كيف تُرمم لوحة فنية قيمة قديمة؟

يجهل الكثيرون منا أن اللوحات الفنية الحديثة، كالقديمة منها، يجب أن تخضغ للعناية الدورية فلو أن في منزل أحد مثلاً لوحة من هذا النوع، عانت من فعل الدخان والضوء القوي لمدة عشر أو عشرين سنة، لأمكن الملاحظة أن ألوان اللوحة قد أظلمت تدريجياً، وأن بريقها أو (الورنیش) قد أصفر أو تفسد، وأن بطانتها قد أرتخت.

والمعروف بهذا الخصوص أن حرارة الطقس المتقلبة تضر بالرسوم الزيتية، وتؤدي إلى توسع وتقلص قماشة اللوحة، مما يمنع بعض التشققات في بريقها، كما أنه على مدى السنوات تتأكسد الألوان الزيتية في اللوحة وتتصلب تدريجياً حتى تصبح قاسية كالحجر. مما يؤدي بدوره إلى انفصال بعض البقع الملونة في الصورة عن غيرها والتساقط عن قماشة اللوحة.

ولذلك فأنه في خلال القرن والنصف قرن الذي مضي، تركز اهتمام بعض الأختصاصيين المدربين بامتياز على عملية حفظ اللوحات الفنية الثمينة وترميمها. ولم تعد هذه العملية بالتالي رهن بإرادة الفنان صاحبة اللوحة، أو بإرادة فنان آخر معاصر يرى أن بإمكانه أن يحسن في اللوحة الأصلية.

ويعتبر فرانز هالز وجين غوسرت فنانين ينتميان إلى سلسلة أوائل الرسامين الذين أعطوا لأنفسهم الحرية بترميم أعمال الأخرين، وفي بعض الأحيان تغيير بعض التفاصيل فيها. وفي الواقع فإن هذا السلوك لم يكن يعتبر تدخل في القرنين السابع عشر والثامن عشر، وبالتالي فإنه لم يكن محظوراً.

أما اليوم، فإننا جميعاً نصاب بالهلع في طبيعة الحالي لو أن لوحة فنية نادرة تعرضت اثناء الترميم أو الحفظ إلى أي تغيير ولو طفيف. ولهذا فإن الفنانين العاملين في هذا المجال يضطرون إلى أخذ عدد كبير من الصور للعمل الفني المراد ترميمه قبل انطلاقهم في هذه المهمة، وذلك لتبرئة أنفسهم من أية اتهامات من هذا النوع.

وفي أيامنا هذه، تعد عملية ترميم اللوحات الفنية القيمة علماً أكثر منها فناً؛ ولذلك فإن العاملين في هذا المجال يتزودون بمعدات تقنية حديثة، مثل جهاز التصوير الصغير، والأشعة دون الحمراء، وإشعة أكس، وأداة قياس الضوء، إضافة إلى أضطلاع الرسم بمعرفة الأصباغ، والبطائن، والبرنيق، (والواقع أن هناك خلاف بين الاختصاصيين حول مدى المنح العلمي التي يمكن للفنان أن يصل إليه: ولهذا فإن الأوروبيين مثلاً يتهمون الأميركيين بكونهم شديدي التعلق بالعلم لدرجة الاتصاف بالبرودة وقلة الإحساس والذوق.

ومعنى أخر فإن طريقة الاختصاصيين الأميركيين التي تتركز على الترميم بواسطة الكيماويات والبضع تنافي تملق الأوروبيين بتقاليدهم حول الفن الموحی).

وتشرح دانا کرمر، وهي إختصاصية بميدان حفظ اللوحات الفنية وتعمل لدى متحف غوكنهايم في مدينة نيويورك، الفرق بين الحفظ والترميم، فتقول: "يركز المرممون اهتمامهم على المظهر وأدوات التجميل، فيما يهتم المحافظون أولاً بصحة اللوحة ودوامها".

