إن السعادة كفراشة؛ إن لاحقتها هربت منك، وإن جلست بهدوء ربما جاءت بين يديك . 
الروائي الأمريكي ناثانيل هاوثورن(١٨٠٤-١٨٦٤ )

نريد جميعا أن ننعم بالسعادة، سواء اعترفنا بذلك أولا، لكن كيف يسعنا الجلوس بهدوء والاستمتاع بالسعادة، في حين لدينا هذا الكم من المهمات التي يتعين علينا إنجازها، أو هذا الكم من القلق الذي يتعين علينا تبديده؟
وكيف يمكن للسعادة أن تجدنا بينما من السهل جدا أن تشتتنا فكرة شراء المنتج الأفضل، باعتبار أن ذلك من شأنه أن يجلب لنا السعادة، أو الحصول على أحدث وسائل الرعاية الصحية، أو السير على خط الصيحات الجديدة؟ وتتجلى فكرة ضرورة أن نسعى بقوة إلى طلب الحصول على السعادة في كل ما حولنا؛ من سلاسل كتب المساعدة الذاتية التي لا تنتهي، والدورات التدريبية المتاحة عبر شبكة الإنترنت، والمنتجات التي تكفل لنا تحقيق السعادة، لكننا إذا كنا نفترض دونا أننا سنحصل على السعادة من خلال الحدث البارز التالي ، فكيف يفترض بنا أن نشعر بها الآن ؟
إن الحقيقة من وجهة نظري أننا لسنا سعداء، أو على الأقل لا يفترض بنا أن نحظى بالسعادة في كل لحظة من عمرنا؛ فإذا تخيلت أن تحظى بالسعادة على الدوام ، فإنك تتوقع المستحيل، (كما قد يكون الشعور بالسعادة دونا أمرا مملأ) ؛ لذلك كان هاوثورن محقا؛ فلا ينبغي لنا ملاحقة السعادة، بل علينا الاستمتاع بها عندما تحلق في سماء حياتنا من حين إلى آخر، كالفراشة، وألا نيأس لأن أوقات السعادة قد تكون قصيرة. وهناك ما هو أفضل من السعادة، ويستحق العيش لأجله (نعم، أفضل من السعادة!)؛ وهو ما أطلق عليه "العيش في إيجابيات الحاضر".
 
وقبل أن نبحث في معنى العيش في إيجابيات الحاضر، لنتأمل سبب كون السعادة شعورا مؤقتاً فمثلما نشعر بالغضب أو الإحباط عندما تسوء الأمور، نشعر بالسعادة عندما تتحسن؛ بمعنى آخر، السعادة عاطفة، أو شعور ينتج عن محفز معين ؛ كوجبة لذيذة، أو كلمة لطيفة، أو ترقية مفاجئة؛ أي أن السعادة ليست حالة وجودية أبدية. ومثلما يتبدد الشعور بالتعاسة،
(أو الغضب، أو خيبة الأمل)، يتبدد كذلك الشعور بالسعادة.

لقد تسبب عدم إدراك الطبيعة المؤقتة للسعادة في شعور الكثيرين (وأنا من بينهم) بالتعاسة ؛ فقد ظللت سنوات ألاحق الأشياء التي كنت أظن أنها ستجلب لي السعادة؛ من شراء أحدث الأجهزة، واتباع أحدث الصيحات، والإعجاب بالشاب الأشد وسامة. وكنت أشعر د ذروة السعادة كلما اشتريت شيئا جديدا، أو استمتعت بوجبة لذيذة، أو جذبت انتباه من أحب.
وقد كانت تلك لحظات رائعة، ومفعمة بالبهجة، فها أنا أخيرا سعيدة! لكن السعادة كفراشة هاوثورن تماما، قد تحلق في سماء حياتي، وتغمرني بلحظات من الهناء، ثم تطير لتبتعد مرة أخرى؛ فأبحث مجددا (أو أنتظر بفارغ صبر) فراشة أخرى.

وكثيرا ما درت داخل هذه الحلقة المفرغة سنوات، لكن بينما كانت تهطل الثلوج في أحد أيام فبراير من عام ٢٠٠٩، أدركت أن هناك خطأ ما، وأن هناك ما يلزمني تغييره، وشعرت بأنني لا أرغب في التنزه ليلة أخرى، أو حمل حقيبة تسوق تعج بالمشتريات الجديدة، أو الدخول في ارتباط جديد سرعان ما يرهقني. أحسست كذلك بأنني لا أريد الاعتماد على ذلك الشعور الأكثر إيجابية، والمراوغ في الوقت ذاته، إنه الشعور بالسعادة الناتج عن عناق أمي، أو ضحكة من القلب مع صديقة مقربة، أو قراءة كتاب رائع، أو احتضان كلبي, فقد كنت أريد شيدا يستمر لأكثر من لحظة، لكنني لم يكن لدى صبر
لكي أجلس وأنتظر أن تحل علي النعمة، كما ينصح هاوثورن - وعلى طريقة جيل الألفية، كنت متأكدة من أنني سأجد ما كنت أبحث عنه في عالم الإنترنت المدهش المليء بالحلول؛ لذا جلست متربعة على سريري عند الظهيرة، حيث كان الجو بارداً، وقد وضعت جهاز الكمبيوتر المحمول على ركبتي، ورحت أتفقد المواقع الإلكترونية بحثا عن طريقة لاستدامة السعادة.

