تطور البناء بالأحجار في سلطنة عُمان

صُممت واجهات المباني الخارجية في البلدان الإسلامية عموما وعُمان خصوصا بشكل لا يعبر دائماً عن وظيفتها المحدودة، فجدران البيوت العالية غالبا ما تكون بلا نوافذ ولا يتخللها إلا مدخل واحد فقط، ويرجع ذلك لعدة أسباب منها الدفاع والعزلة التقليدية، وكذلك للوقاية من هبوب الرمال في المناطق الصحراوية، ويمتاز البيت العربي بشكل عام في عُمان بالمظهر الدفاعي حيث يبدو لمن ينظر إليه من الخارج صارم المظهر، في حين أن الأنشطة الاجتماعية والدينية وغيرها تجري داخل المبني ضمن فناء داخلي تحيط به الغرف كليا أو جزئيا، ويكمن هذا المفهوم والوظيفة البنائية للإنشاء السكني في جوهر تصميم المباني المحلية والفن المعماري في الجزيرة العربية عموما وعمان خصوصًا([1]).

ولقد عرف البناء بالحجارة المشذبة الهيئة بشكل متقن في واجهات الأبنية منذ زمن طويل في جنوب غرب الجزيرة العربية، وتبين نماذج الأبنية الحجرية والمهارة الحرفية القديمة الموجودة في إنشاءات فترة ما قبل الإسلام في اليمن، حيث وجد أن الاستخدام المستمر للحجارة كمادة للبناء يرجع إلي وفرة الموارد الطبيعية فيها من قبيل نتوءات الصوان والحجر الكلسي في السلاسل الجبلية، واستمر هذا التقليد عبر العصور الوسطي حتي عصرنا الحاضر، ويمثل الحجر المربع بديع الشكل من معالم البناء في العمارة اليمنية القديمة، ولعل هذا لا ينطبق علي ما وجد في المباني الحجرية بعُمان، إذ لا يوجد فيها أي تقليد متواصل للبناء الحجري بمستويات مماثلة لليمن رغم توفر الحجارة المناسبة لذلك([2]).

كما عرف البناء بواسطة الأحجار منذ بدايات الألفية الخامسة قبل الميلاد وهو ما توكده المكتشفات الآثرية التي عثر عليها قبيل هذه الفترة، وتعد مدينة سمهرم([3]) التاريخية أحد المعالم التراثية القديمة بفنها المعماري المميز بمحافظة ظفار، لكونها تمثل حلقة من حلقات الاتصال التجاري والتاريخي بحضارات العالم القديم، والذي يرجع تاريخها إلي حوالي الألفية الخامسة قبل الميلاد([4])، فيما ترجعها بعض المصادر إلي فترة القرن الأول قبل الميلاد والأول الميلادي([5])، حيث تم بناء المدينة بواسطة الحجر الجيري والذي تم صقله ورصه بطريقة محكمة في جميع أجزاء المدينة وخصوصا في أسوارها المحصنة بعناية شديدة.

كما تم بناء مدينة البليد الأثرية بواسطة كتل حجرية متوسطة الحجم تم قطعها بعناية ورصها بطريقة محكمة وهو ما ظهر واضحًا في حصنها وجامعها وأسوارها وفي باقي أجزاء المدينة، التي تشير الشواهد التي تم الكشف عنها أن الموقع كان مأهولا منذ أواخر الألفية الخامسة قبل الميلاد وأوائل الألفية الرابعة قبل الميلاد، فيما أعيد بناؤها في القرن الرابع الهجري / العاشر الميلادي، حيث اكتسبت المدينة بعد الإسلام رونقا معماريًا ظهر جليا في مسجدها الكبير الذي يعد من أبرز المساجد القديمة في العالم وهو يضم 144 عمودا ويعتقد أنه بني في القرن السابع الهجري ــ الثالث عشر الميلادي([6])، ومن خلال المعثورات الأثرية اتضح أن المدينة نعمت بالاستقرار والرخاء حيث كانت مركزا تجاريا وصناعيا هاما في المنطقة الجنوبية في عُمان([7]).

كما استخدمت الأحجار في موقع شصر الأثري (أوبار) الذي كان يمثل المركز الرئيسي لمنطقة نجد/ ظفار للتجارة البرية المتجهة نحو الشمال، والتي بدأت منذ العصر الحجري الحديث لكونها مرتبطة بعلاقات تجارية وصلات حضارية بينها وبين شمال الجزيرة العربية ([8])، وفي التسعينات من القرن الماضي تم الكشف عن سور المدينة والذي بني بواسطة الحجر الكلسي، تأخذ في تخطيطها الهيئة خماسية الأضلاع، كما أمكن التعرف على ثمانية أبراج ضخمة وبئر للمياه ([9]).

