وهكذا، فنحن نرى أن مبدأ العقل المدبر ذو مدى غير محدود من التطبيق العملي، وهو الوسط الذي يمكن المرء من زيادة عقله قوة بمعارف العقول الأخرى، وخبراتها، وتوجهاتها.

وكما عبر أحدهم عن هذه الفكرة بمهارة قائلا: "إذا أعطيتك دولارا مقابل حصولي على دولار منك، فلن يكون لدى أي منا مبلغ يزيد على ما كان معه، ولكن إذا أعطيتك فكرة مقابل حصولي منك على فكرة من أفكارك، فسوف يحصل كل منا على عائد بنسبة مائة بالمائة من استثمارنا للوقت".

إن أكثر صور العلاقات الإنسانية نفعا هي تبادل الأفكار المفيدة، وقد يكون هذا الأمر مثيرا للدهشة، ولكن يمكن للمرء حقا أن يكتسب أفكارا من الطراز الأول من عقل أقل الناس شأنا.

ودعني أوضح لك ما أعنيه، وذلك من خلال قصة واعظ التقط من عقل بستاني أمي فكرة أدت إلى اكتسابه غاية كبرى محددة.

وكان اسم الواعظ هو "راسل كونويل"، وكانت غايته الكبرى المحددة هي تأسيس كلية طالما رغب في تأسيسها منذ زمن طويل، وكل ما كان يحتاج إليه هو المال، ويحتاج منه إلى مبلغ كبير يزيد على المليون دولار، وهو ما كان يعد في تلك الأيام مبلا باهظا.

وذات يوم، توقف الواعظ "راسل كونويل" للتحدث مع البستاني الذي كان منشغلا في تشذيب العشب بحديقة دار العبادة. وبينما هما يتبادلان حديثهما المرح، أبدى الواعظ "كونويل" ملاحظته بأن العشب المحاذي لساحة دار العبادة كثر اخضرارا ودواما من بقية العشب، مبدياً ملاحظته كتاب رقيق للبستاني العجوز.

وأجابه الرجل العجوز، وتكسو وجهه ابتسامة عريضة، قائلا: "نعم يا سيدي، : العشب يبدو أكثر اخضرارا، ولكن ذلك لأننا اعتدنا جميعا العشب الموجود في هذا الجانب من السور".

  وليس هناك أمر ذكي بشأن هذه الملاحظة، لأن البستاني لم يقصد بها شيئاً سوى تقديم عذر لكسله، ولكنها غرست في عقل "راسل كونويل" الخصب بذرة فكرة - مجرد بذرة ضئيلة عارية لفكرة - أدت إلى حل مشكلته الكبرى.

الفصل الثامن

فمن تلك الملاحظة البسيطة تولدت فكرة محاضرة ألفها الواعظ وألقاها أكثر من أربعة آلاف مرة، وقد كان يسميها "أفدنة الألماس". وكانت الفكرة الرئيسية للمحاضرة هي: ليس المرء بحاجة إلى السعي إلى فرصته بعيدا، بل يمكنه العثور عليها حيث يقف، وذلك من خلال إدراك حقيقة أن العشب الموجود في الجانب الآخر من السور ليس أكثر اخضرارا من العشب الذي يقف عليه.

وقد أدرت عليه المحاضرة خلال حياته دخلا يزيد على ستة ملايين دولار. وقد نشرت في شكل كتاب ، وظل هذا الكتاب من أكثر الكتب مبيعا في كل أنحاء البلاد العدة أعوام. وقد استخدم المال في تأسيس جامعة تيمبل في فيلادلفيا بولاية بنسلفانيا، وهي من أعظم المعاهد التعليمية في البلاد.

والفكرة التي كانت تدور حولها تلك المحاضرة نتج عنها ما هو أكثر من تأسيس تلك الجامعة، فقد أثرت في عقول ملايين الناس بحثهم على البحث عن الفرص في مواضعهم الحالية. وفلسفة تلك المحاضرة لا تقل اليوم صحة عما كانت عليه حينما صدرت أول مرة عن عقل البستاني الأمي.

