في العيادة النفسية - ذلك العالم الخاص الصغير - فإن ای وجه في الزحام يقع عليه اعيننا بين من يترددون طلبا للعلاج هو في حقيقة الأمر - إذا تاملناه جيدا بشئ من التركيز المتاني - موضوع قصة أو رواية واقعية متكاملة الأحداث قد تفوق تلك التي ينسجها الخيال، وهذه بعض النماذج ارويها كما عايشتها، باختصار شديد وباسلوب محايد لذكر الحقيقة المجردة دون اي خيال او ابهار درامي، وبعيدا عن الحبكة الروائية حيث أن كتابة القصص ليست مهنتي اذن فنحن أمام لقطات واقعية من العيادة النفسية وهي مثل الحياة مليئة بالألم والعبث والمفارقات العجيبة .

 

الاكتئاب .. وصور متناقضة :

دخل السيد " س " العيادة النفسية مستندا على بعض من ذويه وهو في حالة اعياء شديد حتى جلس على مقعد في مواجهة الطبيب النفسي حيث كان واضحا ان افراد اسرته وبعضا من اصدقائه قد أتوا به إلى العيادة النفسية رغما عنه بعد أن ساءت حالته وامتنع عن الطعام والحديث لعدة أيام متواصلة، ولم تكن تلك هي البداية بل كان المشهد الختامي الأخير بلغة المسرحيين، ومنه نعود بطريقة " الفلاش باك " لنتتبع بداية الأحداث وتسلسلها.

كان السيد " س " واحد من شخصيات المجتمع الشهيرة في بلدته بما له من الثراء الواسع والمركز المرموق، وعرف عنه بجانب مكانته الرفيعة تمتعه بشخصية جذابة، وعاش حياة حافلة بالحيوية والنشاط، اما بداية متاعبه منذ سنوات حين بدا يشعر بتراجع رغبته في متابعة أعماله، ويتكاسل في عمله على غير م ا درج عليه من نشاط، وبدا يفضل البقاء بالمنزل ولم تعد لديه رغبة في مقابلة اصدقائه، وحدث في هذه الفترة أن اصيب ولد له في حادث طريق البم اودی بحياته فحزن حزنا شديدا، وفي نفس العام مرضت زوجته بعله مزمله، ويبدو ان المصائب لا تاتي فرادى كما يقولون فقد تدهورت تجارته وتراكمت عليه الديون ومنی بخسارة مالية كبيرة .

ولما كان لكل انسان طاقة احتمال بحدود معينة إذا تعداها لا يكون بوسعه الصمود في مواجهة أمور الحياة، وهذه هي النقطة التي يفقد فيها الانسان توازنه النفسي وتبدا حالة المرض، وهنا تظهر اعراض مختلفة كانت ف ي هذه الحالة مشاعر الحزن والأسى التي تمكنت من نفسه، فبدأ يضجر بكل شئ، واهمل مظهره ونظافته، ثم تطورت الحالة إلى عزوف عن كل مباهج الحياة، وامتناع عن الطعام والشراب وارق يمتنع معه النوم، و الأخطر من ذلك انه حتى في العيادة النفسية كان يعجز عن حتي عن بث شكواه فكنت اطلب منه أن يكتب ما يشعر به وما يريد ان يقوله على الورق ويقدمه في زياراته التي تكررت بعد ذلك للعيادة النفسية .

وكانت الاستجابة للعلاج جيدة حيث اختفت علامات الكآبة في غضون اسابيع، لكن الأيام التالية شهدت تطور الحالة بطريقة غريبة، فقد بدا من جديدفی الاقبال على الحياة بصورة مبالغ فيها حيث تبدلت مشاعر الكآبة لديه بشعور زائف بالعظمة، ومعه حالة نشوة غامرة ونشاط مبالغ فيه، وراح يخطط لمشروعات وهمية هائلة لا تقوى على تنفيذها دولة صغيرة، وزار العيادة النفسية في هذه الحالة مرغمة هذه المرة ايضا حيث لاحظ ابناؤه انه راح يبدد ما بقی تحت يده من الأموال، وبقي الذي يجمع بين الشئ ونقيضه ونطلق عليه الهوس او لوثة المرح والاكتئاب، وفيه تجتمع الحالتان في المريض نفسه في نوبات تعاوده من حين لآخر.

