بالنسبة للجميع، يشبه العمل والراحة الليل والنهار: لا يمكن أن يحدث أحدهما دون الآخر. ومع ذلك، فإنه بالنسبة للأشخاص شديدي الإبداع، تلعب الراحة دورا مهتا لكنه غير مدرك غالبا في حياتهم الإبداعية. وتحفز بعض أنواع الراحة المتقنة الإبداع؛ فالعديد من المبدعين البارزين يؤدون مهامهم الأكثر صعوبة في الصباح الباكر، حين تكون أذهانهم أكثر انتعاشا على الإطلاق وأقل تعرضا للإلهاء، ثم يتنزهون على الأقدام أو يحصلون على غفوات خلال اليوم لاستعادة طاقتهم والحفاظ عليها بينما يتيحون لعقولهم اللاوعية الوقت للشرود والاكتشاف. وغالبا ما يتركون مهمة صغيرة غير منتهية حين يتوقفون عن العمل، ليجعلوا بداية اليوم التالي أكثر سهولة. إنهم ينظمون أيامهم ليتوافر لديهم الوقت من أجل عمل مكثف ومركز ومن أجل وقت الراحة. وتساعدهم هذه الأنشطة على تطوير حلول أكثر إبداعا للمشكلات ولإيجاد هذه الحلول بطريقة أكثر سرعة وبأقل جهد. وهناك أنواع أخرى من الراحة المتقنة تجعل الإبداع مستدانا. يمارس الكثير من الكتاب والعلماء والفنانين العظماء الرياضة بانتظام، ونجد بعضهم رياضيين متحمسين وبارعين، ويظهرون اتساقا مبهرا في العادات والهوايات، ويوازنون بين الحياة المليئة بالمشاغل وأوقات اللعب العميق، وهي أنواع من الراحة المنعشة نفسيا والمنشطة جسديا والهادفة شخصيا. إنهم يجددون مخزونهم الإبداعي في الإجازات والعطلات التي تتاح لهم خلالها حرية السفر، ويكتشفون أفكارا جديدة ويصقلون اهتمامات جديدة. ورغم أنهم يحبون الانهماك في العمل، فإنهم يضعون حدودا صارمة بين العمل والترفيه. إن المثابرة والثبات اللذين تفرضهما الراحة المتقنة يساعدان على توضيح السبب الذى يحظى من أجله الأشخاص الذين يكتشفون هذه الراحة بحياة إبداعية كما يسعون للعمل في مهن كفنانين أو كتاب في أثناء عملهم في وظائف أخرى وقد يكتشفون حتى اهتمامات جديدة تماما أو ينتجون أعمالاً جديدة في الوقت الذي يستعد فيه بقيتنا للتقاعد. وفي عصرنا هذا، نعظم صغار رواد الأعمال ونحسد الشباب أصحاب المليارات. لكن الحياة الإبداعية الطويلة تتحدى فرضياتنا بأن الشباب عامل أساسي من أجل العمل الجيد وأن السرعة تغلب الإتقان وأن الطاقة الطائشة تنتصر على الخبرة الثابتة وأن العظمة هي سباق مع العمر والتقادم. إن الحياة الثرية بكل من العمل والراحة تظهر أيضا أن الساعات الطويلة لا تضمن الإنتاجية الكبرى في المجالات الإبداعية. وفي المصنع أو الورشة، من السهل أن نرى من الشخص الأكثر إنتاجية؛ فغفي نهاية اليوم، يمكنك أن تحسب مجموع المهام التي أتممها العمال. وبالمثل في بعض المهن الأخرى، توجد معايير واضحة للإنتاجية: عدد العملاء المتلقين للخدمات والمرضى المعالجين والأموال المكتسبة والسيارات التي تعرضت للصيانة. لكن بالنسبة للذين يعملون في فرق في مشروعات معقدة وغير محدودة المدة، فإن الساعات الطويلة تعد تعبيرا عن هويتهم ودليلا على جديتهم- وليس من الضروري أن تجعلنا أكثر إنتاجية؛ بل هي تجعلنا نبدو أكثر إنتاجية. وبالنسبة للمديرين، تعد هذه طريقة سهلة لمعرفة كل من الشخص الملتزم حثا والشخص غير الملتزم - ومع ذلك فهي مؤشر رهيب لمن سيكون جيدا - في منطقة وادي السيليكون، حيث أعيش، يسود افتراض بأن النجاح عبارة عن سباق مع الوقت والتقادم. وإذا لم تكن غنيا في حين تبلغ سن الثلاثين، قبل أن تصبح مهاراتك منعدمة وتصبح عاجزا تماما عن العمل لمئات الساعات في الأسبوع، فلن تكون كذلك أبدا.  