إذا كنا نحيا في عالم مثالي، فلا حاجة إلي الاعتذار إذن، ولكن لأن عالمنا يفتقد المثالية، فلن نستطيع أن نحيا دون وجود الاعتذار. وبما أن تخصصي الأكاديمي هو علم الأنثروبولوجي، أى دراسة ثقافة الإنسان، فيمكنني القول إن أحد الاستنتاجات الواضحة لعلماء علم الإنسان هو أن جميع البشر لديهم حس أخلاقي بأن بعض الأشياء صحيحة، وبعضها الآخر خطأ؛ والبشر يتأثرون بالجانب الأخلاقي بشكل كبير للغاية، ويسمي هذا في علم النفس "الضمير" وفي علم الأديان يشار لذلك بـ "حس الواجب" أو اتباع الأوامر. ولا شك في أن المعيار الذي يستنكر به الضمير أمراً ما أو يصدر به حكماً علي أي يتأثر بثقافة الإنسان؛ فعلي سبيل المثال، في ثقافة الإسكيمو إذا كان شخص يقوم برحلة ونفد طعامه، فمسموح له بدخول منازل الغرباء، وأكل أي شيء متاح له، بينما في معظم الثقافات الغريبة الأخرى يعتبر دخول المنازل غير المأهولة "اقتحاماً وسرقةً"، ومخالفة توجب العقاب شأنها شأن ارتكاب أية جريمة. وعلي الرغم من اختلاف معيار الصواب من ثقافة إلي أخرى، بل أحياناً داخل الثقافة الواحدة، فإن جميع الأفراد لديهم شعور بما هو صواب، وما هو خطأ. وعندما يُنتهك حق أحد الأشخاص، فسيغضب ويتأذى ممن خان ثقته، بل قد يصل الأمر إلي وقوف هذا التصرف الخاطئ حائلاً بين الشخصين، وتنهار علاقتهما، ولا يستطيعان أن يعيشا معاً كأن هذا الخطأ لم يرتكب، حتي إن رغبا في ذلك. ويقول جاك الذي احتال عليه أخوه منذ سنوات: "لم تعد الأمور بيننا كما كانت مطلقاً". وأيا كان الظلم الذي وقع، فهناك شيء ما داخل الشخص المظلوم يطلب العدل، إنها تلك الحقائق الإنسانية التي تشكل أساس جميع الأنظمة القضائية. صرخة من أجل المصالحة يمكن للعدالة أن تمنح الشخص المظلوم شعوراً بالرضا، ولكن لا يمكنها استعادة العلاقات كسابق عهدها؛ فعلي سبيل المثال، إذا قام أحد موظفي شركة بسرقتها، ثم أُلقي القبض عليه، أو تمت محاكمته، أو دفع غرامة، أو سجن، فسيقول الجميع: "لقد تحققت العدالة". ولكن الشركة لن تعيد الموظف إلي موقعه القيادي الأصلي فيها، ومن ناحية أخرى إذا سرق الموظف الشركة وتحمل مسئولية خطئه، وأبلغ مشرفه بهذا الجرم، وأعرب عن ندمه الصادق، وبذل جهوداً في سبيل التكفير عن خطئه، وسعي إلي طلب الصفح ، فحينئذٍ ستكون هناك إمكانية لأن يواصل هذا الموظف عمله في الشركة. لدى البشر قدرة مذهلة علي الصفح. وأتذكر خلال زيارتي إلي مدينة كوفنتري بإنجلترا منذ سنوات، وقوفي علي أطلال دار العبادة التي تعرضت للقصف علي يد النازيين في الحرب العالمية الثانية، واسماعي إلي المرشد السياحي وهو يروي قصة دار العبادة الجديدة التي بنيت بجوار الحطام؛ فبعد انتهاء الحرب ببضع سنوات أتي مجموعة من الألمان وأسهموا في بناء الدار الجديدة تعبيراً عن أسفهم علي ما خلفه رجال دولتهم من دمار، واتفق الجميع علي ان يبقي الحطام كما هو في جوار دار العبادة الجديدة. وكلا المبنيين يحمل معاني رمزية: أحدهما يرمز إلي وحشية الإنسان تجاه الإنسان، والآخر يرمز إلي التسامح والمصالحة. شيء ما بداخلنا يصرخ من أجل التصالح، عندما يؤدي ما نرتبكه من أخطاء إلي حدوث شروخ في علاقاتنا، فالرغبة في التصالح غالباً ما تكون أكثر قوة من الرغبة في تحقيق العدالة، وعندما يسيء الزوج معاملة زوجته، فمع شعورها بالألم مما يفعله، وإحساسها بالغضب تجاهه، تتمزق