نظرًا لانشغال الرئيس - بن بله - مع ضيفه، سلمت التقرير إلى السيد “ملياني” بصفته متابعًا للقضية، كما نبهت كل الإخوة المكلفين لأمن الرئاسة أنهم يعتبرون بوضعهم هذا تحت الرقابة اليومية المباشرة من طرف السفارة المغربية، كما تساءلت عن الجهة    التي منحت هذه السفارة تلك البناية وفي مكان مثل هذا.. ! ، ثم قلت لهم : " لقد أقمت عدة أيام في هذه العمارة في  أوت 1962 و في هذا الطابق، و كان “محمد خيضر” الأمين العام للمكتب السياسي في الطابق الخامس و قد عقد اجتماع حضره قادة الولايات، وأعضاء المكتب السياسي وتمت في ذلك الاجتماع المصالحة بين الجميع وبداية مرحلة جديدة مفعمة بالأخوة الثورية والمحبة النضالية العريقة، التي تضع مصلحة الوطن فوق الجميع، و أن الاختلاف في الرأي بين المناضلين والمجاهدين لا يمكن أن يتحول إلى خلاف....

كما أذكر أن نهاية الاجتماع كانت مؤثرة جداً، حيث تعانق إخوة النضال و الجهاد، وأعتقد البعض أن ما حدث في مؤتمر طرابلس قد محته تلك اللحظة الحميمة إلى الأبد، و توجه في  تلك الفرصة السيد “أحمد بن بلّة” عضو المكتب السياسي المكلف بالشؤون الداخلية، الذي وقف و الدموع تسيل من عينيه، و بعد أن حيّا الجميع طلب من جميع الإخوة تناول طعام العشاء تلك الليلة هناك، و خرجنا بعد ذلك مبتهجين فرحين أنا و الرائدين “رابح بالوصيف” و “العربي بالرجم” (الميلى) إلى شوارع العاصمة التي كانت ما تزال محاطة بالأسلاك الشائكة، ورجعنا لحضور مأدبة العشاء، و قبل الانتهاء بقليل قلت للرائدين العزيزين أن الوضع في نظري مازال يشوبه بعض الازورار والغموض، ولهذا قلت لهما أننا في هذا المكان – أي بفيلا جولى –  نعتبر محاصرين من جميع الجهات ما عدا من منفذ واحد يمكن غلقه بسهولة، و لهذا أقترح عليكما أن لا ننام هنا، ومن لطف الله لم يقع مكروه تلك الليلة، أما أنا فقد نمت بملابسي العسكرية، وقد وافقني على تخوفاتي العقيد “محمد شعباني” رحمه الله ، الذي اقترح أن نُسافر ليلاً لأن الوضع كان يشوبه الشك من ما ستقدم عليه الولاية الرابعة والولاية الثالثة، و لمّا خرجنا صباحًا لتناول الفطور، سمعنا بلاغ يذاع من إذاعة الجزائر أصدرته الولايتان الرابعة والثالثة مفاده أنهما غير معنيتان بما تم من اتفاق، وبعد ذلك  وقع ما وقع و هي قضية مُؤلمة كنت قد رويتها سابقاً.

  • 36- آخر يوم للرئيس “أحمد بن بلة” رئيسًا للجزائر :

رابح مشحود : رجعت إلى مكتبي و بعد حوالى ساعة قيل لي أن العقيد “هوارى بومدين” – وزير الدفاع – سيسافر إلى القاهرة لحضور اجتماع وزراء الدفاع  العرب، و سيُسافر معه الوزير المنتدب بالرئاسة، وفي القاعة الشرفية كانت تبدوا على وجه العقيد “هوارى بومدين” علامات عدم الارتياح، كما كان يتجاهل الوزير المنتدب، مما جعل هذا الأخير يرتبك، ولما ودعنا “بومدين” و من معه ، اقترب  منى الكاتب الأول بالسفارة المصرية السيد "حسن الجنيدي" وقال لي: " لا تؤاخذني إذا قلت لك أنني أشعر بقلق هذه الأيام، لأن الأخبار التي تصلنا من بغداد لا تُبشر بخير ، والرئيس “عبد السلام عارف ”يتخبط و لم يعثر بعد على معالم الطريق، وكأنه تاه بين القوميين والبعثين الذين يتصارعون على زعامة أو تمثيل القومية العربية، أمّا هُنا في الجزائر فقرأت في وجه السيد وزير الدفاع هموم التحضير للمؤتمر الأفريقي الأسيوي ".

و في اليوم التالي بدأت البرقيات تصل من القاهرة يرسلها الوزير المنتدب والذي كان يجهل أن البرقية التي ترسل من السفارة الجزائرية من القاهرة بواسطة جهاز الإرسال الخاص، تمر بوزارة الخارجية ثم تحول نسخة منها إلى رئاسة الجمهورية.

في الثامن جوان انتهت الأشغال في قاعة المؤتمرات  وجهزت، كما أن الفيلات التي بنيت على عجل هي الأخرى انتهت بها الأشغال وجهزت بأثاث جيد، ونظرًا لانتهاء الأشغال قرر الرئيس “بن بلة”  الإشراف على حفل تدشينها، فذهبنا مساءًا و بدأ الرئيس بمعاينة الفيلات  التي أنجزت والتي ستكون محل إقامة الملوك والرؤساء، وأخيرًا دخل الرئيس “بن بلة” إلى قاعة المؤتمرات وسط هتافات و تصفيق العمال الذين احتشدوا أمام القاعة ليحيوا الرئيس، ولما دخلنا قال الرئيس "بن بلة”: " أين الشاي؟؟" فجلس و أخد كأسًا من الشاي الأخضر و هو يقول للمهندس العبقري المصري السيد "مصطفى موسى" :" بارك الله فيك يا سيد مصطفى" ، فقال له السيد “الشريف بالقاسم” – وزير التربية و أحد المقربين من الرئيس “بن بلة” -: " لقد أصبحت أؤمن بأننا نستطيع أن نحقق المعجزات"، أما أنا فودعت الرئيس "بن بلة” عند باب القاعة، وكان ذلك آخر يوم أراه فيه (رئيساً). حتى رأيته لاحقاً بعد إطلاق سراحه من السجن بعد سنوات.

في صبيحة يوم 18 جوان 1965 ذهبت صباحًا كعادتي إلى مكتبي برئاسة الجمهورية، فوجدت بوابته مختومة بالشمع الأحمر، و لما استفسرت قيل لي أنه جرى تغيير مقر مكتبي إلى عمارة (الجزائرية) بشارع "كريم بلقاسم"، وبأنني كُلفت بمكتب مقاطعة إسرائيل، وبعد حديث مطول مع المسؤولين هناك فهمت ما يجري التحضير له، وقد همس في أذني أحد أصدقائي من رجال الأمن قائلاً لي:" لا تناقش، من الأحسن أن تذهب إلى المكان الذي حولت إليه حتى تمر العاصفة".

و في مساء 18 جوان 1965 اتصل بي فيما بعد مسؤول الحرس الرئاسي الذى قال لي: "إن الرئيس "بن بلة" سمع ما وقع لك، ويقول لك أن تذهب غدًا إلى مكتبك وأن تستأنف عملك بشكل عادي.."، كما أخبرت أن القرار الذي اتُخذ بتحويلي إلى مكان آخر كان خطأ، كما أن الرئيس سيُقابلني الساعة العاشرة يوم 19 جوان 1965.