هذا نموذج يناسب بطريقة جيدة ومذهلة عددا قليلا من الناس. لكن العديد من الأشخاص الذين يعملون بهذه الطريقة ينهكون أنفسهم، ويحققون نتائج قليلة في النهاية. لكن الأشخاص الذين يتعلمون طريقة الراحة بإتقان يمكن أن ينجزوا الكثير من المهام، لفترات طويلة في حياتهم. وحياتهم المهنية لا تسابق الزمن؛ لأنهم غير مضطرين لهذا ٠لا بد أن أوضح أنني حين أتحدث عن "العمل" ، فإنني لا أعني ما يمكنك القيام به فقط من الساعة التاسعة إلى الخامسة أو ما تأخذ عليه راتبا. البعض منا محظوظ بقدر كافر ليحظوا بوظائف تستحق أن يخرجوا أفضل ما لديهم، ويمكننا أن نطبق دروس الراحة المتقنة والحياة الإبداعية على العمل. لكن ما يهمني حقا هو ما تطلق عليه عمل حياتك، فهذا هو العمل الذي يعطي معنى لحياتك؛ العمل الذي يجعلك تخرج أفضل ما لديك ويساعد على أن تصبح شخصا أفضل؛ العمل الذي يحقق متعة لا نظير لها حين يتم إتمامه بشكل جيد ويستحق الكفاح والتضحية حين يسوء؛ العمل الذي تستعد لتبني حياتك حوله. أعتقد أننا جميعا لدينا هذا العمل، وجودة حياتنا محددة بجودة قدرتنا على القيام به. وبالطبع، ترتكز الراحة حول حياة العمل وأيامه. وهي في البداية تصف المهارات والمهام اليومية “ بداية الصباح الباكر وجولات المشي والغفوات - ثم تتسع لتشمل الأنشطة التي تحدث على مدار أسابيع (التمارين والراحة العميقة) أو شهور أوسنين (الإجازات وعطلات العمل) . لذا أنا لا أريد أن أنكر أهمية العمل في حياتنا؛ فكل شيء بدءا من طريقة حياتنا إلى متى أو إذا ما كنا سنصبح آباء، وإذا ما كنا نمتلك حيوانات أليفة ونباتات، ومدى اتساع أو تفاعل دوائر الأصدقاء - كل هذه الأمور تتشكل خلال العمل الذي نقوم به. لا يكمن التحدي الذي نواجهه حين نتعلم الراحةبشكل جيد في تجنبنا للعمل، ولكن في اكتشافنا لطريقة الموازنة بشكل أفضل بين عملنا وراحتنا. لا يقصد بهذا الكتاب أن يكون دليلاً معززا للحياة فحسب، وأنا لا أؤيد تحويل الراحة إلى أداة لزيادة إنتاجيتنا أو قيمتنا في السوق. إن الراحة لا تقدم نمطاً واحداً يجب أن يتبعه الجميع. أنا لا أقترح نظاما واحدا لأنني لا أعتقد أن هناك طريقة واحدة يجب أن نعمل جميعا من خلالها؛ فبيئات العمل تتنوع جميعا في إيقاعاتها ومتطلباتها، والأدمغة متنوعة للغاية والإبداع متعدد الأوجه بشكل كبير والحياة شديدة التنوع ولن تجدي بعض التوصيات البسيطة. ورغم ذلك، أنا أعتقد بالفعل أن الجميع لديهم عمل يمكنهم القيام به ببراعة؛ وأنه يمكننا جميعا أن نجد العمل الذي يعطي لحياتنا معنى وأن نبذل الجهد والممارسة التضحية المستحقة؛ وأننا يمكننا اكتشاف هذا العمل وطريقة الراحة اللازمة للقيام به. بالإضافة إلى أنني أعتقد أن مبدأ الراحة المتقنة يمكن تكييفه على أية وظيفة وأية بيئة عمل، سواء كنت موظفا أو عامل مصنع أو ضابط شرطة أو والدا. إذا كنت تدرك أن العمل والراحة وجهان لعملة واحدة، وأنه يمكنك أن تستفيد كثيرا من الراحة بإتقانها وأنه بإفساح المجال لها في حياتك ستكون لديك فرصة أفضل لعيش الحياة التي تريدها، فستستطيع القيام بوظيفتك وعمل حياتك بشكل أفضل. مشكلة الراحة فقط في التاريخ المعاصر، يشير "العمل الشاق" إلى الفخر وليس الخزي - نسيم نقولا طالب في كتابه الصادر عام ١٨٩٧ -Advice for a Young In vestiga tor ، حذر عالم الأعصاب الإسباني سانتياجو رامون إي كا خال "العلماء الشباب الصاعدين من عائقين رئيسيين سيقفان في طريقهما حين يحاولون القيام باكتشافات جديدة. أولاً، أصبح العلم مصدرا للقوة الصناعية والسياسية، ونمو المجتمع العلمي، بالإضافة إلى التواصل السريع خلال هذا المجتمع عبر الدوريات والمؤتمرات والجرائد، قد جعلا العلم أسرع وأكثر تنافسية. لم يعد العلماء يستطيعون تحمل التركيز لفترات طوي لة من الزمن على موضوع واحد أو التفكير بعمق وسط سكون حجرة الدراسة، واثقين بأنه لن يزعج أحد من المنافسين تأملات هم الهادئة . وقال سانتياجو محذرا: الأبحاث الآن جنونية، وقصد بهذا أن العلم السريع والسطحي - والكثير منه - يفوز على العمل الأبطأ والأعمق والأكثر تجذزا. ثانيا، افترض الكثير من العلماء أن الساعات الطويلة ضرورية لإنتاج عمل رائع وأن "الكم الهائل للمحاضرات والمقالات والكتب" سيحرر بعض الأفكار العميقة. وهذا كان السبب الذي قبلوا لأجله طواعية عالما قائما على العلم السريع: فقد اعتقدوا أن هذا سيجعل علمهم الشخصي أفضل. لكن، وفقا لما ناقشه "رامون إي كاخال"، كان هذا أسلوبا للعمل أدى إلى طرح الأسئلة السطحية وسهلة الإجابة بدلاً من الأسئلة الصعبة والأساسية. كما خلق هذا الأسلوب مظهرا للعمق وشعورا بالإنتاجية لكنه لم يؤد إلى اكتشافات أساسية. وقد أكد أن اختيار كثرة الإنتاجية قصد به محو احتمالية القيام بعمل عظيم. ورغم أن كتاب Advice for a Young Investigator قد نشر عام ١٨٩٧، فإنه لا يزال جديرا بالقراءة. وقد كان رامون إي كاخال واحدا من مؤسسي علم الأعصاب الحديث، وساعد على إثبات أن الجهاز العصبي مكون من العديد من الخلايا وطور تقنيات صبغية جعلت من الممكن دراسة الخلايا العصبية والمحاور العصبية والزوائد الشجرية التي تمر عبرها الإشارات بين الخلايا العصبية والخلايا الدبقية نجمية الشكل التي تدعم الخلايا العصبية. (تمت صياغة كلمة neuron ( خلية عصبية) و axon ( محور عصبي) و dendrite (زوائد شجرية) في الفترة ما بين ١٨٨٩ و١٨٩٦ ، حين كان "رامون إي كاخال" نفسه المولود عام ١٨٥٢، باحثا في مقتبل الشباب). وقد كان رساما موهوبا جدا، ولا تزال رسوماته للمخ مستخدمة بواسطة المعلمين. وقد نشر حوالي ٣٠٠ مقالة ودراسة خلال حياة مهنية استمرت 50عاما، عن موضوعات