وليس ذلك المرض هو النموذج الوحيد للتناقض في بعض الاضطرابات النفسية، فكما رأينا في مريضنا هذا تارجح الحالة بين طرفي النقيض حيث الكآبة الحادة ثم لوثة الهوس والمرح، ففي حالات اخرى نرى المرضى يعزفون تماما عن تناول الطعام، ويحدث ذلك في الفتيات حيث تمتنع عن الطعام لشهور فيتناقص وزنها وتبدو في حالة هزال شديدة، ثم تحدث نوبة من النهم المرضى النفس المريضة حيث تقبل على تناول كميات هائلة من الطعام بشراهة، وهكذا يجتمع في هذه الحالة التطرف الشديد في الامرين المتناقضين !

ومن أمثلة التناقض في مرضى النفس أيضا ما يحدث في حالات السرقة المرضية حيث يقدم شخص من الأثرياء على سرقة بعض الاشياء التافهة أثناء تجوله في أحد المحلات للتسوق، وهو يفعل ذلك بتأثير رغبة داخله لا يستطيع مقاومتها، ومن أمثلة ذلك المليونيرة التي تلتقط زجاجة عطر زخيصة وتحول التسلل خارج احد المحلات مع أنها تمتلك ثمن كل هذا المحل وما فيه !

ومن أمثلة التناقض ايضا بعض المرضى الذين يتقمصون شخصيت المشاهير والزعماء فمنهم من يدعي بأنه "الملك" او "الرئيس" أو "النبي المنتظر" ويعيش في هذا الدور وهو في ثياب رئة ومظهر لا يمكن أن ينم عما يقوله، ويفسر هذا المسلك في الطب النفسي بانه انعكاس لشعور داخلی بالضألة لديه !

 

 

 

 

 

 

الانسان في ضعفه وتفوقه :

لم يكن السيد (ح) مبالغا وهو يروي لي حكايته مع المرض ويصف مشاعره حين تكلم لأول مرة بعد اسبوع امضاء داخل جناحه الخاص في احدى المصحف النفسية الخاصة، وكان قد نقل الى المستشفى بمعرفة زوجته ونفر من اهله بعدان ساعت حالته بالمنزل، فقد أمضى قبل ذلك عدة ايام في عزلة داخل غرفته يجلس بلا حراك طول يومه وليلته، يرفض الحديث مع كل من حوله ولا يتناول الطعام ولا يغمض له جفن، بل لا يكترث بای شئ، وتروى زوجته انه حتى اطفاله لم يعد يابه بوجودهم بالقرب منه او يداعبهم كعادته، ولم تجد زوجته بدا ع ن الاستعطفة ببعض اقاربه واستقر رأي الجميع على نقله إلى الصحة النفسية حيث بدأ علاجه حتى تحسنت حالته نسبيا وامكن له أن يتحدث مع طبيبه، قال : "لا أدري لماذا أتوا بي الى هذا المكان، ومن قال انني كنت بحاجة لي ای علاج، ولماذا الدواء وانا لا اشكو من شئ، كل ما هنالك انني في حالة زد في الحياة فلم يعد هناك شيئ اطمح في الحصول عليه، فانت مثلا يا دكتور لماذا نسل الآن ؟ بالتأكيد لتحصل على نقود وتنوي أن تستفيد من عائد عملك في الحصول على مسكن مناسب وسيارة فاخرة، وبالتأكيد فأنت تحلم أيضا بالنجاح والشهرة والممتلكات والنفوذ والمركز المرموق، اليس كذلك هذا هو عادة ما يسعى الناس الى تحقيقه من أهداف".

