 

المرحلة الأخيرة في رحلة الاحزان :

وتمضي رحلة الأحزان ورد الفعل لوفاة وفقد شخص عزيز إلى مرحلة تالية تفتقد خلالها السيدة التي فجعت بوفاة زوجها الاهتمام بكل متع الحياة ولا تقبل على ارتداء اية ملابس جديدة وتفقد الشهية لكل انواع الطعام وتفضل البقاء في عزلة بعيدا عن الناس وتبدا في العزوف والتوقف عن كل نشاط كانت تقوم به قبل ذلك وقد تطول المدة عدة شهور يتم خلالها التأقلم مع الوضع الجديد ويبدأ بعد ذلك عهد جديد تتاكد فيها أنها يجب أن تواجه الحياة بمفردها وتبدا في ترتيب حياتها في غياب الروج العزيز الذي فقدته وتخف تدريجيا مع الوقت حدة مشاعر الحزن والأسى ويسهم مرور الزمن في ازالة اثار هذه الصدمة وتعويد الحياة تدريجيا الى وضعها السابق ولا يتبقى بعد ذلك من ذكرى الفقيد سوى مجموعة من الذكريات الغالية التي تظل في مكان داخل النفس .

واذا تتبعنا رحلة الحزن والأسى بعد فقد شخص عزيز نجد انها قد مرت بمراحل متعددة استغرقت فترة طويلة قبل أن تعود الأمور الى سابق عهدها ويستطيع الانسان ان يستوعب الخسارة ويتأقلم مع الوضع الجديد ويستانف مسيرته في الحياة، واذا كانت هذه هي القاعدة في معظم الأحوال فإن الفترة الزمنية التي تمر بين حدوث الخسارة وبين التأقلم مع الوضع الجديد والعودة إلى الحياة تختلف من شخص إلى آخر فقد تكون في الحدود المعقولة والطبيعية في بعض الناس ولا تستغرق سوى ايام او اسابيع او شهور معدودة لتنتهي مراحل الحزن بكاملها او قد تطول هذه الفترة الى سنوات وهنا تكون الحالة مرضية ويطلق عليها في الطب النفسي الحزن المضاعف Complicated Grief ويعني أن حالة الحزن لم تصل الى نهايتها في الوقت المعقول وتحولت الى حالة اكتتاب تعوق الشخص عن اداء واجباته في الحياة .

التعبير عن الأحزان ومواجهتها :

هناك فرق بين الناس في طريقتهم للتعبير عن احزانهم ويتراوح هذا الفرق بین المبالغة والتهويل في التعبير عن الحزن وبين القبول واظهار الرضا وتهوين من شان الأحزان والسبب في ذلك التقاليد التي تحكم المجتمع والسلوكيات المتعارف عليها في كل مجموعة من الناس في مثل هذه الأحوال والطقوس التي يقومون بها في مواقف الحزن والوفاة وطريقتهم في العزاء والمواساه ، وقد وجدان زيادة طقوس التعزية والمواساه لها بعض الجوانب السلبية والجوانب الإيجابية فمن جوانبها السلبية انها تستغرق الكثير من الوقت والجهد والطاقة كما يحدث في سرادقات العزاء وفي نشر النعي في صفحات الوفيات بالصحف وبرقيات العزاء وما يحيط بذلك من نفاق اجتماعي، أما الآثار الإيجابية لطقوس المواساة والعزاء فإنها تتمثل في تخفيف مشاعر الحزن وشعور المشاركة مع الاخرين مما يسهم في تهدئة الحالة النفسية للشخص الذي فقد عزيز لديه.

