رابح مشحود : انتابني القلق والصداع في ليلة 19 جوان 1965 إذ كانت الحرارة شديدة للغاية، وكانت الإذاعة والتليفزيون يوجهان من حين لآخر نداءات وتوجيهات للمواطنين من المحافظة على النظافة، وأن يظهروا بالمظهر اللائق سلوكيًا ليثبتوا أنهم ينتمون    إلى شعب متحضر، وكانت الاستعدادات متواصلة للتحضير للمؤتمر الإفريقي الآسيوي – لعدم  الانحياز– وفي نفس الوقت كانت أيضًا التحضيرات جارية لتصوير فيلم "معركة الجزائر" ،الذي استدعى أن يكون في بعض شوارع العاصمة بعض الدبابات ومدافع 105 بالإضافة إلى سيارات عسكرية، وإقامة حواجز في بعض شوارع العاصمة، هذا مما سهل تحرك القوات العسكرية بكل سهولة، وهذه العملية انطلت على جميع الناس وحتى على الرئيس “بن بلة” نفسه الذي وصل مساء يوم 18 جوان إلى وهران، حيث مباراة كرة القدم أجريت بين منتخب الجزائر وفريق البرازيل بقيادة اللاعب الشهير "بيليه" ، وكان في استقباله في المطار بعض المستقبلين من بينهم، “البشير بومعزة” الذي كان آخر من صافحة واستقبله في مطار الجزائر، و الذي كان أول من شتمه يوم 22 جوان 1965 أي بعد يومين من الانقلاب في "قاعة بن خلدون" حيث عقد ندوة صحفية و كان مضطربًا للغاية مما جعله يقول: "من كان يعبد “بن بلة”  فإن “بن بلة”  قد مات  ومن كان يعبد الجزائر فالجزائر باقية"!! ، وهذا الكلام أثار ضجّة عالمية مما جعل الجهات المعنية تصدر بيانًا تنفي فيه موت “بن بلة”.

بعد هذا الاستطراد أعود للحديث عن الرئيس "بن بلة" الذي أتى "لنادي الصنوبر" لمعاينة ما بقي من الأشغال، ولما كان عائدًا إلى منزله ليلاً شاهد في طريقه الدبابات والآليات العسكرية متوجهة نحو العاصمة فعلق قائلاً: "الجماعة يُحضّروا لتصوير الفيلم"، .. ولم ينتبه حتى للدبابات التي وجدها تتحرك لأخذ مواقعها في داخل العاصمة، فدخل مقرّ إقامته بفيلا ”جولي”، التي غُيَّر حُراسها مساءاً والذين كان في إمكانهم إلقاء القبض عليه بمجرّد نزوله من السيارة، ولكنهم فضلوا مُباغتته بعد أن ينزع ثيابه ويأوي إلى فراشه، وهذا أيضًا مما يدلّ على الرهبة من شخصية “بن بلة” القوية ومن شجاعته التي لا ينكرها إلاّ الجبناء الذين لا يقوون على المواجهة الشجاعة، وإنّما يُجيدون الغدر والطعن من الخلف، ولذلك كانت القوات المحيطة بالمنزل الذي يقطن فيه الرئيس “بن بلة” في الطابق الخامس والذي يعرفون عنه أنه لا ينام إلاّ بعد أن يقرأ...  ولمّا شاهدوا أنوار غرفة نومه المتواضعة انطفأت، تحرك الانقلابيون الذين كانوا يدخلون ذلك المكان يوميًا، وكلّ واحد منهم يحاول المبالغة في التملق بأنّه أخلص المخلصين للرئيس “بن بلة” بصفته الزعيم المنقذ للبلاد من التمزق والانهيار.