ولهذا فإن هذه الاختصاصية تقوم بشكل دوري بـ "غسل"، لوحات المتحف مستخدمة لذلك وسيلة بطيئة ومتعبة، فهي تستخدم كتلاً قطنية صغيرة ملفوفة حول عود خشبي (وتشبه بذلك عود القطن التي تستخدم لغسل الأذنين، مع فارق بسيط وهو أنها تتغير بفترة اقصر) تجرها بطريقة منظمة فوق سطح اللوحة وفق نمط شبكي، مما يؤدي إلى نشط الطبقة القديمة من البرنيق من اللوحة بواسطة مواد كيماوية متعددة، مثل البنزين النفطي والتولوين (وهو سائل عديم اللون يشبه البنزين)، والاسيتون، أما في حال لم تكن اللوحة مدهونة بالطبقة الواقية من البرنيق، فإن الاختصاصية عندئذ تسعى إلى تنظيف الأصباغ نفسها، متوسلة لذلك الأعواد القطنية المغمسة في الماء المقطرة.

وبعد الانتهاء من عملية التنظيف، تنوي الاختصاصية من التوعية بطبقة جديدة من البرنيق وهذا ينطبق فقط للوحات المزودة أصلا بهذه المادة).

ويستعمل المتحف المذكور البرنيق الصناعي، الذي يمكن رشه فوق اللوحة بواسطة مسدس رشاش، وذلك عوضاً عن البرنيق الطبيعي القديم، المصنوع من الدمر (وهي مادة صمغية) أو المصطكاء (وهي مادة تُستخرج من الشجر) والذي يدهن بواسطة الريشة المسطحة.

وفي حقيقة الأمر، فإن الطريقة الثانية تطرح بعض الصعوبة، بخاصة وأن ضربات الفرشاة الغير منتظمة سوف تؤدي إلى تغيير في درجة أنعكاس الضوء على اللوحة، مما يغير بدوره إلى تغيير مظهرها؛ بينما الإكثار من البرنيق سوف يفقد اللوحة تفاصيلها التي تكسبها أياها عمليتا الضوء والظل.

وهناك مهمة أخرى تقع على عاتق المرمم، وهي شد قماشة اللوحة، التي ترتخي ولا بد مع الوقت. وتتم هذه العملية بواسطة مد بطانة جديدة على ظهر القماشة، وتنفع هذه التقنية كذلك الأمر في منع اهتراء اللوحة كلما تعتقت. إلا أن الأخطار الكامنة وراء مثل هذه العملية كثيرة، وهذا ما حصل بالضبط في حالة لوحة الرسام المشهور، أنتوني فاندايك، المسماة "رينالدو وأرميد"، والتي جری ترميمها في أواخر الخمسينات من هذا القرن.

إذ كانت هناك مساحة صغيرة في مقام اللوحة انفصلت فيها طبقة الدهان عن البطانة القديمة. وكان خوف المسؤولين عن حفظ اللوحة كبير أن يتكرر الدهان في هذه المساحة وينفصل عن بقيته إذا ما استعملت المطاوي الصغيرة في قشط طبقة الغراء القديمة من ظهر اللوحة، إلا أنهم بعد جدل طويل قرروا ان يغطوا وجه اللوحة بطبقة رفيعة من ورق التوت المقوى بالقطن الشاشي قبل المضي قدماً في مهمتهم .

هذا ويلجأ بعض المحافظين إلى وسيلة تقليدية تقضي بتثبيت بطانة جديدة بواسطة مكواة كهربائية، إلا أن متحف غوکنهایم ملك لهذا الغرض طاولة حرارية خاصة مغطاة بسطح من الالومينيوم الذي يمكن تسخينه. ويعد تركيز اللوحة فوق هذا السطح بحيث يكون وجهها مدار للأعلى، يتم وضع البطانة الجديدة تحتها بعد طليها بالغراء. أما الخطوة التالية فتكون بتركيز غطاء للحماية فوق وجه اللوحة، ثم غطاء آخر بلاستيكي فوق الجميع، مع الإبقاء على بعض الفراغ بينه وبين اللوحة. وهذا الفراغ بالذات تصنعه آلة فراغية خاصة.

وتظل اللوحة في هذه الوضعية من الضغط المتساوي لمدة تقارب الساعة، تحت درجة حرارة تصل عادة إلى 160 درجة فهرنهایت. وتجري الفحوص على اللوحة قبل ذلك لتحديد درجة إحتمالها للحرارة.