تنوعت ما بين علم الأعصاب والصحة العامة والخيال الطمي. وحين يقدم لنا النصائح شخص يحظى بإنجازاته، يجب أن ننصت إليه. ولا يزال تشخيص رامون إي كاخال للتحديات التي تواجه الباحثين باقيا. والشكاوى التي تفيد بأن الحياة العصرية تحرمنا من فرص الراحة هي قديمة بقدر قدم الحياة العصرية ذاتها، لكن حتى بعد أكثر من قرن، يتردد صدى حجته في أية قاعة محاضرات اليوم بأن العلماء مجبورون على أن يستبدلوا الكم بالكيف، وأن العمل المفرط هو القاعدة السائدة وأن الوتيرة السريعة للحياة العلمية تثبط الانخراط والتفكير الجدي. وإدراكه بأن هذا السباق نحو السطحية مدفوع بقوى خارجية وهيكلية بالإضافة إلى قوى داخلية وثقافية أيضا، لا يزال طريقة مفيدة لفهم سبب معاناتنا في فهم قيمة الراحة وإفساح المجال لها في حياتنا. والآن تبدو الفكرة التي تفيد بأن العمل والراحة نقيضان ومتنافسان، منطقية تماما، لكنها إحدى هذه الأفكار المنطقية التي هي في الواقع حقيقة تاريخية اصطناعية. فقبل القرن الثامن عشر، لم تكن الحدود بين العمل والراحة واضحة تماما. وكثيرا ما كانت بيئات العمل والأماكن المنزلية تتداخل: ففيحقبة ما قبل الصناعة، كانت لدى العاملين المهرة متاجر في بيوتهم، وكان صغار الفلاحين يحضرون المواشي إلى منازلهم خلال شهور الشتاء، وكان الباحثون والمعلمون يعطون دروسا خصوصية خارج أعتاب منازلهم‘ وعاش الطلاب مع أساتذتهم. وكان وقت العمل أكثر مرونة و توجيها نحو مهام محددة ، وفقا لتعبير المؤرخ العمالي "إيه. بي. تومبسون" ، "لقد سعى الكثير من العمال للعمل لقترة من الوقت بما يكفي فقط لإشباع حاجاتهم الأساسية”. وقد قلبت الثورة الصناعية هذا النظام في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر. وأصبح ينظر إلى المصنع والمكتب على أنهما مكانان يجري فيهما العمل "الحقيقي" . وعلى النقيض، تحول المنزل إلى مساحة خاصة، مكان يستطيع الرجل فيه الاسترخاء والتعافي من ضغوط العمل. (بالطبع، يمكن للرجال أن يصدقوا أن المنزل كان بمعزل عن العمل ما دام لا يعملون فيه، أما بالنسبة للنساء فالأمر مختلف) . لقد أسهمت أيضا مطالبات الحركة العمالية بساعات عمل أقصر وأيام عطلات مدفوعة الأجر وإجازات أكثر (رغم أن هذا عن غير قصد) في الشعور بأن العمل والراحة كانا نقيضين ويمكن المساومة بينهما وترجيح أحدهما على الآخر. إن نموذج العمل الصناعي، بما فيه فرضياته الأساسية بشأن العمل والراحة، تم نسخه بعد ذلك من قبل الشركات الخدمية والمهن والأجهزة الإدارية في منتصف القرن التاسع عشر. وكان هناك تصور بأن المكاتب الحديثة هي آلة لترشيد العمل الفكري وتنظيمه، وقد حاكت هذه المكاتب ساعات العمل لدى المصانع، لكن النموذج كان غير ملائم للشركات الإبداعية؛ لأنه من الصعب تماما قياس الإنتاجية والجودة في العمل المعرفي والإبداعي. ففي المصانع والحقول، يمكنك تحديد المنتجات الملموسة في نهاية اليوم؛ ولكن في المجالات التي يكون بها المنتج غير ملموس وتتطلب المشروعات أعواما ليتم إنهاؤها، يكون