وبعد التنقل بين الصفحات التي تتناول نصائح وحيلاً لتعزيز الشعور بالسعادة، صادفت مقالاً عن التخطيط للحياة المثالية . وقد بدت لي فكرة الحياة المثالية عظيمة؛ (فمن منا لا يريد أن يحيا مثل هذه الحياة؟)، وبعد قراءة سريعة للمقال، رأيت أن التدريبات التي يقترحها المقال تبدو سهلة،  وتتضمن تحليلاً للذات، وأنها مثالية لفتاة متعجلة مثلي؛ لذا سحبت مفكرتي
الشخصية، وبدأت العمل على التدريبات المقترحة في المقال. وقد تضمن التدريب الأخير اختيار كلمتين من مقال مطول، طلب مني إعداده، عن كل ما أريد في حياتي، وجاءت قائمة أمنياتي طويلة، إذ اشتملت على كل ما أريده في حياتي؛ من زواج، وصداقة، ونجاح، وإنجاز، وابتكار وإبداع، وهناء وفرحة، وإلهام وتحفيز، ثم بدأت بجدية في تقليص هذه القائمة الممتدة، وظللت أتمعن في قراءتها وقتاً طويلاً، وأخيرا وضعت دائرتين حول كلمتين: إيجابية، والوقت الحاضر.
لقد بدا لي أنني إذا استطعت أن أتعلم كيف أكون إيجابية؛ أي أن أرى الجانب المشرق من كل موقف، وأن أجد طريقة لتحقيق أقصى استفادة من كل ما أتعرض له، فستكون النتيجة الطبيعية هي السعادة، والهناء، والفرحة.
وانجذبت إلى كلمة الحاضر؛ لأنني إذا استطعت أن أبقى حاضرة الذهن - وأصب تركيزي على ما يحدث الآن، لا ما حدث في الماضي، أو ما قد يحدث في المستقبل - فسيقل قلقي بشأن ما حدث بالفعل، ويقل تساؤلي عما قد يحدث، أو ما قد لا يحدث أبدا، وبدلاً من ذلك، أجد طريقة لاستغلال كل لحظة أعيشها في حياتي؛ وهو ما قد يؤدي بي إلى الشعور بأنني أكثر نجاحا، وابتكاراً، وإنجاراً.

وكلما تفكرت، ازدادت العناصر التي أضعها على قائمتي، وأدركت أن بإمكاني، بطريقة ما، أن أحقق كل عنصر أرغب فيه من العناصر الواردة بالقائمة، إذا تعلمت ببساطة أن أكون أكثر إيجابية وتركيزا على اللحظة الراهنة.
وبعد ذلك، طرأ تحول .جذري على الطريقة التي أفكر بها في الحياة؛ فبدلاً من محاولاتي المستمرة لإيجاد السعادة؛ وهو ما لم يكن ينجح معي بشكل واضح، قررت أن أصبح إيجابية، وأن أعيش اللحظة الراهنة بكل جوارحي.

وحين قرأت هاتين الكلمتين المكتوبتين على الصفحة، اللتين وضعت حولهما دائرتين، فكرت في ابتكار عبارة رمزية - لمساعدتي على التذكر في الأوقات التي أجد نفسي فيها أجاهد كي أكون إيجابية وحاضرة بكامل تركيزي - وبعد محاولة تشكيل تلك العبارة، أصبحت: العيش في إيجابيات الحاضر .

وكانت هذه العبارة في رأيي مثالية؛ فقد مثلت ما كنت أتوق إليه في حياتي؛ لا حالة مراوغة من السعادة، أكون مضطرة طوال الوقت إلى انتظارها، بل هي خيار فعال يمكنني اتخاذه كل يوم.

كان هذا إلهاما كبيرا بالنسبة إلي؛ إذ يمكنني على الفور أن أعيش إيجابيات الحاضر؛ وهو مزيج من فعلين يمكنني تأديتهما في أي وقت لتأسيس حياة كاملة (لا مجرد لحظة فقط) تقوم على الرضا والتقبل. ولم أكن أحتاج إلى أشياء، أو أشخاص، أو مواقف معينة كي أعيش تلك الحياة، بل كل ما كنت أحتاج إليه هو اللحظة التي أعيشها، وعقلي.

