الآن تزيد ثقافتنا، أكثر من أي وقت مضى، من حدة الغرور. لم يكن الحديث عن أنفسنا وتعظيم شأننا بهذه السهولة من قبل. ويمكننا اليوم أن نتباهى بأهدافنا أمام ملايين من المعجبين والمتابعين “ أشياء لم يعتدها إلا نجوم الروك وبعض رجال الدين. ويمكننا أن نتابع أشخاصاً يكونون محل إعجابنا على موقع تويتر ونتفاعل معهم، ويمكننا أن نقرأ كتبا ونتصفح مواقع ونشاهد محادثات تيد، ونستقي الإلهام والحقيقة كما لم يحدث من قبل (حيث يتوافر تطبيق لذلك) . كما يمكننا أن نطلق على أنفسنا مديرين تنفيذيين لشركتنا التي ليس لها وجود إلا على الورق. ويمكننا أن نعلن عن أخبار مهمة على مواقع التواصل الاجتماعي ومن ثم تنهال علينا الكثير من رسائل التهنئة. ويمكننا أن ننشر مقالات عن أنفسنا في المنافذ التي كانت في السابق مصادر للكتابة الصحفية الموضوعية. إن بعضنا يقوم بذلك بدرجة أكبر من غيره. لكن الأمر يختلف في النسب وحسب.  وإلى جانب التغيرات التي طرأت على التكنولوجيا، يطلب منا دوما أن نؤمن بتفردنا أكثر من أي شيء آخر، أن نكون طموحين، وأن يكون مستوى معيشتنا مرتفعا وأن تكون ذكرانا خالدة وأن نكون جريئين جدا . كما نعتقد أن النجاح يتطلب رؤية جريئة أو خطة شاملة “ في النهاية، هذا هو الشيء الذي من المفترض أن يحظى به مؤسسو هذه الشركة أو فريق البطولة هذا. (لكن هل هم كذلك؟ هل هم كذلك بالفعل؟) نرى في وسائل الإعلام الشخصيات المتغطرسة والشخصيات الناجحة، ورغبة شديدة منا في تحقيق نجاحات، نحاول أن نعيد تشكيل السلوك الصحيح والأوضاع الصحيحة. وقد نستشعر علاقة سببية لا وجود لها، ونفترض أن علامات النجاح لا تختلف عن النجاح نفسه " وبسذاجتنا، نخلط بين النتيجة والسبب. بالطبع، الغرور ناسب البعض، حيث كان الكثير من الرجال والنساء الأشهر عبر التاريخ نرجسيين على نحو عروف، لكنه أيضا تسبب في الكثير من الإخفاقات، في الحقيقة لقد تسبب في فشل العديد من الشخصيات. لكن نحن هنا أمام ثقافة تدفعنا للمخاطرة. يجب أن نغامر، متجاهلين المخاطر. أينما تكن ، يتواجد الغرور أيضا . في أية فترة في الحياة، يجد الأشخاص أنفسهم في إحدى مراحل ثلاث: نطمح إلى شيء - محاولين إحداث تأثير في الكون. أو حققنا النجاح - ربما القليل من النجاحات، وربما الكثير من النجاحات. أو فشلنا - مؤخرا أو باستمرار. وقد يمر معظمنا بهذه المراحل على نحو متغير - نطمح لتحقيق شيء ما إلى أن ننجح، وننجح إلى أن نفشل أو إلى أن نطمح لتحقيق المزيد من الأشياء، وبعد أن نفشل يمكننا أن نبدأ في السعي لتحقيق شيء آخر أو لتحقيق النجاح مرة أخرى. إن الغرور هو عدو كل خطوة في هذا الطريق؛ بمعنى أن الغرور هو عدو البناء، وعدو الحفاظ على ما بنيته وعدو التعافي. وحين تأتي الأشياء بسرعة وبسهولة، قد يكون هذا الغرور مقبولا. لكنه لن يكون مقبولا في أوقات التغيير،ومواجهة الصعوبات ... وبالتالي، الأجزاء الثلاثة التي تم ترتيب الكتاب وفقا لها هي: الطموح، والنجاح، والفشل. إن الهدف من هذا الترتيب بسيط: مساعدتك على كبح جماح الغرور في وقت مبكر قبل أن تترسخ العادات السيئة، وأن تستبدل التواضع والانضباط بإغراءات الغرور والانضباط عندما نحقق النجاح، وزيادة القوة والتحمل