لقد كانت السنوات الأولى للاستقلال مليئة بالأحداث والتناقضات والاختلافات التي تحولت إلى خلافات، ولكن رغم ذلك فان الأنشطة السياسية والدبلوماسية كانت في أوجها، مما جعل الجزائر لا تنقطع بها المهرجانات بمناسبة زيارات رؤساء الدول الذين كانوا يستقبلون استقبالات شعبية تمتد من المطار إلى غاية قصر الشعب، وعبر الشوارع الرئيسية العامة، هذا بالإضافة إلى المهرجانات الخطابية في ساحة قصر الحكومة التي أصبحت تقليدًا مُتبعًا مع كل رئيس يزور الجزائر، وكان لا بد من تسريح العمال و الموظفين قبل الوقت وتوجيههم نحو المكان المذكور، أمَّا العُمال الموظفين بقصر الحكومة فكانوا يحتجزون هناك للتصفيق إلى أن ينتهي المهرجان الخطابي ، الذي عادة ما كان كالاتي:

1- كلمة ممثل اتحادية الجزائر الكبرى .

2- كلمة رئيس الجمهورية السيد “أحمد بن بلّة”  .

3- كلمة الضيف .

ولقد كانت تقاطع تلك الكلمات من حين لأخر بالهتاف و التصفيق، و كان بعد انتهاء المهرجانات الخطابية بالعاصمة، أن تتحول في اليوم الموالي إلى المدن الكبرى، قسنطينة شرقاً و وهران غرباً و غيرهما ثم كنا ما نكاد نودع رئيسًا إلا و نستقبل أخرًا،،، وكانت القاهرة هي الأخرى عبارة عن مقر للمؤتمرات الإفريقية والأسيوية السياسية والاقتصادية و الأدبية، وكان الفنانون و الفنانات في مصر يتنافسون في إنتاج الأغاني العاطفية و الأناشيد الحماسية، و كانت الصحف و الإذاعة المصرية تروج لما قد يغنى في  كل شهر بطريقة تشويقية، مما جعل أثرياء الخليج يحجزون بالفنادق و بسينما "ريفولي"، و يشدون الرحال إلى القاهرة لحضور سهرات السيدة أم كلثوم.

 كما أن المسارح المصرية كانت تقدم مسرحيات في مجموعها راقصة، و حتى دور السينما فإن الأفلام التي كانت تقدمها كانت تدور حول الجنس، و على سبيل المثال “الوسادة الخالية“ و “في بيتنا رجل“ لإحسان عبد القدوس و غيرها.

كما أذكر  أنني كنت في أحد الليالي الصيفية  أمشى في حي “الدُقي” منتجها نحو جامعة القاهرة وأثناء الطريق كنت أسمع أصوات المغنين التي كانت تنطلق من البيوت السكنية ومن المقاهي و المطاعم ،و كأن الغناء أصبح كل شيء في حياة الإنسان، ففي تلك الأجواء المليئة بالصخب والخُطب، كانت الحقائب الدبلوماسية بين الجزائر و مصر لا تخلوا من الرسائل وبالضبط بين الرئيسين “أحمد بن بلّة”  و“جمال عبد الناصر” اللذان كانا يتبادلان فيها الرؤى حول القضايا العربية، الأفريقية ، و الدولية، حيث كنت أعتكف بمكتبي بالرئاسة لتحرير الردود على الرسائل الواردة، و لقد كلفني ذلك العمل ثمنًا باهظًا -والذي سأتناوله فيما بعد– لأن وزارة الشئون الخارجية كانت تعتبر ذلك من صميم عملها و كانت وزارة الدفاع هي الأخرى قلقة أشد القلق خاصة من الرسائل التي تصل بواسطة الحقائب الدبلوماسية من مصر وتسلم مباشرة لي، بحيث كنت أستلم الردود مباشرة  بدوري من السفارة المصرية بالجزائر، إضافة إلى هذا كنت أحاول عدم ترك أي أثر لما كتبت، مما جعل عناصر الأمن العسكري يترددون على مكتبي بحجة الزيارة  والمحافظة على الصداقة القديمة إلى غير ذلك من التبريرات، و أنا بدوري  كنت أستقبلهم  بكل حفاوة و تقدير متظاهرًا بعدم فهم غرضهم، و كنت في بعض الأحيان أجلب انتباههم إلى قضايا من المفروض أنها  كانت من صميم عملهم، لكنهم مع الأسف كانوا يضيعون وقتهم في الجري وراء أوهام لا تتعدى الوشايات الكاذبة الناتجة عن تصفية حسابات، و تحرير ملفات ورفع شعار التطهير –  أي التطهير من الخونة –  والذي في الحقيقة لم يكن الغرض هو التطهير و إنما التزوير و استئساد الشرير، و رفع الوضيع و حط الرفيع وتحويل الأسد إلى قط و القط إلى أسد، وأصبحت الوظيفة تعنى الماضي الوطني الثوري، وتعنى اللا علم و الجهوية التي باضت و فرخت في الحزب – حزب جبهة التحرير –  وفي الإدارة، إلى درجة أن المسئولين في الحزب خاصة كانوا يتوقعون إعفائهم أو نقلهم في أي وقت، ومصادرة أو وضع أملاك بعض الأشخاص تحت الحجز بدون سبب حقيقي يبين  بوضوح أن له ما يبرره، كما أن الطريقة التي كان يتم بها الحجز أو المصادرة كانت أقل ما توصف به أنها تتنافى مع أبسط طرق معاملة الإنسان، ففي لحظة و بدون سابق إنذار كانت تنقض مجموعة من أجلاف المتوحشين على منزل ما، مثلهم كمثل الذئاب الجائعة المسعورة، يرمون بصاحب ذلك المنزل وبأهله خارج البيت، لا يوقرون كبيرًا ولا يرحمون صغيرًا ، وكانوا لا يسمحون لأصحاب البيت بحمل أي شيء من أمتعتهم، بل وحتى الضروري منه مثل حليب الأطفال الرضع، حيث كانوا ينزعون الرضاعات من أفواههم و يتركونهم يبكون جوعًا وخوفًا في العراء، تلفحهم حرارة الشمس الحارقة إن كان ذلك صيفاً، أو يرتجفون بردًا إن كان ذلك  في فصل الشتاء. !!