ساتيا ناديلاً : كيف شكّل كارل ماركس وباحثة سنسكريتية وبطل كريكيت صباي؟

انضممت إلى شركة مايكروسوفت في عام ١٩٩٢ لأنني أردت العمل في شركة تزخر بأناس يؤمنون بأنهم في مهمة لتغيير العالم. كان هذا منذ خمسة وعشرين عاما مضت، ولم أندم قط على هذا. لقد بدأت شركة مايكروسوفت ثورة الحاسب الشخصي، وكان نجاحنا - الذي ربما لم ينافسنا فيه سوى شركة آي بي إم في جيل سابق - أسطوريا - ولكن بعد أعوام من التفوق بفارق كبير على جميع منافسينا، فقد كان ثمة شيء يتغير، ولكنه لم يكن يتغير للأفضل.

حيث حلت البيروقراطية محل الابتكار، والسياسات الداخلية محل العمل الجماعي، وكنا نتخلف عن الركب. وفي خضم هذه الأوقات العصيبة، رسم رسام كاريكاتير الهيكل التنظيمي لشركة مايكروسوفت في صورة عصابات متناحرة، وكل منها توجه مسدسها نحو الأخرى. كان من المستحيل تجاهل رسالة الرسام الساخر.

وبصفتي موظفا قديما خدم أربعة وعشرين عاما في شركة مايكروسوفت، ومطلعا على بواطن الأمور، أزعجني الكاريكاتير بشدة. بيد أن ما كان أكثر إزعاجا لي هو أن موظفينا تقبلوه ببساطة !

بالطبع، كنت ألمس بعض أشكال انعدام التناغم في المناصب العديدة التي توليتها، ولكني لم أر الأمر قط عصيًا على الحل؛ لذا عندما تم اختياري المدير التنفيذي الثالث لشركة مايكروسوفت في شهر فبراير من عام ٢٠١٤، أخبرت الموظفين بأن تجديد ثقافة شركتنا سيكون على رأس أولوياتي.

وأخبرتهم بأنني ملتزم بإزالة الحواجز التي تعوق الابتكار لكي نتمكن جميعًا من العودة إلى ما انضممنا للشركة من أجله - وهو إحداث فارق في العالم.

دائما ما تكون شركة مايكروسوفت في أحسن حالاتها عندما تربط الشغف الشخصي بغاية أشمل، مثلما كان الحال مع نظام ويندوز، وبرامج أوفيس، وإكس بوكس، وأجهزة سيرفيس، وخادماتنا، ومنصة سحابة مايكروسوفت - فجميع هذه المنتجات صارت منصات رقمية يمكن للأفراد والمؤسسات بناء أحلامهم عليها.

كانت هذه إنجازات بارزة، وكنت متأكدا أننا ما زلنا قادرين على تحقيق المزيد، وأن الموظفين كانوا تواقين لفعل المزيد. كانت هذه هي الدوافع والقيم التي أردت أن تتبناها ثقافة مايكروسوفت.

ولم يمضى وقت طويل على شغلي منصب المدير التنفيذي، حتى قررت تجربة شيء في أهم الاجتماعات التي أقودها. ففي كل أسبوع، يجتمع فريق القيادة العليا (slt) لاستعراض الفرص الكبيرة والقرارات الصعبة لطرح الأفكار بشأنها والتعامل معها.

ويتكون فريق القيادة العليا من بعض الأشخاص الموهوبين للغاية من مهندسين وباحثين ومديرين ومسوقين. إنه مجموعة متنوعة من الرجال والنساء من خلفيات متنوعة أتوا إلى شركة مايكروسوفت لآنهم يحبون التكنولوجيا ويعتقدون أنه يمكن لعملهم أن يحدث فارقا. في ذلك الوقت.

كان الفريق يضم أشخاصا مثل: ييجي جونسون، وهي مهندسة سابقة في قسم الإلكترونيات العسكرية بشركة جنرال إليكتريك. ومديرة سابقة بشركة كوالكوم، وترأس حاليا قسم تطوير الأعمال.

وكاثلين هوجان، وهي مطورة تطبيقات سابقة لدى شركة أوراكل، وترأس الآن قسم الموارد البشرية، وهي شريكتي في تحسين ثقافتنا. وكيرت ديلبين، وهو قائد مخضرم بشركة مايكروسوفت، غادر الشركة للمساعدة على إصلاح موقع الرعاية الصحية Healthcare. gov في أثناء إدارة أوباما، ثم عاد ليقود التخطيط. وكي لو، الذي أمضى عشر سنوات لدى شركة ياهو ثم أدار قسم التطبيقات والخدمات لدينا - وهو يملك عشرين براءة اختراع أمريكية.

وكانت مديرتنا المالية، إيمي هوود، مصرفية استثمارية لدى مؤسسة جولدمان ساكس. وبراد سميث، رئيس الشركة والمدير القانوني لها، كان شريكا في شركة كوفينجتون آند بيرلينج - ويشتهر حتى اليوم بأنه أول محام في الشركة التي يقارب عمرها القرن والذي اشترط لقبول وظيفته في عام ١٩٨٦ أن يكون لديه حاسب شخصي على مكتبه. وسكوت جوثري، الذي حل محلي قائدا لقسم الحوسبة السحابية والمؤسسات، وانضم إلى مايكروسوفت مباشرة بعد تخرجه في جامعة ديوك.

وبالمصادفة فإن تيري مايرسون، مدير قسم ويندوز والأجهزة لدينا، كان قد تخرج أيضا في جامعة ديوك قبل أن يؤسس شركة إنتيرسي - وهي واحدة من أولى شركات برمجة الإنترنت- وكريس كابوسيلا، مدير التسويق، الذي نشأ في مطعم إيطالي تديره العائلة في نورث إند في بوسطن، وقد انضم إلى شركة مايكروسوفت مباشرة بعد تخرجه في جامعة هارفارد قبل انضمامي إلى الشركة بعام- وكيفين تيرنر، مدير سابق بمتاجر وول مارت، وكان مدير العمليات وقاد المبيعات العالمية. وهاري شام، الذي يقود عمليات مجموعة مايكروسوفت الشهيرة للذكاء الاصطناعي والأبحاث، وكان قد نال شهادة الدكتوراه في علم الروبوت من جامعة كارنيجي ميلون، وهو واحد من الخبراء العالميين في مجال الرؤية الحاسوبية والرسوميات.