وتُنشط الحرارة عمل الغراء، الذي يلتصق بثبات على قماش اللوحة، حين يترك ليبرد لملمة ثلاث ساعات. أما الخطوة التي تليها تتكون بشد اللوحة فوق إطار برواز خشبي ذي أطراف متحركة. وقد ثبتت فعالية هذه الإطار من اجل تصحیح شد القماشة، إلا أنه لارتفاع ثمنه يلجأ الفنانون عادة إلى الإطار المادي من دون الأطراف المتحركة.

والأن بالنسبة للوحة المتشققة، فإنها تستلزم عناية خاصة. والواقع أن عملية الشفاء اللمسات على اللوحات الفنية هي عملية تحتاج جهد كثيف، إضافة إلى موهبة فذة لدى الفنان.

ولربما يسأل أحداً: كيف يمكن لأي كان الأقتراب بريشته من لوحة لنيرميير مثلاً؟ وربما الجواب الوحيد الشافي هنا هو أن أية عملية ترميم تنال من هذه اللوحات يمكن عکسها أو تداركها.

فلنفترض مثلاً أن جزءاً من الدهان الزيتي قد غاب عن اللوحة. في هذه الحالة يلجأ المرهم إلى وسيلة تقنية تعرف بالرسم من الداخل. وأول خطوة في هذا المجال تکون بدهن المساحة التي فقدت أصباغها بالبرنيقي. ثم تلا هذه المساحة بالجبس أو المعجون، بما يتلاءم مع أرضية اللوحة ولو المادة التي غطت أصلا اللوحة قبل رسمها). ويستخدم المرمم المبضع الرقيق لتوليف الجبس بحيث يلائم محيط المساحة تماماً.

وبعدما تنشف هذه المادة تغطى المساحة مجدداً بالبرنيق قبل دهنها أخيراً بالأصباغ الزيتية. ويستعمل بعض الاختصاصيين، عوضاً عما سبق الألوان الممزوجة بالبيض زائد مسحة من الدهان الزيتي الشفاف. وبالإمكان أن نتصور مدى صعوبة مزج الألوان ببعضها لا لتتناغم من الألوان الأصلية فحسبه وإنما أيضاً لتعطي اللمعية نفسها.

وقد تتطلب هذه العملية من المرمم ساعات أو حتى أسابيع. وطالما إن عملية الرسم من الداخل لم تتم بواسطة مواد مختلف نوعياً وزمنياً عن الرسم الأصلي، فإن الألوان تبهت بسرعة، وعليه يلزم تجديدها بين فترة وأخرى. وتصل هذه الفترة عادة إلى نحو القرن.

والأن نسأل: كيف يعرف المرمم الألوان سوف يستعملها طالما أن الألوان الأصلية تبهت مع الزمن وتظلم؟ والسر هنا يكمن في إزالة طبقة البرنيق بالدرجة الأولى، إذ أن منه الحقيقة هي التي تتغير لا الأصباغ تحتها، والواقع أنه من خلال النظر إلى الألوان الرائعة والبراقة التي تظهر على حقيقتها بعد إزالة طبقة البريق، رسخ الأختصاصيون اعتقادهم بأن الرسامين الأوائل لم يريدوا للوحاتهم أن تظهر بهذا المظهر السبيدجي (أي بلون بني داكن شبيه بلون حبر السبيدج)، الذي قدرته جداً الأجيال اللاحقة).

وفي بعض المرات تعرضت عدة لوحات فنية خالدة للضرر لدرجة انه ساد الشك بإمكان إصلاحها. ففي العام 1914 مثلاً، تعرضت لوحة الرسام فيلا سكيز "حمام فينوس" إلى الشطب من قبل سيدة متعصبة لحقوق المرأة أغضبها المظهر المثير الذي اتخذته فينوس. وكذلك فإن لوحة رمبراندت ودراسة التي تعرضت للاعتداء أول مرة في عام 1917 من قبل مريض نفساني، ثم اعتداء ثاني في العام 1975 من قبل مجنون هرع إلى داخل متحف ريجكز في امستردام وشطب اللوحة بمدينه. وهناك حوادث كثيرة من هذا النوع، حتى أن بعض عمليات التشطيب وصل طولها إلى بارد واحد، فيها تقطعت أقمشة لوحات أخرى تماماً وسقطت على الأرض.

وقد عمل كبير المرممين لدى المتحف، وأسمه لويتسن کبیر، على تنظيم حملة واسعة لاصلاح اللوحة. وقد استغرقت هذه الحملة ستة أشهر، ووصلت تكلفتها إلى 37.300 دولار.