وتذكر هذا: كل عقل نشط يعد مصدرا محتملا للإلهام يمكن للمرء أن يتحصل منه على فكرة، أو مجرد بذرة لفكرة، ذات قيمة لا تقدر بثمن في حل مشکلات شخصية، أو تحقيق غاية كبرى في الحياة.

وتتبع الأفكار العظيمة أحيانا من العقول البسيطة، ولكنها تنتج عادة من عقول أقرب الأشخاص إلى الفرد، حيث تؤسس علاقة العقل المدبر عما ويجري الحفاظ عليها.

تجربة "كارنيجي" مع العقل المدبر

   أتتني أكثر فكرة مفيدة في حياتي المهنية في أحد أوقات الظهيرة، وذلك عندما كنا أنا و"تشارلي شواب" - نسير عبر ساحة الجولف. وعند انتهائنا من رمياتنا  في حضرة الجولة الثالثة عشرة، نظر "تشارلي" إلي بابتسامة خجولة وقال: "إنني متفوقي عليك بثلاث ضربات في هذه الحفرة أيها الرئيس، ولكني لدي فكرة تمنحك الكثير من الوقت للعب الجولف .

   ودفعني الشغف إلى السؤال عن طبيعة الفكرة. وقد قدمها إلي في جملة مختصرة. وكل كلمة منها تقدر بمليون دولار، وقد قال: "قم بدمج كل مصانع

تحليل "أندرو كارنيجي" لمبدأ العقل المدبر

الصلب الخاص بك في مؤسسة واحدة كبري، وقم ببيعها للمصريين في وول ستريت".

ولم يقل أي شيء أكثر من ذلك عن الأمر خلال اللعب، ولكني بدأت في ذلك المساء أقلب هذا الاقتراح في رأسي وأفكر فيه. وقبل أن أنام في تلك الليلة، حولت بذرة فكرته إلى غاية كبرى محددة. وفي الأسبوع التالي، أرسلت "تشارلي شواب" إلى مدينة نيويورك لإلقاء خطبة أمام مجموعة من مصرفي وول ستريت، وكان من بينهم جيه. بيربونت مورجان" ،

وكان ملخص الخطبة عبارة عن خطة لتنظيم مؤسسة يونايتد ستيل كوربوريشن والتي قمت فيها بدمج كل مصانع الصلب الخاصة بي وتقاعدت عن العمل الفعلي. ومعي من المال ما يزيد على احتياجات أي أحد.

والآن، دعني أؤكد نقطة واحدة: ما كانت فكرة "تشارلي شواب" لتولد، وما كنت سأنتفع بها، لولم أجعل شغلي الشاغل هو تشجيع موظفي على ابتكار أفكار جديدة. وكان يدعم هذا التشجيع تحالفات العقل المدبر الودية والمستمرة مع الموظفين في مؤسساتي، والذين كان من بينهم "تشارلي شواب".

ودعني أؤكد لك ثانية على أهمية كلمة معارف

وهي تصبح أكثر أهمية إذا أضفنا لها كلمة "منسجمة". فمن خلال العلاقات المنسجمة مع عقول الآخرين، يمكننا تحقيق الاستفادة القصوى من قدراتها على ابتكار الأفكار. ومن يتجاهلون هذه الحقيقة العظيمة، فهم يحكمون بذلك على أنفسهم بالفقر والعوز الدائمين.

ولا أحد يملك الذكاء الكافي لتسليط تأثيره إلى أبعد حد في هذا العالم دون الحصول على التعاون الودي من الآخرين. ولتدخل هذه الفكرة في حياتك بكل طريقة ممكنة، لأنها كافية في حد ذاتها تفتح باب النجاح أمام أسمى مجالات الإنجازات الفردية.

ويبحث كثير من الناس عن النجاح بعيدا، بعيدا عن مواضعهم الحالية، وكثيرا ما يبحثون عنه جميعا بخطط معقدة مبنية على اعتقاد في الحظ، أو "المعجزات" التي يأملون أن تساعدهم على نيله

وكما قال "راسل كونويل"، فبعض الناس يعتقدون أن العشب أكثر اخضرارا في الجانب الآخر من السور الذي يقفون عنده، ويتناسون "أفدنة الألماس" الموجودة في صورة أفكار وفرص متاحة لهم من خلال عقول رفاقهم الذين يلتقونهم يوميا.