كُنت عضوا في فريق القيادة العليا عندما كان ستيف بالمر هو المدير التنفيذي، وعلى الرغم من أنني كنت أكن التقدير لكل فرد من الفريق، فإنني شعرت بأننا في حاجة إلى تعميق فهم كل منا للآخر - أن نستكشف ما يحفز كلا منا - وأن نربط فلسفاتنا الشخصية بوظائفنا بوصفنا قادة للشركة.

وكنت أعلم أنه إذا ألقينا تلك المسدسات المجازية ووجهنا ذلك الذكاء الجماعي وتلك الطاقة الجماعية إلى مهمة محدثة، حينها سيمكننا العودة إلى الحلم الذي ألهم بيل وبول في المقام الأول والمتمثل في إضفاء طابع ديمقراطي على تكنولوجيا الحاسب المتقدمة.

وقبيل اختياري مديرا تنفيذيا، ربح فريقنا المحلي لكرة القدم - فريق سياتل سيهوكس - بمباراة سوبر باول، ووجد الكثير منا الإلهام في قصتهم. كان مدرب فريق سيهوكس، بيت كارول، قد جذب انتباهي بتعيينه أخصائي علم النفس مايكل جيرفيس، المتخصص في التدريب على الوعي التام لتحقيق أداء عالي المستوى.

ربما يبدو الأمر خادعا، ولكنه أبعد ما يكون عن ذلك؛ فقد عمل الدكتور جيرفيس مع فريق سيهوكس لشغل عقول اللاعبين والمدربين على نحو كامل بتحقيق التميز في الملعب وخارجه. وعلى غرار الرياضيين، فإننا جميعا نبحر في بيئة عالية المخاطر، وكان اعتقادي أن فريقنا بإمكانه تعلم شيء ما من أسلوب الدكتور جيرفيس.

اجتمع فريق القيادة العليا مبكرا صباح أحد أيام الجمعة، بيد أن الاجتماع هذه المرة لم يكن في قاعة المجلس التنفيذي المعتادة، لكننا اجتمعنا في مكان يبعث أكثر على الاسترخاء في الجانب البعيد من الشركة، وهو الجانب الذي يرتاده عادة مطورو البرمجيات والألعاب.

كان المكان مفتوحا وجيد التهوية وبسيطًا. لقد مضى عهد الطاولات والكراسي المعتادة. ولم يكن هناك مكان لوضع الحاسبات لمراقبة رسائل البريد الإلكتروني والنشرات الإخبارية التي لا تنتهي.

نحينا هواتفنا جانبا فحشرناها في جيوبنا، ووضعناها في حقائبنا وحقائب الظهر، وجلسنا على أرائك مريحة في دائرة كبيرة؛ ليس ثمة مكان للاختباء. وافتتحت الاجتماع بمطالبة الجميع بتعليق إصدار الأحكام ومحاولة أن نعيش اللحظة. كان الأمل يحدوني، ولكنني أيضًا كنت قلقا بعض الشيء.

فيما يتعلق بالتدريب الأول، سألنا الدكتور جيرفيس عما إذا كنا مهتمين بخوض تجربة فردية استثنائية، فأومأنا جميعا برءوسنا موافقين، ثم طلب أن يقف أحد المتطوعين، وللوهلة الأولى لم يقف أحد. كانت اللحظة ساكنة وغريبة للغاية. ثم قامت مديرتنا المالية إيمي هوود لتتطوع، ومن ثم تحداها أن تسرد الألفبائية بينما تضع رقتا بعد كل حرف - أ١ ، ب٢، ت٣، وهكذا.

ولكن الفضول أصاب الدكتور جيرفيس: لماذا لم يقم الجميع؟!

أليست هذه مجموعة عالية الأداء؟! ألم يقل كل منكم للتو إنه يريد فعل شيء استثنائي؟!

وفي ظل عدم وجود هواتف أو حاسبات للنظر إليها، نظرنا للأسفل إلى أحذيتنا، أو أطلقنا ابتسامة متوترة نحو زملائنا؛ فقد كان من الصعب التصريح بالإجابات، رغم أنها واضحة؛ تدور حول الخوف: من التعرض للسخرية، أو من الفشل، أومن عدم الظهور بمظهر الشخص الأذكى في القاعة. أو العجرفة، أنا أهم من المشاركة في مثل هذه الألعاب.

لقد نشأنا على سماع عبارة: يا له من سؤال غبي! . ولكن الدكتور جيرفيس كان مشجعا، وبدأ الحضور يتنفسون بسهولة ويضحكون قليلاً. وفي الخارج، أضاءت أشعة النهار كل ما تحت شمس الصيف، وتكلمنا جميعا الواحد تلو الآخر. وتشاركنا شغفنا وفلسفاتنا الشخصية، ثم طلب منا التفكير في ماهيتنا، سواء في حياتنا المنزلية أو في العمل.

وكيف نربط شخصيتنا المهنية بشخصيتنا الحياتية؟ فتحدث الحاضرون عن الروحانية، وجذورهم الدينية، ودراستهم للتعاليم الفلسفية، كما تشاركوا معاناتهم كآباء، وتفانيهم اللامتناهي لصناعة منتجات يحب الناس استخدامها بفرض العمل والترفيه.

وبينما كنت أستمع إليهم، أدركت أنه خلال كل سنوات عملي في مايكروسوفت، كانت هذه هي المرة الأولى التي أسمع فيها زملائي يتحدثون عن أنفسهم، وليس عن أمور العمل وحسب، بل إنني رأيت بعض العيون الدامعة عندما نظرت في أرجاء القاعة.

وعندما حان دوري، استعنت بمخزون عميق من العاطفة وبدأت التحدث. لقد كنت أفكر في حياتي: والدى، وزوجتي، وأبنائي، وعملي- لقد مررت برحلة طويلة حتى وصلت إلى هذه اللحظة.