في صيف 1962 وحسب رواية أحد الحراس الذي كان داخل الشقة التي يقطنها الرئيس فإنّه لم يخطر بدخول المجموعة التي جائت في وسط الليل لإلقاء القبض على الرئيس، ولمّا دقّ جرس باب الشقة نهض من فراشه وكان يعتقد أن أحد زملائه احتاج شيئًا معينًا، ولكنه لما فتح الباب قالوا له:" لا تتحرك، ولا تتكلم" ثمّ قيدوا يديه فقال للعقيد “الطاهر الزبيري” الذي كان يتصدر المجموعة : "ما هذا، ولماذا هذا كله؟ هل أنا من الخونة؟" وهذا الرجل مجاهد عرفه “بن بلة” بطرابلس منذ بداية الثورة ثمّ التحق بالولاية الثانية فأصابته رصاصة في فكّه الأيسر ففتحت فكه إلى أذنه تقريبا ثمّ أُسر بعد جرحه وتعرض لتعذيب الأجهزة الاستعمارية ونجي من الموت بأعجوبة، يصف هذا المجاهد الذي شوهت وجهه رصاصة في معركة شارك فيها بالولاية التاريخية بالتحديد بالقرب من “الميلية” القسوة والهمجية التي عومل بها الرئيس “بن بلة” ومن كان في (فيلا جولي) التي حولت إلى بنك وهي مقابلة لقصر الشعب، وكيف بدأت أعمال البحث والتفتيش بطريقة همجية، حتى خيل لي كما قال ”بوقلمون محمد”: " إن الأشخاص الذين يقومون بتلك الأعمال وكأنني لا أعرفهم".

 لقد انتابني القلق والصداع كما ذكرت في ليلة 19 جوان 1965 ، و في الساعة العاشرة ليلاً اتصل بي هاتفيًا الملحق العسكري العراقي النقيب “زكريا السامرائي” وقال لي :" الثعبان الأقرع -يقصد الملحق العسكري الأمريكي – قد عزمني على تناول الشاي عنده صبيحة الأحد 20 جوان..."، فقلت له :"عسى أن يكون خيراً"، فقاطعني قائلا:" لا... لا... لا ولن يكون الخير من هؤلاء، أنا لا أتوقع منهم وأمثالهم إلاّ شرّا"، فقلت له:" وأنا كذلك"، ولكن في تلك اللحظة بالذات شعرت بصداع شديد حتى أنّ بعض الأصدقاء طلبوا مني الذهاب إلى "مستشفى مصطفى" لإجراء بعض الفحوص وأخذ العلاج، ولكنني رفضت، ولهذا اعتذرت عن ما يمكن أن يؤثر على صوتي لأن الإنسان ضعيف.

بينما أنا أعاني ألم الصداع والقلق وإذا بالأخ “عتبة الأخضر” و هو مجاهد قديم وزميل لي في الدراسة بجامع “الزيتونة” بتونس وجامعة بغداد بالعراق يطرق باب الغرفة ولمّا دخل ورآني على تلك الحالة أخذ يصبّ الماء البارد على رأسي، وقال لي:" استلقي على السرير"، وبعد مُدّة شعرت بنوع من التحسن حينئذ قال ما يلي : " لقد جئت لآخذ رأيك لتساعدني على الخروج من الوضعية التي أنا فيها حيث أنّني هربًا من البطالة التي أرهقتني مًاديا ومعنويًا لأن الجهات الإدارية التي طلبت العمل بها لا تعترف بشهادة الليسانس في العلوم السّياسية، فاضطررت للعمل في المليشيا التي كونت في المدّة الأخيرة بقيادة "محمود قنز" و بنيابة "جمال قنان"، لكن رغم معاناتي الشديدة فكرت الانسحاب لأني شعرت بجوّ غريب لم أجد له التفسير الصحيح، حيث أنّ الأسلحة والذخيرة تكدّس في كل مكان ووجوه غريبة عليها علامات الشر تدخل وتخرج في مقر القيادة، ولهذا سأقدّم استقالتي غدًا وأرجوك إذا وجدت صعوبة في ذلك أن تساعدني"، ثمّ ودعني وذهب إلى غرفته، وقبل خروجه عزمته على تناول الفطور معي... ولم أقل له أني سأرجع صباح ذلك اليوم إلى مكتبي برئاسة الجمهورية في قصر الحكومة لأقابل الرئيس "أحمد بن بلة" كما ذكرت سابقًا .