الفصل الثامن

وقد عثرت على "أفدنة الألماس" الخاصة بي على الفور حيث كنت أقف، وفي أثناء تأملي لوهج فرن الحديد الساخن. وأذكر جيدا أول يوم بدأت أقنع نفسي بفكرة أن أصبح قائدا في صناعة الصلب العظيمة بدلا من البقاء كمساعد في "أفدنة الألماس" الخاص برجل آخر.

في البداية، لم تكن الفكرة محددة جيدا، فقد كانت تمثل رغبة أكثر من كونها غاية محددة. ولكني بدأت استرجاعها في عقلي وتشجيعها على السيطرة علي، إلى أن أتى اليوم الذي بدأت فيه الفكرة تقودني بدلا من أن أقودها أنا.

وفي ذلك اليوم، بدأت بجدية في العمل على "أفدنة الألماس" الخاصة بي، وكنت مندهشا لعلمي بمدى سرعة الغاية الكبرى المحددة في العثور على طرق التحويل نفسها إلى واقع.

والأمر الأساسي ذو الأهمية هو معرفة ما يريده المرء.

والأمر الثاني من حيث الأهمية هو بدء التنقيب عن الألماس على الفور في موضع المرء الحالي، وباستخدام أية أدوات متاحة له، حتى إن لم يتح له سوى أدوات التفكير. وعلى قدر الاستخدام المخلص للأدوات المتاحة، سوف تتاح له أدوات أخرى وأفضل عندما يكون مستعدا لاستخدامها.

ومن يتفهمون مبدأ العقل المدبر ويستخدمونه، سوف يعثرون على الأدوات الضرورية على نحو أسرع ممن لا يعلمون شيئا عن هذا المبدأ.

وكل عقل يحتاج إلى اتصال ودي بالعقول الأخرى من أجل نيل غذاء التوسع والنمو. والأشخاص المميزون الذين لديهم غاية كبرى محددة في الحياة يختارون - بعناية شديدة - أنواع العقول التي يتواصلون معها بمزيد من الود، مع إدراك أننا نحصل على قدر محدد من شخصية كل شخص نتصل به.

ولم أكن أقدم الكثير لمن لا يجعلون شغلهم الشاغل السعي إلى صحبة من لديهم معرفة أكبر. ويعلو الناس إلى مستوى الرؤساء أو يهبطون إلى مستوى مرءوسيهم وفقا لاختيارهم من الرفاق.

وأخيرا، توجد فكرة واحدة أخرى ينبغي على كل حرفي يعمل نظير أجر أو راتب أن يدركها ويحترمها. وهي تكمن في حقيقة أن العمل مدرسة - وينبغي عليه أن يكون كذلك - تؤهله إلى نيل منزلة أعلى في الحياة، ومن ثم ينال الحرفي أجره   بطريقتين مهمتين: أما الأولى، فمن خلال الأجر الذي يتلقاه مباشرة، وأما الثانية

تحليل "أندرو كارنيجي" لمبدأ العقل المدبر

فمن خلال الخبرة المكتسبة من العمل. وهي حقيقة أن عظم أجر يناله المرء لا يكمن في المال، بل في الخبرة التي يتحصل عليها من العمل

وتعتمد قيمة هذا الأجر الزائد المكتسب من الخبرة العملية إلى حد كبير على التوجه العقلي الذي يتواصل به العاملون مع زملائهم، سواء من هم أعلى منهم منصبا أم من هم أدنى. فإذا كان توجههم العقلي إيجابيا وتعاونيا، ويتبعون عادة بذل المزيد من الجهد، فسوف يكون تقدمهم مضمونا وسريعا.

وهكذا، نرى أن من ينجحون لا يستخدمون مبدأ العقل المدبر استخداما عمليا وحسب، بل يطبقون مبدأ بذل المزيد من الجهد، ومبدأ الغاية المحددة أيضا، وهذه هي المبادئ الثلاثة التي ترتبط ارتباطا وطيدا بالنجاح في كل دروب الحياة.