وعاد ذهني إلى الأيام الخوالي عندما كنت طفلا في الهند، وعندما كنت شابًا مهاجرا إلى هذه الدولة، وعندما صرت زوجا وأبا لطفل ذي احتياجات خاصة، وعندما كنت مهندسا يصمم تكنولوجيات تصل إلى المليارات من الناس حول العالم، وبالطبع، عندما كنت معجبا مهووسا بلعبة الكريكيت يحلم منذ زمن بعيد أن يصير لاعبا محترفا.

اجتمعت هذه الأجزاء كلها في هذا الدور الجديد، دور سيستدعي كل ما لدى من مشاعر، ومهارات، وقيم - تماما كما ستستدعي تحدياتنا كل شخص آخر في القاعة- في ذلك اليوم، وكل شخص أخر كان يعمل لدى شركة مايكروسوفت.

أخبرتهم بأننا نمضي وقتا كبيرا في العمل، ولا يمكن أن يكون هذا الوقت عديم القيمة. فإذا استطعنا ربط ما نمثله كأفراد بما تقدر هذه الشركة على فعله، فسيمكننا تحقيق الكثير.

وحسبما أذكر، فدائماً ما كان لدي نهم للتعلم سواء كان ذلك من بيت شعر أو حوار مع صديق أو من درس لمعلم .وفلسفتي الشخصية وشغفي ،اللذان تطورا بمرور الوقت ومن خلال التعرض لمختلف التجارب ،يتمثلان في ربط الأفكار الجديدة بشعور متزايد من التعاطف مع الآخرين؛ فالأفكار تشعل حماستي، والتعاطف يثبتني ويمنحني التركيز.

ومن المفارقات أن غياب التعاطف كاد يكلفني فرصة الانضمام لشركة مايكروسوفت عندما كنت شابا منذ نحو عشرين عاما. فبالنظر إلى المقابلات التي عقدت معي للعمل منذ عدة عقود، أذكر أنه بعد يوم كامل من المقابلات مع مجموعة مختلفة من قادة الهندسة الذين اختبروا قدراتي الذهنية، قابلت ريتشارد تايت الذي كان مديرا واعدا وأسس بعد ذلك شركة كرينيوم للألعاب. لم يعطني ريتشارد مسألة هندسية لحلها على السبورة أو سيناريو تكويد معقد لمناقشته، ولم يستجوبني بشأن خبراتي السابقة أو تاريخ دراستي، بل كان لديه سؤال واحد بسيط. سألني قائلاً: ’تخيل أنك رأيت رضيعًا ملقى في الشارع، وكان هذا الرضيع يبكي، فماذا ستفعل؟" 

فأجبت بلا تفكير كثير: "سأتصل بالطوارئ". فخرج ريتشارد معي من المكتب، ووضع ذراعه حولي وقال: أنت بحاجة إلى بعض التعاطف يا رجل. فإذا كان الرضيع ملقى في الشارع وهو يبكي، فاحمله".

ولكنني بشكل ما، حصلت على الوظيفة، ولكن ظلت كلمات ريتشارد تتردد في ذهني إلى اليوم، ولم أكن أعلم حينئذ أنني سأتعلم التعاطف بشكل شخصي جدًا.

لم يمض سوى سنوات قليلة قصيرة بعد ذلك حتى ولد طفلنا الأول زين. كنت أنا وزوجتي آنو الابنين الوحيدين لآبائنا؛ لذا يمكنك أن تتخيل كم الاشتياق لمولد زين.

وبمساعدة والدتها، كانت أنو مشغولة بإعداد المنزل لطفل جديد سعيد ومتمتع بالصحة. كانت مشاغلنا منصبة على مدى سرعة عودة أنو إلى مسيرتها المهنية المزدهرة كمهندسة مدنية بعد انتهاء إجازة رعاية الطفل.

وكأي والد، فكرنا في كيفية تغيير عطلات نهاية الأسبوع وإجازاتنا بعدما صرنا والدين. وذات ليلة، خلال الأسبوع السادس والثلاثين من حملها، لاحظت آنو أن الجنين لم يكن يتحرك كما اعتادت؛ لذا ذهبنا إلى غرفة الطوارئ لمشفى محلي في بيلفيو، وظننا أنه سيكون فحصا روتينيا، فليس هذا أكثر من مجرد قلق والدين جديدين. وفي الواقع، أذكر بوضوح شعوري بالانزعاج بسبب أوقات الانتظار التي قضيناها في غرفة الطوارئ. ولكن بعد إتمام الفحوصات، كان الأطباء متخوفين بما يكفي مما دفعهم للأمر بعملية قيصرية طارئة.

وولد زين في الساعة ٢٩: ١١ مساء في ١٣ أغسطس من عام ١٩٩٦، بوزن يبلغ ١٠٣٦٠ كيلوجرام، ولم يكن يبكي. ثم نقل زين من المشفى في بيلقيو عبر بحيرة واشنطن إلى مشفى سياتل للأطفال الذي توجد به وحدة العناية المركزة المتطورة لحديثي الولادة. بدأت آنو في التعافي من الولادة الصعبة، وأمضيت الليلة معها في المشفى ثم توجهت من فوري في الصباح التالي لرؤية زين.

ولم أكن أعرف حينها إلى أي مدى ستتغير حياتنا! على مدار العامين التاليين، تعلمنا المزيد بشأن الضرر الناجم عن اختناق الجنين في الرحم، وكيف أن زين سيحتاج إلى كرسي متحرك وإلى الاعتماد علينا بسبب الشلل الدماغي الشديد. لقد كنت مدمرا، وكنت حزينا جدا نظرا لما آلت إليه الأمور معي ومع آنو. ولحسن الحظ فإن آنو ساعدتني على إدراك أن الأمر ليس بشأن ما حدث لي، بل بشأن الفهم العميق لما حدث لزين وتنمية التعاطف بخصوص ألمه وظروفه الخاصة مع تقبل المسئولية التي تقع على عاتقنا بصفتنا والديه. إن حقيقة كوني زوجا وأبا قد قادتني في رحلة عاطفية. وقد ساعدتني في اكتساب القدرة على فهم الناس بصورة أعمق بصرف النظر عن قدراتهم وما يمكن للحب والإبداع البشري تحقيقه. وكجزء من هذه الرحلة، اكتشفت كذلك تعاليم رجل حكيم من أشهر حكماء الهند.