وعلى بعد مائتين وتسعين كيلو متر من محافظة مسقط وبالتحديد شرق ولاية عبري بمنطقة الظاهرة، تقع مدافن بات الأثرية والتي يعود تاريخها إلي الألف الأولي قبل الميلاد([10])، فيما يرجع استيطانها الأول إلي أقدم من ذلك بحلول الألف الثالثة قبل الميلاد، ولقد حوي الموقع علي مجموعة من المقابر الأثرية بنيت بواسطة الحجر الكلسي حيث استخدم الحجر مربع الشكل في جدران وأساسات المقابر فيما استخدمت العوارض الحجرية المسطحة لتسقيف السطح، وللمقبرة مدخل أو ممر صغير، ولقد دل وجود الحجارة السوداء الناعمة التي اشتهرت بها المدافن في منطقة ضنك علي أن تاريخ الموقع يرجع إلي الألف الثالثة قبل الميلاد([11]).

 

(1) مكتب نائب رئيس مجلس الوزراء (1994). القلاع والحصون، ص142.

(2) مكتب نائب رئيس مجلس الوزراء (1994). القلاع والحصون، ص144.

(3) تعتبر منطقة خور روري “سمهرم” بمحافظة ظفار اليوم من بين أهم المناطق الأثرية المكتشفة في السلطنة والتي توليها الحكومة اهتماما كبيرا نظرا للمكانة التاريخية التي تتمتع بها، ونظرا لاهتمام علماء العالم بها .وكانت منطقة خور روري من أبرز مناطق الاستيطان البشري في فترة ما قبل الميلاد.ولعبت تجارة اللبان من موانئ سمهرم والبليد ومرباط وحاسك دورا كبيرا أدى إلى ازدهار الممالك القديمة عبر طريق القوافل من ظفار إلى شبوه ومأرب والبتراء وصولا إلى بلاد الرافدين ومصر وسواحل البحر الأبيض المتوسط الجنوبية وشرقا إلى وادي الأندوس والصين، ولقد كانت سمهرم ميناء تجاريا عالميا، فموقعها الجغرافي إستراتيجي للتجارة بين الحضارتين الهندية والرومانية فهي تقع تقريبا في منتصف المسافة بين الهند وروما بالإضافة إلى أنها قريبة جدًا من مناطق إنتاج اللبان المشهورة .وكانت السلع التجارية التي يتم تصديرها حاضرة في سمهرم منذ مراحلها الأولى وهي سلع ذات مردود اقتصادي كبير حتى أنها أصبحت محل دراسة في حقل العلوم الأثرية والمشاريع المشتركة من قبل الدارسين في هذه التخصصات. للمزيد انظر: جريدة الوطن العمانية، مقال تحت عنوان مدينة سمهرم تم نشره في الجريدة بتاريخ 8 مارس 2015 ميلادي.

(1) مجلة نزوي (2000). ظفار في الكتابات التاريخية، ص2.

(2) وزارة الاعلام (1995). عُمان في التاريخ، ص97.

(3) جريدة الوطن العُمانية، مقال تحت عنوان موقع (البلید الأثري، أحد اهم المزارات التاريخية الثقافة) مقال نشر بالجريدة بتاريخ 11 يونيو 2017 ميلادي.

(4) وزارة الاعلام (1995). عُمان في التاريخ، ص99.

(5) وزارة الاعلام (1995). عُمان في التاريخ، ص101.

(6) تشير بعض الدراسات أن موقع شصر الأثري "أوبار" كانت موطن قوم عاد الذين كإنو يتمتعون بالقوة الجسمية والبدنية المفرطة فكانت لديهم القوة البدنية والعقلية أيضا وقد أهلك الله هؤلاء القوم لتجبرهم وعنادهم. للمزيد: انظر، المسعودي، أبي الحسن علي بن الحسين بن علي ت346هـ. مروج الذهب ومعادن الجوهر، تحقيق محمد محي الدين، ج1، المكتبة الإسلامية، بيروت، ص258. جريدة الوطن العُمانية (2016). المواقع الاثرية تثري السياحة بظفار، مقال نشر بالجريدة بتاريخ 13/أغسطس عام 2016ميلادي.

(1) مكتب نائب رئيس مجلس الوزراء (1994). القلاع والحصون، ص164.

(2) وزارة الاعلام (1995). عُمان في التاريخ، ص94.