وقد يكون للاحزان تاثير سلبي قاتل على بعض الناس الذين لا يحتملون صدمة الفراق واذكر هنا حالة أم فقدت ابنها الوحيد في حادث سيارة وكان طالبا في مرحلة المراهقة، وكان هذا الابن املها الوحيد في هذا العالم فقد كان يعيشان معا بعد أن توفي والده وتركه يتيما وهو طفل صغير وقضت الأم السنوات تراعاه في طفولته ورفضت الزواج حتى تتفرغ لتربيته وفي اليوم الأسود الذي بلغها فيه نبأ وفاته في حادث سيارة في طريق عودته بدأت لديها مفاجئة الصدمة وعجزت عن التعبير عن مشاعر الحزن لكنها كانت في حالة ذهول استمرت اثناء فترة العزاء ولم تفلح كل الجهود في التخفيف من تأثرها او مساعدتها على قبول الصدمة ولم تستجب للذين حاولوا أن يقدموا لها العزاء ويخففوا من الأمها ويتعاطفوا مع المأساة التي اصابتها وساءت حالتها سريعا وبعد ايام معدودة بدأت معاناة صحية نتيجة لامتناعها عن الطعام والأرق لعدة ايام ثم كانت وفاتها بعد مدة قصيرة من هذا الحادث، وهذا نموذج لاحدى حالات رد فعل الحزن والأسى الشديده التي ادت الى مضاعفات انتهت هذه النهاية المأساوية .

 

نصائح وارشادات في مواجهة الموت والأحزان

في البداية يجب ان اؤكد أن شعور الحزن هو من المشاعر الانسانية المعتادة اذا كان هناك سبب يدعو الى ذلك وتزيد درجته او تخف تبعا لأسبابه بينما حالة الاكتئاب النفسي هي حالة نفسية مرضية مثل الاضطرابات والأمراض النفسية الاخرى ورغم أوجه التشابه في الصورة العامة بين الحالتين فإن من المتوقع أن تعود الحالة النفسية الى وضعها الطبيعي تدريجيا في حالة رد فعل الحزن فذلك بعد مرور فترة زمنية قصيرة، أما حالة الاكتتاب فإنها تتطلب العلاج والمتابعة لكي يتخلص المريض من الأعراض ومن الاشياء الهامة في مواجهة حالات الحزن ضرورة التعبير الحر عن الاحزان بكل الوسائل وعدم كبت المشاعر او تاجيل التعبير عنها لأن ذلك يعني أن الانفعالات المكبوتة قد تسبب الانفجار فيما بعد ومن الأخطاء التي يقوم بها الناس التخفيف من حزن الشخص انهم يتجنبون الحديث معه عن مصيبته ومدی خسارته ظنا منهم أن ذلك يعيد نكرى الحزن اليه لكن الواقع أن ذلك ليس من مصلحة الشخص ومن المفيد أن يتحدث الشخص الحزين عما يشعر به ويعبر عن كل ما في نفسه وان يجد من يستمع اليه من المحيطين به لأن ذلك يسهم في تخفيف مشاعر الأسى الداخلية لديهم .

والتعاطف والمساندة من جانب المقربين والمحيطين للشخص الحزين الذي مر بصدمة فقد انسان عزیز لديه لها اثر ايجابي في تخفيف الحزن والمساعدة على المرور بسلام في مراحل الحزن المتتالية التي قدمنا وصفا لها، ويعلم الأطباء النفسيون ان العلاج بالأدوية النفسية للأشخاص الذين يعانون من الحزن لا يفيد نهائيا ولا يجب اللجوء اليه الا في أضيق الحدود .

وهناك كلمة اخيرة هي أن الصبر في هذه المواقف ومحاولة قبولها واظهار الرضا بدلا من الجزع والاهتمام بدور الإيمان بالله من العوامل التي تسهم في تهيئة الانسان القبول ما یاتی به القدر بنفس مطمئنه حين يؤمن أن ذلك هو ابتلاء من الله سبحانه وتعالى وان الأمر كله بيد الله، لذلك يجب أن يتذكر كل م ن يمر بهذه التجربة أن اللجوء الى الله هو السلاح الفعال في مواجهة مثل هذه المواقف .