إنني لست متدينا بالمعنى الحرفي، لكنني كنت أبحث وكنت فضوليا بشأن السبب الذي جعل عددا قليلاً جدا من الناس يتبعون تعاليم هذا الحكيم بالرغم من منشئه. واكتشفت أن هذا الحكيم لم يخطط لنشر تعاليمه حول العالم، بل كان يسعى لفهم سبب معاناة الناس، وأدركت أنه فقط من خلال عيش الحياة بتقلباتها سيتمكن المرء من تنمية التعاطف؛ وأنه لكي لا يعاني المرء، أو على الأقل لكي لا يعاني بشدة، يجب عليه تقبل مبدأ المؤقتية .

أذكر بوضوح مدى انزعاجي من دوام حال زين في السنوات المبكرة من حياته، ولكن كل شيء يتغير دائما. فإذا استطعت أن تفهم مبدأ المؤقتية بشكل عميق، فستتحلى  بالمزيد من الاتزان؛ فلن تصيبك الحماسة الزائدة بشأن يسر الحياة وعسرها، وحينها فقط ستكون مستعدا لتطوير ذلك الحس العميق بالتعاطف والشفقة تجاه جميع من حولك.

ولقد أحب عالم الحاسب بداخلي هذه المجموعة الوجيزة من تعليمات الحياة. لا تسمع فهمي، فأنا أبعد ما أكون عن الكمال، وبالتأكيد لست على وشك تحقيق السكينة التامة أو السعادة المطلقة؛ كل ما في الأمر هو أن الخبرة الحياتية ساعدتني في اكتساب شعور متزايد بالتعاطف لدائرة متسعة دائما من الأشخاص؛ فلدى تعاطف مع الأشخاص ذوي الحاجات الخاصة، ولدى تعاطف مع الأشخاص الذين يحاولون كسب قوت يومهم في المدن الداخلية ومنطقة حزام الصدأ فضلاً عن الدول النامية في آسيا وإفريقيا وأمريكا اللاتينية، ولدى تعاطف مع أصحاب الشركات الصغيرة الذين يسعون للنجاح، ولدي تعاطف مع أي شخص يكون هدفا للعنف والكراهية بسبب لونه أو معتقده أو من يحب.

وشغفي هو أن أضع التعاطف في مركز أي شيء أسعى إليه بدءا من المنتجات التي نطلقها، إلى الأسواق الجديدة التي ندخلها، والموظفين والعملاء والشركاء الذين نعمل معهم. بالطبع، بصفتي متخصصا في التكنولوجيا، فقد رأيت كيف يمكن للحاسبات أن تؤدي دورا مهما في تحسين حياة الناس.

بدأ التغيير في مايكروسوفت :

بدأت أدوارنا في فريق القيادة العليا في التغير ذاك اليوم؛ فلم يعد كل قائد مجرد شخص موظف من قبل مايكروسوفت، بل توصلوا إلى دعوة تتمثل في توظيف مايكروسوفت للسعي وراء شغفهم الشخصي فيما يخص تمكين الآخرين.

كان يوما مفعما بالمشاعر ومرهقا، ولكنه خلق روحا جديدة وأعد فريق قيادة أكثر توحدا. وفي نهاية اليوم، خلصنا جميعا إلى الإدراك الواضح ذاته: لا قائد واحدا، ولا مجموعة واحدة، ولا مدير تنفيذيا واحدا سيكون البطل للنهوض بشركة مايكروسوفت.

فإذا كان لنهضه ما أن تحدث، فسيتطلب الأمر جهودنا جميعا وجهود كل جزء من كل واحد منا. سيكون التحول الثقافي بطيئًا وشاقا قبل أن يؤتي أكله. 

من خلال التحدث إلينا من قرن آخر، يقول "ريلكه" إن ما ينتظرنا هو في الحقيقة بداخلنا، يحدده المسار الذي يسلكه اليوم كل شخص منا. وهذا المسار أي تلك القرارات.

بعد مرور بضع سنوات فقط على شغلي منصب المدير التنفيذي لدى شركة مايكروسوفت، بدا من السابق لأوانه أن أكتب عن مدى نجاحنا أو إخفاقنا إبان ولايتي.

لقد حققنا تقدما كبيرا منذ اجتماع فريق القيادة العليا الذي أشرت إليه آنفا، ولكن ما زال أمامنا طريق طويل؛ ولهذا أيضا لست مهتما بكتابة مذكرات. سأدخر هذا حتى شيخوختي‘ ولكن عدة آراء أقنعتني بأنه ينبغي علي توفير القليل من الوقت في هذه المرحلة من حياتي للكتابة؛ فقد شعرت بثقل مسئولية نشر قصتنا من منظوري.

كما أن هذا العصر هو عصر اضطرابات اجتماعية واقتصادية كبرى تتسارع بفعل طفرات تكنولوجية؛ فالمزيج المكون من الحوسبة السحابية، والحساسات، والبيانات الضخمة، وتعلم الآلات، والذكاء الاصطناعي، والواقع المختلط، وعلم الروبوت ينذر بتغير اجتماعي اقتصادي مقتبس من صفحات الخيال العلمي.

وثمة جدل واسع ومتزايد بشأن عواقب هذه الموجة القادمة من التكنولوجيا الذكية؛ فعلى جانب، يرسم فيلم WALL - e ، من إنتاج شركة بيكسار، صورة لاسترخاء دائم لدى البشر الذين يعتمدون على الروبوتات لأداء العمل الشاق، بينما على الجانب الآخر، ينذر علماء مثل ستيفن هوكينج بالهلاك.

وقد تمثل الرأي الأكثر إقناعا في أن أكتب لأجل زملائي موظفي شركة مايكروسوفت وللملايين من عملائنا وشركائنا؛ فبعد كل شيء، في ذلك اليوم البارد من شهر فبراير عام ٢٠١٤، عندما أعلن مجلس إدارة مايكروسوفت أنني سأصير مديرًا تنفيذيًا، وضعت ثقافة الشركة على قمة جدول أعمالنا، فقلت إننا بحاجة إلى إعادة اكتشاف روح شركة مايكروسوفت، أي سبب وجودنا، وأدركت أن وظيفتي الأساسية هي رعاية ثقافتنا ليتمكن مائة ألف عقل متحمس - موظفو الشركة - من تشكيل المستقبل بشكل أفضل.