بحيث عندما يخونك الحظ، لا تجعل الفشل يحطمك. باختصار، يساعدنا هذا الترتيب على: أن نكون متواضعين في طموحاتنا أن نكون معطائين في نجاحنا ٠أن نتعافى من فشلنا هذا لا يعني أنك لست شخصا فريدا من نوعك ولا تملك شيئا رائعا لتسهم به في حياتك القصيرة على هذا الكوكب. ولا يعني أيضا أنه ليس هناك مجال لتجاوز حدود الإبداع، أو للابتكار، أو للشعور بالإلهام أو للسعي إلى تغيير طموح حقا وإبداع من نوع ما . على النقيض من ذلك، فإنه لكي نقوم بهذه الأشياء بصورة صحيحة ونتحمل تلك المخاطر فإننا نحتاج إلى التوازن. فكما قال "ويليام بين" أحد أعضاء جمعية الكويكرز: المباني التي تكون في مهب الريح تحتاج إلى أساس قوي". بالتالي، ماذا الآن؟ هذا الكتاب الذي بين يديك يتمحور حول افتراض واحد تفاؤلي: غرورك ليس قوة أنت مجبر على إشباعها في كل خطوة. بل يمكنك التحكم فيه. ويمكنك توجيهه. في هذا الكتاب، سندرس أفرادا مثل ويليام تيكومسيه شيرمان، و كاثرين جراهام، واجاكي روبنسون، و إليانور روزفلت، و بيل والش، و"بنجامين فرانكلين" ، و "بيليساريوس" ، و أنجيلا ميركل" ، و "جورج سي. مارشال - هل كانوا سيحققون ما حققوه - من إنقاذ الشركات المتعثرة، وتطوير فنون الحوب، وإنهاء التمييز العنصري في رياضة البيسبول، وإحداث ثورة في أسلوب الهجوم لرياضة كرة القدم، والوقوف في وجه الطفيان وتحمل المصائب بشجاعة - ماذا لو كان الغرور قد تركهم غير مؤهلين ومستغرقين في ذاتهم؟ كان إحساسهم بالواقع ووعيهم " هذا الإحساس سبق أن قال عنه المؤلف والخبير الإستراتيجي "روبرت جرين" إننا يجب أن ننجذب إليه ونفتن به مثلما ينجذب العنكبوت لشبكته - هو جوهر فنهم العظيم، وكتاباتهم الرائعة، وتصميمهم البديع، وأعمالهم العظيمة، وتسويقهم الناجح، وقيادتهم الرائعة. ما نكتشفه حين ندرس هؤلاء الأفراد هو أنهم كانوا مؤهلين، وحذرين، وصادقين باستمرار. وهذا لا يعني أن أحدهم كان كاملاً ولم يكن يشعر بالغرور. لكنهم عرفوا كيف يكبحونه، وأين يوجهونه، وكيف يحتوونه عندما يكون ملحوظا. كانوا عظماء لكن متواضعين. انتظر، لكن فلانا وفلانا كان يملؤهم الغرور وكانوا ناجحين. ماذا عن ستيف جوبز؟ وماذا عن كاني وست؟ يمكننا أن نحاول تبرير أسوأ سلوك من خلال الإشارة إلى الأشخاص الذين يعتبرون من شواذ القاعدة. لكنه لا أحد يحقق نجاحا فعليا لأنه موهوم، أو مستغرق في ذاته أو منعزل. حتى لو كانت هذه الصفات مرتبطة أو ملازمة لأفراد مشهورين معينين، ستجد لديهم كذلك بضع صفات أخرى: الإدمان، وإيذاء (أنفسهم والآخرين)، والاكتئاب والهوس. في الواقع، ما نراه حين ندرس هؤلاء الأشخاص هو أنهم قدموا أفضل ما لديهم في الفترات التي قاوموا فيها تلك النزعات، والاضطرابات والأخطاء. فقط حين يتخلص المرء من الغرور والعقبات يمكنه أن يقدم أفضل أداء له. ولهذا السبب، سندرس أيضا أشخاصا مثل: هاوارد هيور، و"خشايارشا" ملك فارس، و "جون ديلوريان ، و" الإسكندر الاكبر" ، والكثير من القصص التحذيرية للآخرين الذين لم يفهموا الواقع، ومن ثم وضحوا لنا ماهية الغرور ومخاطره. وسننظر إلى الدروس المكلفة التي تعلموها والثمن الذي دفعوه عند العيش في بؤس وتدمير ذاتي. وسننظر إلى عدد