"أما أنا فإنني اختلف عنك وعن بقية الناس لأنني ليس لدي ما اسعى الى تحقيقه بل ليس هناك - صدقني - ما يستحق ان اعيش من أجله، وكما ترى ف إن عمري لا يتعدى ثمانية وعشرين عاما ورغم ذلك فقد كان لدي منذ بداية حياتي كل ما يحلم به ای انسان، فقد توفرت لى الثروة الطائلة وتملكت كل شئ، ب ل كنت انتقل الى اى مكان اريد وفي اي وقت اشاء، وحصلت على كل ما ابتغيه دون ای عناء، وزاد على ذلك أن حصلت على وظيفة رفيعة المستوى، وتزوجت وانجبت طفلين، وتحقق لي كل ذلك قبل أن أبلغ عامي الرابع والعشرين".

"وقد تسألني : إن ما هي المشكلة ؟ وأصارحك القول انني لا اعرف تحديدا ما هي المشكلة، لكن ما حدث هو شعور لا يقاوم بالسام والملل وجدته يتسلل إلى نفسي، ولم تفلح كل ممتلكاتي في منحى السعادة وراحة البال، وفشلت ف ي أن اجد المتعة في اي شئ مما يعتبره الناس مصدر سعادة، وحاولت ان اجد مخرجة من هذا الملل فاتجهت الى تعاطي الخمور وبعض المخدرات ولكن عبثا، بل لقد كانت النتيجة عكسية حيث تفاقمت حالتی وزاد عليها تانيب الضمير والشعور بالإثم، ولا اخفي عليك أن فكرة الخلاص من الحياة ووضع حد لهذا اليأس القاتل قد تملكتني لبعض الوقت، ولا تزال تراودني من حين لآخر، فالظلام يكتف مستقبلي، ولا امل لي في هذه الحياة".

انتهى كلام السيد (ح) ولكن قصته لم تنته بعد، فقد علمت أنه بعد أن غادر المستشفى قد عاودته الاعراض الحادة وساءت حالته ونقله ذووه للعلاج في الخارج، ثم انقطعت اخباره، ولكني اتذكر هذا الشاب أحيانا في بعض المناسبات فتثير كلماته في نفسي مشاعر متناقضة، وكثيرا ما أتساعل بيني وبين نفسي عن جدوى السعي اللاهث لنا في الحياة وراء الحصول على المال والممتلكات، وتذكرني قصة صاحبنا وكلماته بالقول الشائع "لن يستريح الإنسان إلا في قبره".

فالناس يندمجون تماما في السعي وراء اهداف لا تستحق كل هذا الكفاح والصراع، لكنهم لم يدركوا بعد الحكمة التي توصل اليها صاحبنا ويؤكد انها هي الحقيقة التي عندما نكتشفها سوف نتبين صدق ما توصل اليه ! ولا اعلم اين هو الآن .

 

ضحايا مشكلات الزواج :

كان السبب المباشر وراء زيارة الطفلة " هالة " ذات الأعوام السبعة للعيادة النفسية هو توصية طبية الصحة بالمدرسة بعرضها على الطبيب النفسي بعد ان فشلت جهودها في التعرف على الحالة التي المت بهذه الصغيرة بعد ان كانت تحب دروسها وتقبل على مدرستها ثم اصبحت ترفض بشدة مجرد الذهاب الى المدرسة وإذا أجبرت على ذلك تظهر عليها اعراض حقيقية فتنتابها حالة من الرعب والهلع والشحوب ثم تصرخ من آلام شديدة في معدتها ولما كانت هناك قاعدة ذهبية فعرفها في الحالات النفسية للأطفال مؤداها أن علينا الا نبحث عن الاضطراب في الطفل نفسه لأن كل ما يبديه من اعراض ليست سوى انعكاس لخلل في ابويه او اسرته، لذا علينا أن نقابل الوالدين ونفتش عن الخلل هناك .