غاليا ما تؤلف الكتب بواسطة قادة يتذكرون فترات ولايتهم، وليس وهم يخوضون غمار الحرب. ماذا لو أمكننا أن نتشارك الرحلة معا: تأملات مدير تنفيذي حالي في خضم عملية تحول كبرى؟ إن أساس شركة مايكروسوفت الذي قامت عليه، سبب وجودها الرئيسي، هو إضفاء طابع ديمقراطي على الحاسبات، أي جعلها في متناول الجميع؛ فكانت مهمتنا الأصلية حاسب آلي على كل مكتب وفي كل منزل، وكانت هذه المهمة تشكل ثقافتنا، ولكن هناك أمورا كثيرة تغيرت؛ فعلى كل مكتب وفي كل منزل تقريبا يوجد الآن حاسب آلي، ويمتلك أغلب الناس هواتف ذكية. لقد نجحنا في عدة جوانب، ولكن ثمة جوانب أخرى كنا متأخرين فيها؛ فقد تباطأت مبيعات الحاسب الشخصي، وكنا متأخرين بشكل ملحوظ في مجال الهواتف المتحركة، وكنا متأخرين كذلك في محركات البحث، وكنا في حاجة إلى النمو مرة أخرى في مجال الألعاب.

كنا نحتاج إلى بناء تعاطف أعمق تجاه عملائنا وحاجاتهم التي لم يتم الإنصات إليها ولم تلب بعد. كان هذا هو وقت الضغط على زر التحديث . refresh بعد مرور اثنين وعشرين عاما مهندسا وقائدا في شركة مايكروسوفت، كان الأمر أقرب إلى الفلسفة منه إلى القلق بشأن عملية البحث عن مدير تنفيذي جديد.

حتى مع انتشار التكهنات بشأن من سيخلف ستيف، تجاهلت أنا وزوجتي آنو، بكل صدق، الشائعات. في المنزل، كنا منشغلين جدا بالاعتناء بزين وابنتينا، وفي العمل، كنت مركزا جدا على مواصلة تنمية عمل تنافسي للغاية، وهو سحابة مايكروسوفت. كنت أرى أن مجلس الإدارة سيختار الشخص الأفضل. سيكون من الرائع إذا كنت أنا هذا الشخص، ولكنني سأكون بالقدر نفسه من السعادة للعمل تحت إمرة شخص ينال ثقة مجلس الإدارة.

في الواقع، كجزء من عملية إجراء المقابلات الشخصية، اقترح علي أحد أعضاء المجلس أنه إذا ما كنت أريد أن أصبح المدير التنفيذي، فإنني في حاجة لأن أوضح أنني متلهف للمنصب. فكرت في هذا الأمر، وتحدثت بشأنه إلى ستيف، فضحك وقال ببساطة: ’لقد فات الأوان على أن تكون مختلفا ولم تكن طبيعتي - ولن تكون - إظهار هذا النوع من الطموح الشخصي.

اختيار ساتيا ناديلاً مديراً تنفيذياً لشركة مايكروسوفت:

عندما أرسل إلى جون تومبسون، الذى كان حينئذ مديرا مستقلا ويرأس عملية البحث عن مدير تنفيذي، بريدا إلكترونيا في ٢٤ من يناير عام ٢٠١٤ طالبا مني التحدث، لم أكن متأكدا مما يريده. اعتقدت أنه ربما سيطلعني على آخر تطورات موقف المجلس بخصوص عملية اتخاذه القرار، وهكذا، عندما اتصل جون في تلك الأمسية، سألني أولاً عما إذا كنت جالسا، ولكني لم أكن كذلك. في الواقع كنت أتململ بكرة كريكيت كبيرة كما أفعل عادة عندما أتحدث من خلال مكبر الصوت في العمل، ثم واصل الحديث لينقل إلي خبر اختياري مديرا تنفيذيا لشركة مايكروسوفت.

استغرقت دقيقتين لاستيعاب كلامه، وقلت له إنني تشرفت وممتن ومتحمس. كانت هذه كلمات عفوية، ولكنها أبانت عما كنت أشعر به تماما. وبعد أسابيع، أخبرت وسائل الإعلام بأننا في حاجة إلى التركيز بوضوح أكبر، والتحرك بسرعة أكبر، والاستمرار في تحويل ثقافتنا وعملنا. ولكن في الكواليس، كنت أعرف أنه لكي أستطيع القيادة بفاعلية، فعلى ترتيب بعض الأمور في ذهني - وفي أذهان العاملين في شركة مايكروسوفت أيضا.

ما سبب وجود شركة مايكروسوفت؟

وما سبب وجودي في هذا المنصب الجديد؟

هذان السؤالان يجب على كل شخص في كل مؤسسة أن يطرحهما على نفسه. كنت أخشى أن عدم طرح هذين السؤالين والإجابة عنهما بصدق سيؤدي إلى المخاطرة من خلال استمرار الأخطاء السابقة، والأسوأ، هو انعدام الصدق. يصل كل شخص، ومؤسسة، وحتى كل مجتمع، إلى نقطة يدينون فيها لأنفسهم بالضغط على زر التحديث  refresh - إعادة تنشيط غرضه، وتجديده، وإعادة صياغته، وإعادة التفكير فيه. ليت الأمر كان ببساطة الضغط على زر التحديث الصغير الموجود في متصفحك. وبالطبع ففي هذا العصر من التحديثات المستمرة والتكنولوجيا العاملة على الدوام، يكون الضغط على زر التحديث refresh فكرة غريبة، ولكن عند إتمام الأمر على النحو الصحيح، وعندما يعيد الأشخاص والثقافات البناء ويقومون بالتحديث، يمكن أن ينتج عن ذلك نهضة. الوكالات الرياضية تفعل هذا، وشركة آبل فعلت هذا، ومدينة ديترويت تفعل هذا.