المرات التي تأرجح فيها حتى أنجح الأفراد بين التواضع والغرور والمشكلات التي يسببها هذا التأرجح. حين نتخلص من الغرور، لا يتبقى لنا سوى ما هو حقيقي. فما يحل محل الغرور هو التواضع، تواضع وثقة غاية في القوة. وبما أن الغرور يعتبر مصطنعاً، يمكن لهذا النوع من الثقة أن يتغلب عليه، فيتلاشى الغرور. إن الثقة أمر يكتسب، أما الغرور فيكون باختيار الشخص، ويكون تعجرفه خدعة. من ثم فإن الثقة تقويك والغرور يتلاعب بك. إنه كالفرق بين الشيء قوي المفعول والشيء السام. فكما سترى في الصفحات التالية، أن الثقة بالنفس حولت جنرالاً متواضعاً يستهان به إلى أعظم محارب وخبير إستراتيجي أمريكي في أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. وأخذ الغرور جنرالاً آخر من قمم السلطة والنفوذ بعد الحرب نفسها ودفعه إلى الفقر المدقع والذل. دفعت الثقة عالمة ألمانية هادئة ورصينة ولم تجعلها قائدة فريدة من نوعها فحسب، وإنما مثلت قوة أيضا لتحقيق السلام. بينما دفع الغرور اثنين من العقول الهندسية المختلفة، والمتساوية في الذكاء والجرأة في القرن العشرين، ولفت انتباه العامة إليهما في دوامة من الدعاية والشهرة قبل أن يحطم آمالهما على صخرة الفشل، والإفلاس، والفضائح، والجنون. كما قادت الثقة إحدى أسوأ الفرق في تاريخ دوري كرة القدم الأمريكية للمحترفين للفوز بالمباراة النهائية لثلاثة مواسم، ثم تربعت تلك الفرقة على عرش اللعبة لسنوات طويلة. في الوقت نفسه، تغلب عدد لا يحصى من المدربين، والساسة، ورواد الأعمال، والكتاب الآخرين على الصعاب - فقط ليخضعوا للاحتمال الذي لا مفر منه لتسليم القيادة لشخص آخر. وقد يتعلم البعض التواضع، ويختار البعض الآخر الغرور- والبعض يكون مهيأ لتقلبات الحظ الإيجابية منها والسلبية. والبعض الآخر غير مهيأ لها. أي منهما ستختار؟ من ستكون؟ لقد اخترت هذا الكتاب لأنك استشعرت أنك ستحتاج إلى الإجابة عن هذا السؤال في النهاية، على نحو واع أو غير واع-حسناً، ها نحن أولاء؛ لندخل في صلب الموضوع. الجزء الأول الطموح  في هذه المرحلة، ننوي القيام بشيء ما . لدينا هدف، وطموح وبداية جديدة؛ فكل رحلة رائعة تبدأ من هنا " إلا أن الغالبية منا لا يصلون لوجهتهم المقصودة، ويكون الغرور فى أكثر الأحيان هو سبب المشكلة. وقد نمجد أنفسنا بقصص غير واقعية، وندعي أننا وجدنا حلا لكل المشكلات، ونجعل نجمنا يسطع عاليا فقط ليخفت بعدها، ولا نعلم ما السبب في ذلك. هذه هي علامات الغرور، الذي يكون علاجه التواضع ومعايشة الواقع. هو جراح جريء، على حد وصفهم، لا ترتعش يداه حين يجري عملية لنفسه؛ وهو جريء بالقدر نفسه عادة فلا يتردد في كشف القناع الخفي عن خداع الذات، والذي يحجب عنه رؤية عيوب سلوكه. ادم سميث في يوم ما من سنة ٣٧٤ قبل الميلاد تقريا، كتب إيسقراط ، وهو من أشهر المعلمين والخطباء في أثينا قديما، رسالة لشاب يدعى "ديمونيكوس" . كان إيسقراط صديقا لوالد الشاب الذي توفي مؤخرا وأراد أن يوجه له بعض النصائح كي يحذو حذو والده. وتنوعت النصائح فكان منها العملي والأخلاقي - وجميعها حملت ما وصفه "إيسقراط" بـ "الأقوال المأثورة". لقد كانت، كما صاغها "إيسقراط"، بمثابة حكم تعيش لسنوات