وكلما فكرت في مفهومي عن عيش إيجابيات الحاضر والتركيز عليها، كنت أشعر بأن الألعاب النارية تنطلق في داخل ذهني، وتضيء مصابيح النيون لتشكل كلمة نعم! ربما تكون قد سمعت بمثل هذه اللحظات من قبل - لحظات التجلي كما تدعوها أوبرا وينفري - عندما تدرك أخيراً ما يجب أن يحدث، وفجأة تتحلى بالقوة والشجاعة التي لم تكن تعرف أن عليك السعي للتحلي بها؛ هذه هي اللحظة التي مررت بها بالضبط. وقد كنت متحمسة جدا لذلك الإدراك الذي قد يغير حياتي، لدرجة أنني لم أرد أن أحتفظ به لنفسي فحسب.

وكنت أقضي الكثير من الوقت في تصفح المدونات والمواقع الإلكترونية التي تعج بالنصائح والإرشادات الملهمة؛ فخطر على بالي أن بإمكاني، أنا أيضا، أن أنشئ موقتا إلكترونيا لأشارك الآخرين ما مررت به وتعلمته. وفي البداية راودتني بعض الشكوك؛ فكنت أقول لنفسي إنني لست خبيرة في هذه المسألة، ولست حاصلة على درجة علمية في مجال علم النفس، كما أنني كثيرا ما صارعت طوال حياتي كي أكون إيجابية، وكي أعيش حاضري؛ فبم سأنصح غيري في هذا الشأن؟ ولكنني .حين تحليت داخليا بالقليل من القوة، نحيت تلك الشكوك المزعجة جانيا،

وأنشأت الموقع الإلكتروني بعنوان PositivelyPresent.com ؛ فقد فكرت في أنني ربما أستطيع، إذا تحليت في النهاية بالقوة الكافية لمشاركة ما أكتبه، مساعدة  شخص آخر كذلك على تعلم كيفية التركيز على إيجابيات الحاضر، وكيف يمكنه أن يعيشها. وكان حلم حياتي أن أكون كاتبة، كما كنت محتفظة بمفكرة دونت بها أفكاري على مدار سنوات عدة؛ لذلك بدت لي فكرة إنشاء موقع إلكتروني لأدون عليه تجاربي اليومية، فكرة ذات معنى- ورغم أنني لم أكن أعرف من سيقرأ ما أدونه، كنت أعرف في قرارة نفسي أنه ليس علي أن أدون تجاربي ومعارفي فحسب، بل أن أشارك القراء كتاباتي أيضا - بدأت أوثق رحلتي في البحث عن الكيفية التي يمكنني بها أن أعيش الحياة بجميع جوارحي، وعلى نحو أكثر إيجابيه على الموقع الإلكتروني، الذي بدأ موقتا صغيرا، كوسيلة بسيطة لتسجيل تجربتي الشخصية خطوة خطوة، وربما إشراك أشخاص أخرين فيها، لكنه مع ذلك غير كل جانب من جوانب حياتي، وتأكدت من خلال مئات الرسائل الإلكترونية، والتعليقات، والخطابات التي تلقيتها أنه أثر بدرجة كبيرة في حياة الآخرين كذلك. واستطعت عن طريق هذا الموقع الإلكتروني التواصل مع الكثيرين ممن كانوا يشعرون بشعوري نفسه - وهو أن ملاحقة السعادة لا تجدي نفعا؛ ومن ثم لا بد من أن يكون هناك منظور آخر لرؤية الأمور - وكلما تلقيت تعليقات إيجابية منالقراء، كنت أزداد تحفرا وحماسة.

وقد أصبح الأمر بالنسبة إلى أكثر من مجرد وسيلة لمواصلة مجال عملي ككاتبة؛ فقد كنت أشعر بأنني وجدت شغفي الحقيقي، ولما تلقيت أول بريد إلكتروني من إحدى قارئات الموقع الإلكتروني؛ تخبرني فيه بمدى تأثيري في حياتها، شعرت للمرة الأولى بشعور عميق ودائم بالرضا. وبدأت الرسائل الإلكترونية من الرجال والنساء حول العالم تنهال على صندوق بريدي الإلكتروني، يخبرونني فيها بالأثر الذي أحدثه أحد الموضوعات التي كتبتها في حياتهم؛ فيقولون مثلأ إن الموضوع الذي كتبته قد لملم جراحهم، أو حسن صداقتهم، أو غير طريقة تفكيرهم، أو حال دون الإقدام على الاكتئاب، كما حدث مع إحدى الحالات. وبينما كنت أحاول أن أحيا في عالمي الخاص بمزيد من التركيز على إيجابيات الحاضر، كنت أؤثر في حياة الآخرين أيضا على نحو إيجابي.