وذات يوم ستتوقف الشركات الصاعدة كشركة فيسبوك عن النمو، وستضطر لفعل هذا أيضا. لذا دعوني أبدأ في مستهل كلامي من قصتي- أعني أنه أي نوع من المديرين التنفيذيين سيطرح أسئلة وجودية من قبيل ما سبب وجودنا في المقام الأول؟

ولماذا تعد مفاهيم كالثقافة والأفكار والتعاطف شديدة الأهمية بالنسبة لي؟ في الواقع، كان والدي موظفا حكوميا يتبنى الأفكار الماركسية، وكانت والدتي باحثة في الثقافة السنسكريتية. ورغم أنني تعلمت الكثير من والدي - مثل الفضول الفكري وحب التاريخ - فإنني كنت دائما أكثر ارتباطا بأمي؛ فقد  اهتمت بشدة بسعادتي، وثقتي بنفسي، وأن أعيش اللحظة بلا ندم. وعطت بجد في المنزل وفي الجامعة؛ حيث كانت تطم لغة الهند القديمة، وأدبها، وفلسفتها، وبنت منزلاً ينتشر السرور والسعادة في جنباته. وعلى الرغم من ذلك، فإن أولى ذكرياتي لوالدتي كانت وهي تكافح لتستمر في مهنتها ولإنجاح زيجتها. لقد كانت هي القوة الثابتة والباعثة على الاستقرار في حياتي، وكان والدي أكبر من محن الحياة. كان قد أوشك على الهجرة إلى الولايات المتحدة، مكان بعيد يمثل فرصا واعدة، ضمن برنامج فولبرايت للمنح الدراسية لنيل شهادة الدكتوراه في علم الاقتصاد، ولكن هذه الأحلام جميعها تلاشت فجأة وبشكل مفهوم عندما اختير للانضمام إلى الجهاز الإداري الهندي.

كان هذا في أوائل ستينيات القرن الماضي عندما صار واهر لال نهرو رئيس الوزراء الأول للهند بعد حركة غاندي التاريخية، والتي حققت الاستقلال عن بريطانيا لعظمى؛ لذا فمن وجهة نظر هذا الجيل، كان الدخول في الجهاز الحكومي والاضطلاع بدور في مولد أمة جديدة حلما حقيقيا يتجسد. كان الجهاز الإداري الهندي في الأساس يتكون من بقايا نظام راج القديم الذي تركه البريطانيون للحكم بعدما سلمت المملكة المتحدة سلطة إدارة الدولة عام ١٩٤٧ .

وكان يجري اختيار قرابة مائة اختصاصي شاب فقط كل عام للجهاز الإداري الهندي، ولذلك ففي سن صغيرة، كان  والدي يحكم مقاطعة تؤوي ملايين الأشخاص. وخلال طفولتي، عين حاكما على كثير من المقاطعات في ولاية أندرا براديش في الهند. وأذكر انتقالنا من مكان لأخر، ورغم نشأتي في فترة الستينيات وأوائل السبعينيات في مبان قديمة ترجع إلى الحقبة الاستعمارية في أماكن منعزلة كان لدى الكثير من الوقت والمساحة في دولة في طريقها إلى التحول. وقد بذلت أمي أفضل ما لديها خلال كل هذه التقلبات للحفاظ على مهنتها في التدريس، ولتربيني، ولتؤدي دور الزوجة المحبة- وعندما بلغت قريبا من عامي السادس، ماتت أختي ذات الأشهر الخمسة. وكان لهذا الأمر تأثير كبير فى وفي عائلتي، فاضطرت والدتي لأن تترك العمل بعد ذلك، وأعتقد أن موت أختي كان القشة الأخيرة التي قصمت ظهر البعير فقد كان فقدانها أختي، مع أعباء تربيتي والعمل للحفاظ على وظيفتها، في حين كان والدي يعمل في أماكن بعيدة يشكل عبئا كبيرا. وهي لم تتذمر من الأمر يوما قط، ولكنني أفكر في قصتها قليلاً، وخاصة في ظل الأحاديث المتنوعة الحالية في مجال الصناعة التكنولوجية. ومثل أي شخص، فقد أرادت، واستحقت، الحصول على كل شيء، ولكن ثقافة مكان عملها، إلى جانب تقاليد المجتمع الهندي حينئذ، لم تتح لها تحقيق التوازن بين حياتها العائلية وشغفها المهني. بين أبناء العاملين في الجهاز الإداري الهندي، كان هناك سباق فئران؛ فبالنسبة لبعض الآباء العاملين في الجهاز الإداري الهندي، كان مجرد اجتياز اختبار القبول المرهق يعني دخولهم الحياة من أوسع أبوابها، كان هذا آخر اختبار عليهم اجتيازه‘ ولكن والدي كان يرى أن اجتياز اختبار الجهاز الإداري الهندي مجرد مدخل لاجتياز المزيد من الاختبارات المهمة. لقد كان متعلما مستمرا بامتياز. ولكن على خلاف أغلب زملائي في ذلك الوقت، الذين ألقى عليهم آباؤهم الناجحون ضغوطا كبيرة لتحقيق الإنجازات، لم أواجه أيا من هذا؛ فقد كانت والدتي أبعد ما تكون عن الأم المتسلطة؛ فلم تضغط علي قط لكي أفعل أي شيء سوى أن أكون سعيدا. وكان هذا يناسبني تماما؛ ففي طفولتي، لم أكن أهتم بأي شيء تقريبا، إلا رياضة الكريكيت.