من الصعب التقييم يوما بيوم لطريقة أدائك وأداء رفقائك. لكن من الممكن، خاصة في مكاتب اليوم المفتوحة، أن نرى من يبدو مشغولا ومن يبدو منخرطا ومن يبدو شغوفا بعمله. ونتيجة لهذا، لا تتم مكافأة عمال الخدمات والمهنيين على أداء العمل فقط، ولكن على أداء الانشغال بالعمل أيضا. وكثيرا ما كان هذا صحيحا، لكن مع نمو الشركات العالمية التي تعمل على مدار الوقت وانتشار الأدوات الإلكترونية والمحمولة التي تسمح لك بالعمل في أي مكان وفي أي وقت، وتدع العمل يتبعك في أي مكان، وتدع أصحاب العمل يتبعون أنشطتك في مكان العمل وخارجه، فإن فرص الانشغال بالعمل تزداد. وتمنحنا هذه الادوات القدرة على تقييم كل شيء - إلا حين نتوقف عن العمل ونفلق أجهزتنا وننفصل عن العالم. غالبا ما تفشل ساعات العمل المرنة في العمل الذي يغمر جميع أوقاتنا، حيث يتحول العمل من شيء تقسمه إلى فترات صغيرة تقسمها على مدار اليوم إلى فيضان يفرق حياتك بالكامل. وفي الشركات الحديثة، العالم بأكمله خشبة مسرح؛ فلا يوجد مكان من دون كاميرات، ولا يتوقف الأداء أبدا. إن قصص المستشارين والمساعدين القانونيين الذين يجلسون حتى منتصف الليل لتنظيم رسائلهم الإلكترونية والموظفين الذين يتعاملون مع الإرهاق على أنه وسام شرف، تعيد إلى الأذهان مشكلة قديمة. ففي عام ١٨٩٩، لاحظ ويليام جيمس أن هناك العديد من الأمريكيين وقعوا في فخ "الخدعة البائسة" للعمل المفرط والتحميل فوق طاقاتهم، التي زادت من "وتيرة وحدة أزماتنا" . وهناك كاتب مجهول في صحيفة ستريتس تايمز في سنغافورة قد لاحظ في عام ١٩١٣ أن "نزعة الزمن الحاضر هي الإفراط في العمل وإجهاد قوة الدماغ" . وبعد عامين، لاحظ بيرتي تشارلز فوربس أن رجل الصناعة المعاصر يعمل بجهد أكبر من أي عمال آخرين والمصرفي يذهب مبكرا إلى مكتبه ويؤدي المزيد من العمل - العمل العقلي - أكثر من أية ثلاثة رجال آخرين في مهنته المدمرة للأعصاب . وقال، إن مثل هؤلاء الرجال قد جعلوا أمريكا موضع حسد من العالم، لكنهم كانوا يفقدون حياتهم بسبب العمل المفرط". ومنذ سبعينيات القرن الماضي، كان هناك مزيج من القوى جعل مشكلة العمل المفرط أكثر تغلغلا. وقد زادت القطاعات الخدمية في الاقتصادات الغربية بشكل كبير بينما انخفضت معدلات التوظيف في مجال التصنيع. كما أن اضمحلال اتحادات العمال ومعايير الحماية في أماكن العمل قد دفع الموظفين إلى قضاء ساعات أطول، بينما أدت المنافسة العالمية وتناقص الأمن الوظيفي واستقرار الأجور (المقترن بارتفاع أسعار السكن في المدن الشعبية) إلى إجبار الموظفين على العمل بجد أكبر ليحافظوا على مناصبهم. والآن، تفصل المؤسسات الموظفين في مسار إعادة الهيكلة و إعادة تصميم العمليات ، وتجبر الموظفين الناجين على تحمل أعباء عمل أصعب. كما يتم تعهيد المهام الداعمة إلى موظفين أو متعاقدين مستقلين يكافحون للتأقلم في عالم غير ضمون وشديد التقلب. وقد رسخ الكساد والانتعاش الاقتصادي في عام ٢٠٠٨ نمطا تسعى فيه الشركات للنمو عبر زيادة المتطلبات على الموظفين