هذا وقد أتخذت إجراءات فورية تمثلت بمنع أطران قماشة اللوحة من التمدد والارتخاء، فيها اعيدت القطعة المنتهية من اللوحة إلى مكانها، وتم تثبيتها بالشريط اللاصق من الخلف، ومن الأمام بورق الرز الياباني والغراء، أما الخطوة الثانية فكانت بنزع البطانة، التي وضعت أصلاً في العام 1947، بواسطة سكاكين صغيرة. وقد أضطر كيبر إلي وصل الأمكنة المقتطعة بواسطة الخيوط الليفية الرفيعة، وهكذا تم لصق خيوط القماشة واحدة تلو الأخر بخيوط الليفة بواسطة الغراء.

ويعلم ذلك قام کییر بدهن خلفية اللوحة بشمع العسل وخليط القنب ثم الصق بطانة جديدة فيها بواسطة المكواة الكهربائية. وأخيراً، تولى إزالة ورق الرز وبقايا الصمغ (المثيرة للاشمئزاز) بواسطة الكحول.

ومن أجل إضافة لمسة فنية على اللوحة، قام کیبر مسح طبقة البرنيق التي وضعت على اللوحة في العام 1947! ولم يتوقف عند ذلك الحد، بل مضي إلى إزالة الطبقة الأولى القديمة حتى، مع أن الكثيرين ممن حوله أبدوا تخوفهم من أن تمحي الأصباغ هي الأخرى. ولكن الذي حصل أن كيبر أكتشف خلال عمله في اللوحة طبقة إضافية من الأصباغ، وضعها على ما يبدو رسام آخر في القرن الثامن عشر (رامبراندت انجز اللوحة في العام 1642).

وقد توصل إلى هذا الأستنتاج عن طريق فحوصات عدة أجراها على هيكلية اللوحة وعلى المناطق التي نالها الأذي بواسطة أشعة أكس، والأشعة التصويرية ما دون الحمراء، والميكروسكوب المزدوج (وهو عبارة عن ميكروسكوب مجهز بمجموعة عدسات خاصة بكل عين، مما يسمح للاشياء تحت المراقبة أن ترى بثلاثة أبعاد).

وإضافة إلى ذلك، فقد عالج كيبر اللوحة بكاملها بزيت التربنتينة (وهو زيت مستخرج من شجر الصنوبر)، من أجل إضفاء اللمعية المتناسقة عليها، قبل أن يشرع بالمهمة الشاقة المتمثلة بإضفاء اللمسات الأخيرة. ولذلك فقد استعمل الطبشور والصمغ لبناء الأرضية حيث تعرضت اللوحة للشق، قبل أن يبدأ بمزج الوانه التي فاقت عدد الألوان التي استعملها رامبراندت، وهي لا تتعدى العشرة، وبعدها دهن کيبر ألوان الزيتية فوق البرنيق المبلول، ثم انتظرها لتجف تماماً قبل مسحها بطبقة أخيرة من البرنيق، ووضعها خلف طبقة زجاجية لمدة ثمانية أشهر، تحميها من تغيرات الطقس. وفي النهاية نجحت العملية تماماً، بدليل أن كل مؤرخي المين، والاختصاصيين وعموم الناس أبدوا إعجابهم بالعمل بعد تفحصه بدقة.

واليوم، عندما تتم عملية ترميم لوحة ما، فهي تكون بنزع بعض الأصباغ لا بإضافتها ۔ فقد قام الرسام اغنولو پروتزینو في منتصف القرن السادس عشر برسم لوحته "رمز": والتي تصور فيها فينوس بكل جمالها الطبيعي وهي مستلقية في الغابة وحولها فتيان عاريون، بحیث تظهر أقفيتهم المدورة للرائي. وبعد مرور ما بين خمسين ومئتي سنة، أني جيل آخر أكثر تواضعاً، وقرر أن يغطي عري هؤلاء الفتيان، ويخفي حلمتي فينوس، ويضع ورقة التوت حيثما يلزم. وبعد مرور زمن طويل على ذلك أكتشف أحد الاختصاصيين تلك الإضمانات، وتولى ازالتها برحابة صدر، بما في ذلك ورقة التوت عن فينوس.