وعندما كان الموقع الإلكتروني يعمل بكامل طاقته، كنت أشعر بدرجة أكبر بأنني ملتزمة بأن أعيش إيجابيات الحاضر، حتى عندما يكون الآمر في منتهى الصعوبة، كنت أعرف أن على أن أحاول، ليس لمصلحتي فحسب، بل لمصلحة قرائي أيضا.

ومنذ أن دشنت الموقع في عام ٢٠٠٩، صرت محاطة بمصادر تبث في الفرحة؛ فقد وجدت طريقة لتأسيس مسار مهني إبداعي واعد في مجال الكتابة، ونقحت علاقاتي، وأبقيت على العلاقات الإيجابية فحسب، وشعرت بالحب الدفين الحقيقي، وتغيرت في كثير من الجوانب؛ سلوكياتي، وعاداتي، ونمط حياتي. ولهذه الأسباب قسمت هذا الكتاب إلى خمسة فصول تتناول البيت، والعمل، والعلاقات، والحب، والتعيير؛ وهي الأقسام التي تغطي جميع جوانب حياتك من النواحي الجسدية والعاطفية والعقلية , ولما اخترت أن أعيش حاضري على نحو إيجابي، تحسن كل جانب من هذه الجوانب بدرجة هائلة، ومثلما ساعدتني تلك المقالات التي كنت أقرؤها على مواقع الإنترنت على إيجاد نمط الحياة الذي يناسبني، أتمنى أن تساعدك أنت أيضا مقالاتي وتدريباتي المقترحة.

ويمكنك تناول هذه الفصول بالترتيب أو انتقاء الفصل الذي ترى أنك تحتاج إليه أكثر من غيره. فعلى سبيل المثال، إذا كنت تريد إزاحة الفوضى عن بيتك كي تزيح الفوضى عن عقلك، فابدأ بالفصل الأول، فإن أردت أن تتخلص من ركام منزلك لتزيح الفوضى عن عقلك, على سبيل المثال, فيمكنك البدء بقراءة الفصل الأول, أما إن كنت تشعر بالارتباك بسبب بعض العلاقات في حياتك, فعليك تصفح الفصل الرابع.

ما الذي يجعلني أؤلف كتاباً ، بينما لدى هذه المدونة؟

حسنا، منذ أن تعلمت الكتابة وأنا على علم برغبتي في أن أقضي حياتي في الكتابة، وقد كنت أجهل دائما الموضوعات التي أريد أن أكتب عنها، لكنني كنت أعرف أنني أريد أن أؤلف كتبا؛ فقد كانت الكتب أعظم أساتذتي؛ حيث عرفت منها الكثير عن
الحياة “ وعن نفسي “ كما أن تأليف الكتب هو أفضل طريقة توصلت إليها، تمكنني من استيعاب الدروس التي تعلمتها من موقعي الإلكتروني، ودراستها على نحو أعمق، ووضع دليل يضم في داخله الرؤى التي اكتسبتها منذ إطلاقي الموقع. كذلك، ألهمتني مدونتي بطريقة مختلفة في تأليفي هذا الكتاب؛ فكل نصائحي الواردة في هذا الكتاب تأتي في شكل قوائم سهلة الاتباع؛ وذلك للتأكد من أن هذا الدليل سهل الاستخدام, وعملي قدر المستطاع. 

وليس الفرض من هذا الكتاب تعريفك بالفوائد النفسية المثبتة علميا للتركيز على إيجابيات الحاضر (التي يضم الكتاب الكثير منها)، ولا إبراز الفوائد الروحانية (التي يضم الكثير منها أيضا)، ولا تعريفك كيفية الشعور بالسعادة طوال الوقت (فلا تنس أن هذا ليس واقعيا)، ولا أن يعرفك على خطوات تتبعها كي تصبح حياتك مثالية (فالمثالية عدو النفع)، بل إن الهدف
من هذا الكتاب - وهو هدف موقعي الإلكتروني نفسه - مشاركتك ما تعلمته في رحلتي؛ للتعرف على الطريقة التي يمكنك أن تعيش إيجابيات الحاضر من خلالها؛ ومن ثم تستطيع تطبيق هذه الدروس على حياتك الشخصية، كما أن هدفي هو أن أعرفك السبب الذي يجعل العيش في إيجابيات الحاضر - بدلاً من ملاحقة السعادة نفسها - قادرا على تغيير الحياة. لذا أريدك أن تلقي نظرة على الرسم التخطيطي؛ لتتعرف على بعض الطرق، كي تكون أكثر تركيزا على إيجابيات الحاضر؛ فقد استفدت إلى حد بعيد باتباع هذه المبادئ، وأتمنى الآن أن تستفيد منها أنت أيضا.