الحاليين بدلاً من تعيين موظفين جدد. وقد تحول القليل من الصناعات إلى تنافسات سريعة الوتيرة يستأثر فيها الفائر بكل شيء: يصمد عدد قليل من الناس ليصنعوا ثروات هائلة حين تشتهر شركاتهم التقنية أو تؤتي استثمارات صناديقهم التحوطية ثمارها أو ينتشر صيتهم عبر وسائل التواصل الاجتماعي - ونظرا لأنه لا يوجد أحد يعلم المدة المتبقية لهم إلى أن تتغير صيحات الموضة أو تتطور التكنولوجيا أو تنفجر الفقاعة، فمن المنطقي أن يبذلوا كل ما لديهم الآن. ونتيجة لهذا، يعمل العديد منا لساعات طويلة؛ فعادة ما تنخفض ساعات العمل بشكل عام مع الإنتاجية المتزايدة، لكن في السبعينيات، توقفت الإنتاجية المتزايدة عن الإتيان بثمارها في ساعات عمل قصيرة، رغم توقعات أجيال من الاقتصاديين. وبدأت ساعات العمل في التزايد في الولايات المتحدة في الثمانينيات من القرن الماضي، خاصة بين الموظفين والمهنيين المتقاضين للرواتب مثل الأطباء والمحامين والمصرفيين والأساتذة الجامعيين؛ وعلى النقيض بدأت ساعات العمل (والرواتب ووظائف الدوام الكامل) في المهن الأقل مهارة والمهن ذات الأجور المدفوعة بالساعة، في التناقص. ومنذ ذلك الوقت، اتسعت هذه الفجوة في أجزاء أخرى من العالم: اليوم، تزداد احتمالية العمل المفرط للأشخاص الميسورين والمثقفين في أوروبا الغربية وأستراليا وكوريا الجنوبية، بينما يعاني الأشخاص الأكثر فقرا لإيجاد وظائف مستقرة ومواجهة البطالة المزمنة. (لا يزال الأمريكيون أكثر احتمالاً للعمل ليلاً وفي عطلات نهاية الأسبوع رغم زيادة تقسيمهم لأوقات فراغهم) . نحن لا نقضي المزيد من الوقت في العمل فحسب؛ فالأعمال غير الرسمية تستنزف أيضا المزيد من أوقاتنا. ووفقا لتقرير مكتب إحصاءات العمل لعام ٢٠١٥، يقضي آباء الأطفال الصغار متوسطا زمنيا يصل لسبع ساعات في كل يوم عمل في رعاية الأطفال. وقد أعطت الأجيال السابقة الأطفال المزيد من الاستقلالية والحركة، لكن الأبوة اليوم أكثر استنزافا للوقت والجهد. وهذا سبب وجيه للزيادة الضئيلة لمقدار الوقت المستغرق في الأعمال المنزلية في السنوات المائة السابقة، رغم ابتكار غسالات الصحون وماكينات الغسيل والأجهزة الأخرى. نحن نقضي أيضا المزيد من الوقت في رحلة ذهابنا إلى العمل - وتتزايد نسبة الأشخاص أصحاب رحلات الذهاب الطويلة إلى العمل أيضا. وفي المملكة المتحدة، ووفقا لدراسة أجريت في عام ٢٠١٥، قضى ٣ ملايين شخص تقريدا أو ٠ ١% من القوى العاملة، أكثر من ساعتين في اليوم في رحلة الذهاب إلى العمل في عام ٢٠١٤، هذا الرقم الذي زاد بنسبة أكثر من ٧٠% منذ عام ٢٠٠٤. وفي الولايات المتحدة، كان العمال يقضون متوسط ٢١ دقيقة في رحلة الذهاب إلى العمل في عام ١٩٨٢؛ وبحلول عام ٢٠١٤، زاد هذا الوقت بسرعةإلى ٢٦ دقيقة، مع وجود ١٧% من الذاهبين إلى العمل الذين يقضون وقتا يقدر ب ٤٥ دقيقة أو أكثر. (ارتفعت أيضا نسبة الوقت الذى يقضيه الأشخاص الذاهبون إلى العمل وهم عالقون في الزحام من ١٦ ساعة سنويا عام ١٩٨٢ إلى ٤٢ ساعة سنويا في عام ٢٠١٤).