وفي إحدى المرات، علق والدي ملصقا لكارل ماركس في غرفتي، وردا على ذلك، علقت والدتي ملصقا لأحد الرموز الدينية الدالة على الوفرة والقناعة. كانت رسالتاهما المتناقضتان واضحتين: أراد والدي الطموح الفكري لي، بينما أرادتني والدتي أن أكون سعيدا ولا أتقيد بأي مذهب. فماذا كان رد فعلي؟ الملصق الوحيد الذي أردته كان لبطلي في لعبة الكريكيت الرائع من حيدر آباد، إم. إل. جايسيما، المشهور بمظهره الطفولي الوسيم وأسلوبه اللبق في الملعب وخارجه- وإذا عدت إلى الماضي، فإنني تأثرت بكل من حماس والدي فيما يخص المشاركة الفكرية وحلم والدتي المتمثل في الحياة المتزنة. وحتى اليوم، ظل الكريكيت شغفي. ولا توجد في العالم حماسة للكريكيت أشد من تلك الموجودة في الهند رغم أن هذه اللعبة ابتكرت في إنجلترا. لقد كنت ماهرا بما يكفي للعب لمدرستي في حيدر آباد، وهو مكان يتمتع بالكثير من تقاليد لعبة الكريكيت وحماستها. وكنت أنا رامي الكرة، كرامي الكرة في لعبة البيسبول. تجذب الكريكيت ما يقارب المليارين ونصف المليار معجب حول العالم، مقارنة بنصف مليار معجب فقط برياضة البيسبول. وكلتاهما رياضة جميلة، ولهما معجبون متحمسون، ونصيب من الصناعة الأدبية يكسوها الشرف والحماسة وتعقيدات المنافسة. ففي روايته التي تحمل عنوان Netherland ، يصف جوزيف أونيل جمال اللعبة، واجتماع اللاعبين الأحد عشر في انسجام نحو لاعب المضرب ثم العودة مرارا وتكرارا لنقطة البداية قائلاً: ’تكرار أو إيقاع رئوي، كما لو أن الملعب كله يتنفس من خلال زواره الرائعين.

إنني أفكر في هذه الاستعارة لفريق الكريكيت الآن بصفتي مديرا تنفيذيا عند تأمل الثقافة التي نحن بحاجة إليها كي نحقق النجاح. ارتدت مدارس متنوعة في أجزاء كثيرة من الهند - في سريكاكولام، وتيروباتي، ومازوري، ودلهي، وحيدر آباد، وقد تركت كل مدرسة منها في ذاكرتي علامه ظلت معي.

فمثلاً مازوري هي مدينة هندية شمالية تقع على تلال جبال الهيمالايا، على ارتفاع يقارب ستة آلاف قدم. وكلما رأيت جبل رينر من منزلي في بيلفيو، أتذكر جبلي طفولتي: ناندا ديفي وبندربانش. كما ارتدت روضة الأطفال لإحدى المدارس الدينية. وهي أقدم مدارس الفتيات، لكنها تقبل الصبية في روضة الأطفال. وبحلول سن الخامسة عشرة، كنا قد توقفنا عن التنقل، وارتدت مدرسة حيدر آباد العامة، التي كانت تضم تلاميذ من كل أنحاء الهند. وأنا ممتن لجميع انتقالاتي - فقد ساعدتني على التأقلم بسرعة مع الأوضاع الجديدة، ولكن التوجه إلى حيدر أباد كان مؤثرا بحق؛ ففي سبعينيات القرن الماضي، كانت حيدر أباد تعد منطقة نائية، ولم تكن المدينة ذات ال6.8 مليون نسمة كما هي اليوم. ولم أكن أعرف أو أهتم بشأن العالم غرب بومباي على سواحل بحر العرب، ولكن الانضمام إلى مدرسة حيدر آباد العامة الداخلية كان أفضل نقلة في حياتي.

في المدرسة، انضممت إلى نالاندا، أو منزل الزرق، وكان اسمه مستمدا من  اسم جامعة دينية قديمة. وكانت المدرسة برمتها متعددة الثقافات: حيث يعيش أشخاص من مختلف الديانات في المدرسة ويدرسون معا.

وكان يرتاد المدرسة أفراد من صفوة المجتمع، إضافة إلى أطفال القبائل الذين يأتون من المقاطعات الداخلية في منح دراسية. كان ابن رئيس الوزراء يرتاد المدرسة مع أبناء ممثلي بوليوود- وفي مهجعي كان يوجد أطفال ينتمون إلى كل الطبقات الاقتصادية الهندية، وكانت هذه قوة مساواة مذهلة - وهي فترة من الزمان تستحق التذكر.

وقائمة المتخرجين اليوم تشهد على هذا النجاح، وتشمل شانتانو ناراين، المدير التنفيذي لشركة أدوبي، وأجاي سينج بانجا، المدير التنفيذي لشركة ماستركارد، وسيد بي- علي رئيس كافيام نتوقركس، وبريم واتسا، مؤسس شركة فيرفاكس فاينانشيال هولدنجس في مدينة تورنتو، إضافة إلى نواب وته برلمان، ونجوم سينما، ورياضيين، وأكاديميين، وكتاب، أتى جميعهم من هذه المدرسة الصغيرة النائية. لم أكن متميزا في الجانب الأكاديمي، كما لم تكن المدرسة مشهورة بإخراج الأكاديميين؛ فإذا أردت دراسة الفيزياء، فبإمكانك دراسة الفيزياء، أما إذا شعرت بأن العلوم مملة وأردت أن تدرس التاريخ، فلتدرس التاريخ؛ لذا لم يكن هناك ضغط من الأقران لاتباع مسار محدد. وبعد عدة سنوات في مدرسة حيدر آباد العامة، ذهب والدي للعمل لدى الأمم المتحدة في بانكوك، ولم يكن يعجبه توجهي المتراخي، فلذا قال لي: سأخرجك من المدرسة وستنهي عامك الدراسي الحادي عشر والثاني عشر في مدرسة دولية في بانكوك . فقلت له مستحيل، ومن ثم فقد ظللت في حيدر آباد.

وكان الجميع يقول: هل أنت مجنون، لماذا تفعل هذا؟ ، ولكن رحيلي كان أمرا مستحيلاً؛ كانت رياضة الكريكيت ذات منزلة كبيرة في حياتي حينئذ، كما أن ارتياد هذه المدرسة منحني أفضل الذكريات وقدرا كبيرا من الثقة بالنفس. ولو سألتني عن حلمي بحلول الصف الثاني عشر، لقد كان ارتياد جامعة صغيرة، ولعب الكريكيت لحيدر آباد، وأخيرا العمل في مصرف. كان هذا كل حلمي، ولم يخطر ببالي قط أن أكون مهندسا وأن أتوجه للغرب. وكانت والدتي مسرورة بهذه لخطط، حتى إنها قالت لي: هذا رائع يا بني! . ولكن والدي أصر على موقف آخر قائلاً لي: اسمع، يجب أن تخرج من حيدر أباد، وإلا فستدمر نفسك .