الزوجة بين سعيها إلي استعادة حقها ورغبتها في مسامحته، فهي من ناحية تريده أن يكفًر عن ذنبه، ولكن من جهة أخرى تتوق إلي مصالحته والوفاق معه، واعتذاره الصادق هو ما يجعل المصالحة الحقيقية ممكنة؛ بالعدل. وقد شهدت علي مدار سنوات إجراءات طلاق عديدة، ورأيت أن ما يسعي إليه القاضي هو تحقيق العدالة، وتساءلت في أغلب الأحيان عما إذا كان بمقدور الاعتذار الصادق حقاً تغيير هذه النتيجة المحزنة. لقد رأيت الغضب في عيون كثير من المراهقين، وتساءلت كم كانت ستختلف حياتهم، لو أن آباءهم المتعسفين القاسين قدموا لهم الاعتذار، فغياب الاعتذار يجعل الغضب يتفاقم، ويدفعنا نحو السعي للحصول علي حقوقنا. وكما يتراءي لنا عندما لا يتحقق العدل، فإننا نحاول أخذ زمام الأمور، ونسعي إلي الانتقام من أولئك الذين ظلمونا، فيتفاقم الغضب، بل يمكن أن ينتهي الأمر بسلوك عنيف؛ فالشخص الذي يدخل مكتب رئيسه السابق في العمل، ويطلق النار عليه وعلي ثلاثة من زملائه، كان يكتوي من الشعور بالظلم، ما جعله يصل إلي المرحلة التي يكون فيها الانتقام بالقتل هو السبيل الوحيد الذي يصحح الأخطاء. وقد تكون الأمور مختلفة، ولكن هل لدي كل منا الشجاعة للمواجهة الودودة، وهل يملك الآخرون الجرأة لقول: "كنت مخطئاً". هل يمكنك أن تسامح دون اعتذار؟ إن الصفح والمصالحة الحقيقيين هما معاملتان بين شخصين، لا يؤدي إليهما إلا الاعتذار. وقد تعلم البعض التسامح دون اعتذار؛ فتجدهم يقولون للزوجة التي يخونها زوجها، ويصر علي اقتراف المعاصي: "اغفري له، وإلا فلن يُغفر لك".غير أن تلك القاعدة تخفق في أخذ باقي التعاليم المتعلقة بمفهوم التسامح بعين الاعتبار؛ فقد أُممرنا بالصفح عن الآخرين بالطريقة نفسها التي يغفر لنا بها الله. فكيف يغفر لنا الله؟ إذا أقررنا بذنوبنا، وتبنا عنها فسوف يغفر الله لنا تلك الذنوب. عندما تحث الزوجة علي مسامحة زوجها المخطيء مع استمراره في اقتراف الخطأ ذاته، فإنك هنا تطالب الزوجة بشيء فالطبيعة البشرية مجبولة علي مسامحة الآخرين إذا قدموا الاعتذار والتوبة. أما الصفح دون اعتذار، فغالباً ما يكون في صالح من يصفح أكثر ممن اقترف الخطأ، ولكن هذا الصفح لا يؤدي إلي المصالحة، فعندما لا يكون هناك اعتذار، فإننا يجب أن نترك أمر هذا الشخص إلي الله من أجل العدالة، وأن نحرر غضبنا بحيث يتحول في النهاية إلي تسامح1. وها هو ذا ديتريتش بونهوفر، العالم الذي مات علي يد النازيين في أحد معسكرات الاعتقال عام1945، يعارض "الوعظ الخاص بالمسامحة دون الحاجة إلي التوبة"، حتي إنه أطلق علي هذه المسامحة وصف "العفو الرخيص ... الذي يرقي إلي تبرير الذنب دون توبة المذنب"2. ويمحو الصفح الصادق ذلك الحاجز الذي بُني عن طريق ما ارتُكب من أخطاء، ويُمهد السبيل لاستعادة الثقة مره أخرى علي مدار الوقت، فإذا كانت العلاقة ودودة وحميمية قبل هذا الأمر، يمكن أن تعود إلي ما كانت عليه من ود وألفة مرة أخرى، أما إذا كانت مجرد علاقة عابرة، فلربما تتعمق بشكل أكبر من خلال التسامح والصفح، وأما إذا صدر الإيذاء من شخص لا نعرفه، مثل لص أو قاتل، فليست هناك علاقة من الأساس ليتم استرجاعها، فإذا قدم اعتذاره أو صفحت أنت عنه، فسيكون كل منكم حراً في ممارسة حياته، ومع ذلك سيظل المجرم يواجه النظام القضائي الذي أوجدته الثقافة للتعامل مع السلوكيات المنحرفة.