وفي حالة " هالة " كانت خلافات الوالدين غير خافية، فمنذ زواجهما قبل تسع سنوات كان التوافق مفقودا تماما بينهما، حيث نادرا ما كان يحدث بينهما اتفاق على اي شئ، وكان على حالة وشقيقها الأصغر أن يتابعا بصورة شبه يومية مشاهد هذه المشاحنات بين الأب الذي يحبونه لكن عمله يمنعه أن يعطيهم من وقته الكثير، واستمعوا اليه وهو يهدد بأنه لن يعود الى المنزل اذا استمرت الأم في عنادها، كما استمعوا اليها ايضا وهي تصرخ وتلعن وتتعي حظها وتتوعد بأنها لن تستمر ف ي هذا البيت، وكان يتجه هذا الوضع المزمن والذي يشبه الحرب الباردة أن الأبناء صاروا يشعرون بعدم الأمن، ويتصورون انهم اذا خرجوا من المنزل قد يعودوا فلا يجدوا الأب أو الأم، وكانت ترجمة هذه المشاعر لدى الأخ الأصغر لهالة هي حالة التبول اللاإرادي بالفراش، ولدى هالة برفض المدرسة والخوف المرضى .

 

وحالة " هالة " ليست سوى أحد جوانب مشكلة الخلافات الزوجية التي تحتل مكانة هامة في الحالات التي نراها في العيادة النفسية وتقف وراء نسبة مئوية كبيرة من حالات القلق والتوتر والاكتئاب النفسي لدى الأزواج والزوجات والأطفال، ويشكو الأزواج عادة من النكد والغيرة والعصبية والعتاد الذي تبديه الزوجات اللاتي يحملن الحياة الأسرية الى جحيم لا يطاق، بينما تشكو الزوجات من عدم اهتمام الأزواج بهن بالقدر الكافي، وفي كل الأحيان تكون الاسباب هامشية وتافهة لكنها تتفاقم مع سوء الفهم وسوء النوايا ايضا، فكل ط رف يعتبر نفسه المظلوم وصاحب الحق!

ومن كثرة ما نرى من الخلافات الزوجية وآثارها النفسية المتنوعة يخيل الى المرء في بعض الأحيان أن الزواج شر كله لما له من اثار جانبية"، وفی الحقيقة فإن اي مشكلة في العمل أو مع الاصدقاء مهما كانت حدتها تتضاءل بجانب الهموم والنكد داخل البيت، وهناك من يقول بأن الزواج يكون في النهاية لأي قصة حب ونهاية الحب نفسها ولكن هذا لا يجب أن يدفعنا إلى اتخاذ موقف من الزواج فالانسان لا يستطيع أن يحيا بمفرده، وهو بحاجة الى الحب حتى يشعر انه ليس زائدة عن الحاجة، ولكن الحب يعني النقاء دون سيطرة وشعور متبادل يحقق الاشباع المطلوب، ولقد ثبت أن الفشل في الحب أو العجز عنه يتسبب في كثير من الاضطرابات النفسية من قلق وتوتر واكتئاب، كما أن الكراهية تقف وراء الانحراف والإدمان والجريمة وهي دعوة للهدم والفناء إذا استبدت بعقول البشر .

أن يوجهوا اليه سهامهم فيصيبوه دون أن يملك دفاعا، مجرد الاعتقاد يمهد الطريق لهزيمة المرء نفسيا وينال من قدرته على المقاومة، وليس المرض النفسي في مثل هذه الأحوال سوى الاستسلام لأفكار من الممكن أن نتغلب عليها بالإيمان والقوة الروحية، ولقد اجتهدت قدر الطاقة في ابداء اهتمامي بمشكلة الاستاذ ابراهيم لكني امام قناعة بأن عين زميله هي سبب مشكلته لم يكن بوسعي أن أفعل شيئا سوی آن اطلب منه أن يشحذ ارادته ويستنفر الاحتياطي الروحى في داخله ويتجاوز الموقف، هذا ما قلته له ولا ادري ان كان قد اقتنع بما سمع ام لا.