وكانت هذه نصيحة جيدة حينئذ، ولكن قليلين هم من كانوا يتوقعون أن تصير حيدر آباد معقلا للتكنولوجيا مثلما هي اليوم. كان من الصعب الانفصال عن دائرة الأصدقاء، لكن والدي كان محقا؛ فقد كانت طموحاتي بسيطة، وكنت في حاجة إلى منظور أخر. كانت لعبة الكريكيت شغفي، لكن الحاسبات كانت تليها مباشرة. وعندما بلغت الخامسة عشرة، ابتاع لي والدي جهاز سنكلير زي إكس سبيكترام من بانكوك. كان معالجه من طراز  ٨٠ قد طور في أواسط سبعينيات القرن الماضي على يد مهندس ترك العمل لدى شركة إنتل، وكان يعمل فيها على المعالجات الدقيقة من طراز ٨٠٨٠، ومن المفارقات أنها كانت الرقاقة التي استخدمها بيل جيتس وبول ألان في تصميم النسخة الأولية من مايكروسوفت بيسيك. وقد ألهمني معالج  ٨٠ التفكير في البرمجيات والهندسة، وأوحى إلى بفكرة إمكانية إضفاء طابع ديمقراطي على تكنولوجيات الحاسبات الشخصية. فإذا أمكن لطفل في الهند النائية تعلم البرمجة، فأي شخص يمكنه ذلك. ولكني رسبت في اختبار قبول المعاهد الهندية للتكنولوجيا، وكانت هي قبلة كل الأمور الأكاديمية للطلبة من الطبقة المتوسطة الذين نشأوا في الهند آنذاك. وكان والدي، الذي لم يرسب قط في اختبار قبول، أقرب إلى السعادة منه إلى الاستياء. ولكن لحسن الحظ، كان لدى خياران آخران لأسعى وراء الهندسة؛ فكان أمامي الانضمام إلى قسم الهندسة الميكانيكية بمعهد بيرلا للتكنولوجيا في ميرسا، والهندسة الكهربائية ee في معهد مانيبال للتكنولوجيا. اخترت معهد مانيبال بناء على حدسي بأن السعي لتعلم الهندسة الكهربائية سيقربني بشكل أكبر من الحاسبات والبرمجيات، ولحسن الحظ كان حدسي صائبا؛ فقد وضعني المعهد من الناحية الأكاديمية على المسار الذي سيؤدي إلى وادي السيليكون ثم إلى مايكروسوفت في النهاية. وكانت الصداقات التي كونتها في الجامعة ريادية، ومحفزة، وطموحة، وفي الحقيقة تعلمت من كثير منهم، فبعد عدة سنوات استأجرت منزلاً في صانيفيل بولاية كاليفورنيا أنا وثمانية من زملائي من معهد مانيبال وأعدنا إنتاج تجربة مهجعنا في الجامعة. ومع ذلك، فمن الناحية الرياضية كان معهد مانيبال أسوأ كثيرا مما تمنيت؛ فلم تعد الكريكيت شغفي الأساسي، حيث لعبت مباراة واحدة لصالح فريق الجامعة ثم لملمت معداتي؛ فقد حلت الحواسيب محل الكريكيت، وصارت هي الاولوية الاولى في حياتي- وتدربت في معهد مانيبال على الإلكترونيات الدقيقة “ الدوائر المدمجة والمبادئ الأولى لصناعة الحاسبات. لم تكن لدى خطة محددة لما سأفعله بعد نيلي شهادة الهندسة الكهربائية.ويرجع ذلك بصورة كبيرة إلى فلسفة والدتي في الحياة‘ والتي أدرت في طريقة تفكيري بشأن مستقبلي والفرص المتاحة أمامي؛ فدائما ما كانت تؤمن بأن على الإنسان أن يتصرف بطبيعته، وحسب وتيرته؛ فالوتيرة تأتي حينما تفعل ما تريد فعله . فما دمت تستمتع بالأمر، فافعله بتركين وإتقان، وليكن لك هدف مباشر تسعى وراءه، ولن تخذلك الحياة. وقد نفعني هذا المبدأ طوال حياتي. وبعد التخرج، سنحت لي فرصة ارتياد معهد مرموق في الهندسة الصناعية في بومباي، كما قدمت طلبات للالتحاق ببعض الجامعات بالولايات المتحدة.

وفي هذه الأيام، كانت تأشيرة الدراسة أشبه بالرهان، وكنت آمل بصراحة أن ترفض؛ فلم أرد مغادرة الهند. ولكن يشاء القدر أن أحصل على التأشيرة، وواجهت مرة أخرى عدة خيارات - سواء بالبقاء في الهند وإنهاء دراساتي العليا في الهندسة الصناعية، أو الذهاب إلى جامعة ويسكونسون  في ميلووكي لإتمام الدراسات العليا في الهندسة الكهربائية. وكان أحد أصدقائي الأعزاء من مدرسة حيدر آباد يرتاد جامعة ويسكونسون ليدرس علوم الحاسب الآلي؛ لذا اتخذت قراري. دخلت برنامج الماجستير في علوم الحاسب في جامعة ويسكونسون. وأنا سعيد لأنني فعلت ذلك لأنه كان قسماً صغيرا به أساتذة يكرسون أنفسهم لطلابهم. وأنا ممتن بالتحديد للدكتور فيرافان الذي كان رئيس القسم حينئذ‘ والبروفيسور الحسيني المشوف على رسالة الماجستير لأنهما غرسا في نفسي الثقة ليس للسعي وراء السهل، بل للتعامل مع أكبر المشكلات وأصعبها في علوم الحاسب. ولو طلب مني أحدهم تحديد مكان ميلووكي على الخريطة، فلم أكن لأستطيع.

ولكن في ذكرى مولدي الحادية والعشرين، عام ١٩٨٨ ، ركبت الطائرة من نيو دلهي إلى مطار أوهير في شيكاغو، وأوصلني صديق من هناك إلى حرم الجامعة وتركني، وما أذكره الآن هو الهدوء، كان كل شيء هادئا. كانت ميلووكي مذهلة وبسيطة، وقلت في نفسي إن هذا المكان أشبه بالجنة على الأرض. كان الجو صيفا، وكان المكان جميلاً، وكانت حياتي في الولايات المتحدة تبدأ للتو....