 بعد صلاة الفجر بقليل جاءني الأخ “عتبة الأخضر ”مضطربًا وهو يحمل جهاز راديو صغير وهو يقول لي : "ماذا وقع ؟"، فقلت له:" ماذا؟ "، فقال: " الإذاعة منذ بداية بثّها وهي تبثّ الموسيقى العسكرية فقط"، حينئذ أخذت الهاتف فوجدته مقطوعًا، فقلت: "يبدو أنّه وقع ما وقع، لا تذهب إلى عملك حتى يتضح الوضع".

في صبيحة يوم الـ 19 من جوان  خرجنا  معاً، وإذا بنا نشاهد دبابة أمام البريد المركزي ثمّ لاحظت طابورًا من الدبابات والآليات العسكرية تحيط بقصر الحكومة، وبالمدخل الأسفل للقصر بالقرب من قاعة "ابن خلدون"، و كان قصر الحكومة مطوقًا بأفراد الجيش، و رأيت الموظفين رجالاً ونساء يدخلون إلى القصر بصفة طبيعية، وكانوا يسمحون للداخل ويمنعون الخارج، وبالقرب منه وجدت ”محروقة” الذي لم أكن أتكلم معه وكان في ذلك الوقت مستشارًا بالرئاسة للشؤون الاقتصادية فصافحني على غير عادته، ولما دخلنا أمسكة الجنود وأخذوه وهو يرتعد ويصرخ بالفرنسية:" ماذا عملت ؟! " .

أمّا أنا فقال لي أحد الضباط:" ماذا جئت تفعل؟ "، فقلت له: "جئت لأخذ شهاداتي العلمية التي توجد في مكتبي الذي لم أتمكن من الدخول إليه منذ مدّة لظروف خاصّة"، فقال لي :" بسرعة اذهب إلى مكتبك ثمّ أخرج فورًا"، صعدت بقصر الحكومة إلى الطابق الذي يوجد به مكتب الرئيس، والذي كان في عهد الاحتلال مكتب الحاكم العام الفرنسي، فتوجهت بهدوء وبخطوات متأنية إلى مكتبي ففتحته وتأكدت من أن الخزانة الحديدية التي بها وثائقي مغلقة، حينئذ ارتأيت أن لا أأخذ أوراقي وشهاداتي، خشية أن يقال فيما بعد أنني قد هرّبت وثائق، فقفلت باب المكتب وأنا أرى زُمرة من الرجال ومعهم امرأة يخرجون من مكتب الرئيس الذي  كُسر بابه، والذى تم تكسيره بشكل كامل!  و كان أولائك الزُمرة يحملون ملفات وأفلام وهم في غاية السرور والابتهاج وكأنهم  احتلوا مكتب “ناجلان”،  أو “لاكوست”،  أو “سو لستال” !!

لقد أثرَّ فيّ ذلك المشهد وخاصة أنني لم أشاهد تلك الوجوه من قبل، التي خُيّل لي في ذلك الوقت أنها ليست وجوه جزائرية، بعد ذلك فضلت الخروج على الباب الرئيسي لقصر الحكومة، فوجدت أمام الباب جمع من الموظفين والموظفات منعوا من الخروج، ولكن تجاهلت ذلك وخرجت بكل هدوء، ولمّا ابتعدت عن الساحة وخرجت من الطوق العسكري بقليل سمعت صوتًا يقول:" ها هو...  ها هو..." ثمّ قال بصوت مرتفع: " قف ارفع يديك"، التفت فرأيت ثلاثة أشخاص مسلحين، أحدهم يرتدي البذلة العسكرية واثنان باللباس المدني، فلما وصلوا إلي نظر العسكري ثمّ التفت إليهما وقال لهما: " هذا هو؟"، فقال له أحدهما: " نعم"، فردّ عليه بقوله:" لماذا تكذب؟" وكررها مرات، والأخر ينظر إليّ باحتشام وخجل، ثمّ مد يده صافحني بحرارة وقال لي: "من الأفضل لك أن لا تظهر هذا اليوم يا سيدي رابح، وحتى الآن من الأحسن أن تتفادى الطُرق الرئيسية".