قادمة مثل الكثير منا، كان "ديمونيكوس" طموحا، ولهذا كتب له إيسقراط ؛ لأن مسار الطموح يمكن أن يكون محفوقا بالمخاطر. لقد بدأ إيسقراط بإخبار الشاب بأنه "لا مجال لزخرفة الذات بل يجب التحلي بالتواضع، والاستقامة، وضبط النفس؛ لأن هذه هي الفضائل التي، كما اتفق جميع البشر، يضبط بها "الشاب شخصيته" وقال له "مارس ضبط النفس" ، محذرا إياه من أن يقع تحت تأثير الانفعال، والمتعة، والألم . وطلب منه أن يمقت المتملقين كما يفعل مع المخادعين؛ لأن كليهما، إن وثق به، يجرح من يثق به". لقد أراد منه أن "يكون ودوداً في علاقاته مع من يتقرب إليه، وألا يتغطرس أبداً؛ لأن تكبر المتغطرس لا يتحمله أحد حتى العبيد "كما طالبه أيضا بأن "يتأنى في التفكير، لكن يكون سريعا في تنفيذ قراراته قائلاً له: أفضل شيء نمتلكه بداخلنا هو الحكم الجيد" . كما أخبره بأن يدرب عقله باستمرار لأن أعظم شيء في أضيق نطاق هو العقل السليم في الجسم البشري. وقد تبدو بعض هذه النصائح مألوفة؛ لأنها عاشت على مدى ألفي عام بعدها حتى وصلت لعصر "ويليام شكسبير" ، الذي حذر كثيرا من خروج الغرور عن نطاق السيطرة. ففي الواقع، في مسرحية هاملت ، تم استخدام هذه الرسالة نفسها كمثال، حيث وضع شكسبير كلمات إيسقراط على لسان شخصية "بولونيوس" في حديث مع ابنه، "لايرتس" . هذا الحديث الذي، إذا كنت قد سمعته، ينتهي بالسطور التالية: قبل كل شيء. كن صادقا مع نفسك، وسيتبع ذلك، كتعاقب الليل والنهار، إنك لن تستطيع أن تكذب على أحد من الناس.  الوداع. دع خبرتي تثبت نصائحي في قلبك! وبالفعل، عاشت كلمات "شكسبير" أيضا حتى وجدت طريقها لضابط عسكري صغير في الجيش الأمريكي يدعى "ويليام تيكومسيه شيرمان"، والذي ربما يصير يوما ما واحدا من أعظم الجنرالات والمفكرين الإستراتيجيين في أمريكا. ربما لم يسمع عن إيسقراط قط، لكنه أحب المسرحية واستشهد كثيرا بهذا الحديث. وكحال "ديمونيكوس"، توفي والد "شيرمان" وقت أن كان صغيرا جدا، ورعاه رجل حكيم أكبر منه سنا، "توماس يوينج" في هذا المثال، والذي كان صديقا لوالده وصار بعد وقت قصير أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، وقد تبنى يوينج الطفل الصغير ورباه كابن له. لكن الشيء المثير للاهتمام حول "شيرمان" هو أنه رغم وجود والده (يوينج) ذي الشأن العظيم، فما كان أحد ليتوقع منه أن يتجاوز حدود الإنجازات الإقليمية - ناهيك عن أنه سيحتاج يوما ما إلى اتخاذ الخطوة غير المسبوقة برفض تولي رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ٠ بعكس نابليون ، الذي ظهر فجأة في المشهد واختفى بالسرعة نفسها بعد فشل ذريع، كان صعود "شيرمان" بطيئا وتدريجيا. لقد أمضى سنواته الأولى في وست بوينت، ثم في الجيش. وفي سنواته الأولى في الخدمة، عبر "شيرمان" معظم أنحاء الولايات المتحدة الأمريكية على ظهر الحصان، يتعلم ببطء في كل ثكنة عسكرية. وعندما اندلعت شرارة الحرب الأهلية الأمريكية، تحرك "شيرمان" شرقاً ليتطوع بخدماته، وجند في معركة بول ران لفترة قصيرة، التى واجه فيها الاتحاد هزيمة كارثية بالتأكيد. ومستفيدا من العجز الحاد في عناصر القيادة، ترقى "شيرمان" لرتبة عميد واستدعي لمقابلة الرئيس "ابراهام لينكولن" وكبير مستشاريه العسكريين. في مناسبات عدة، وضع "شيرمان" إستراتيجيات وخططاً مع الرئيس دون قيد، لكن في نهاية رحلته، قدم طلباً غريبا؛ سيقبل بترقيته الحديثة بشرط عدم توليه القيادة العليا. هل سيلتزم "لينكولن" بوعده له؟ مع طلب كل جنرال آخر الحصول على أعلى رتبة وسلطة ممكنة، وافق لينكولن على طلبه وهو غاية في السعادة. في هذه اللحظة، شعر شيرمان بارتياح أكبر كونه الشخص الثاني في القيادة، وشعر بأنه استطاع أن يقيم قدراته تقييما حقيقيا وأن هذا الدور ناسبه أكثر. تخيل هذا، وهناك شخص طموح يرفض فرصة لتولى مسئوليات أكبر؛ لآنه أراد أن يكون مستعدا بالفعل لهذه المسئوليات. هل هذا ضرب من الجنون حقا؟ هذا لا يعني أن شيرمان ضرب دائما النموذج المثالي لضبط النفس والانضباط. في بداية الحرب، كلف بالدفاع عن ولاية كنتاكي بقوات غير كافية، واختلط هوسه وميله للتشكيك في نفسه بشكل هائل. وأخذ يتحدث شكل عنيف ومنفعل عن نقص الإمدادات، وكان ضيق الأفق، ومذعورا من تحركات العدو، وخرج عن المألوف وتحدث بشكل متهور لعدد من المراسلين الصحفيين. بعد الجدل الذي أثاره، تم عزله مؤقتا عن القيادة، واستغرق الأمر منه أسابيع من الراحة لكي يتعافى. وكانت هذه واحدة من بين عدد قليل من فتراته الكارثية في مسيرته المهنية التي فيما عدا ذلك تتميز بأنها صاعدة باستمرار. وبعد هذا التعثر قصير المدى - وبعد أن تعلم منه - ترك شيرمان بصمته بالفعل. فعلى سبيل المثال، في أثناء حصار قلعة دونلسن، منح شيرمان على رتبة للجنرال "يوليسيس إس. جرانت" وفقا لاختصاصه. بينما كان بقية جنرالات لينكولن يتحاربون فيما بينهم من أجل الحصول على سلطة ومكانة شخصية، تنازل شيرمان عن رتبته، مختارا دعم ومساندة "جرانت" بأريحية بدلاً من إصدار الأوامر. وأخبره في رسالة موجزة مرفقة بشحنة من الإمدادات بأن هذه فرصته، وطلب منه أن يلجأ إليه إذا احتاج لأية مساعدة. ومعاً، حققا النصر في واحد من الانتصارات الأولى للاتحاد في الحرب. بالاستفادة من نجاحاته، بدأ شيرمان في دعم مسيرته الشهيرة إلى البحر- خطة جريئة ومتهورة إستراتيجيا، والتي لم تنشأ من عبقرية إبداعية وإنما اعتمدت على الطبوغرافيا الدقيقة التي بحث فيها ودرسها، وهو ضابط شاب، يخدم فيما بدا حينها كأنه موقع ناء عديم الجدوى. بينما كان "شيرمان" حذرا في السابق، صار واثقا بنفسه الآن. لكن بعكس كثيرين غيره ممن لديهم طموح كبير، فإنه يستحق هذه السمعة. بينما كان يشق طريقه من مدينة تشاتانوجا إلى مدينة أتلانتا ثم من أتلانتا وصولاً إلى البحر، تجنب المعارك التقليدية الواحدة تلو الأخرى. وأي طالب يدرس التاريخ العسكري يمكنه أن يرى كيف أن هذا الغزو نفسه بالتحديد، لو كان مدفوعاً بالغرور وليس الشعور بوضح الهدف، لكانت له نهاية مختلفة تماما. إن ميله للواقعية مكنه من رؤية مسار في اتجاه الجنوب اعتقد الآخرون أنه مستحيل؛ فنظريته الكاملة للمناورة العسكرية اعتمدت عن قصد على تجنب الهجوم المباشر أو استعراض القوة على شكل معارك ضارية، وعدم الالتفات إلى الانتقادات التي تستهدف إثارة ردود الأفعال، فلم يكن يعير انتباها للانتقادات والتزم بخطته. بنهاية الحرب، صار "شيرمان" واحدا من أشهر الرجال في أمريكا، ومع ذلك لم يكن يسعى إلى تقلد منصب عام، وكان يكره السياسة ولم يكن يتمنى سوى أن يؤدي عمله ويتقاعد بعدها . متغاضياً عن الثناء والاهتمام المستمرين والمرتبطين بهذه النجاحات، كتب رسالة تحذيرية لصديقه جرانت : كن على طبيعتك وسيكون هذا الإطراء الجذاب مثل نسيم البحر العابر في أحد أيام الصيف الدافئة". وقد لخص أحد كتاب سيرة شيرمان صفات الرجل وإنجازاته الفريدة في فقرة رائعة؛ لهذا هو يمثل نموذجا في هذه المرحلة من صعودنا. من بين البشر الذين نالوا الشهرة واحتلوا موقع القيادة يوجد نوعان لافتان للنظر " هؤلاء من ولدوا ولديهم إيمان بأنفسهم؛ وأولئك يعتمد صعودهم البطيء على الإنجاز الفعلي. بالنسبة لهؤلاء البشر الذين يمثلون النوع الأخير فإن نجاحهم يثير دهشة مستمرة، وتكون ثماره ألذ، لكن يجب تذوقها بحذر مع إحساس ملازم بالشك فيما إذا كان كل هذا مجرد حلم. وفي هذا الشك يكمن التواضع الحقيقي، ولا يقصد بذلك الخزي من الانتقاص غير الصادق من الذات، وإنما الاعتدال في ضبط النفس . إنه اتزان، وليس تكلئا. ويجب أن يتساءل المرء هنا: إذا كان إيمانك بنغسك لا يعتمد على الإنجاز الفعلي، فما الذي يعتمد عليه إذن؟ الإجابة، حين نبدأ رحلتنا في أكثر الأحيان، هي لا شيء. إنه الغرور؛ ولهذا نرى كثيرا صعودا مفاجئا يعقبه إخفاق كارثي. إذن أي نوع من الأشخاص ستكون؟ مثلنا جميعاً، كان على شيرمان أن يحقق توازنا بين الموهبة والطموح والقوة، خاصة حين كان شابا؛ فانتصاره في هذا الصراع كان أحد الأسباب الرئيسية لقدرته على التعامل مع النجاح المغير للحياة والذي أتاه في النهاية. ربما يبدو كل هذا غريبا. بينما تمنى كل من إيسقراط و شكسبير لنا أن نتحلى بضبط النفس، والتحفيز الذاتي وأن تحكمنا المبادئ، تعود معظمنا على فعل العكس. وتحاول قيمنا الثقافية دائما أن تجعلنا نعتمد على الحقيقة، وأن نكون مميزين، وأن تحكمنا عواطفنا ٠ فعلى مدى جيل، ركز الآباء والمعلمون على تعزيز تقدير الذات لدى الجميع. ومن هنا، كانت الأفكار الرئيسية للموجهين والشخصيات العامة تتمحور فقط حول إلهامنا، وتشجيعنا وطمأنتنا بأنه يمكننا أن نفعل أي شيء ننوي فعله. في الواقع، هذا يجعلنا ضعفاء. أجل، أنت، بكل ما تتمتع به من مواهب وإمكانات كفتى معجزة أو كفتاة يتوقع لها مستقبل باهر؛ فنحن نسلم بأن لديك إمكانات؛ ولهذا التحقت بهذه الجامعة المرموقة، ولهذا حصلت على الأموال لمشروعك، ولهذا تم تعيينك أو ترقيتك ولهذا حصلت على فرصتك دون أي جهد. فكما صاغها "إرفينج برلين" : الموهبة ليست إلا نقطة انطلاق. السؤال هو: هل ستتمكن من تحقيق أقصى استفادة منها؟ أم ستكون ألد عدو لنفسك؟ هل ستخمد شرارة الانطلاق التي اندلعت للتو؟ ما نلاحظه في شيرمان هو أنه كان رجلاً شديد التعلق بالواقع. لقد كان رجلاً لا شأن له، وحقق إنجازات عظيمة، دون أن يشعر في أي وقت بأنه يستحق المكانة التي وصل إليها. في الواقع، كان يرضخ بانتظام واستمرار للآخرين وكان يسعده جدا أن يسهم في الفريق الفائز، حتى إذا عنى هذا عدم حصوله على أي ثناء أو شهرة. ومن المحزن التفكير في أن أجيال الشباب الصغار تعلموا الهجوم المفاجئ والرائع لسلاح الفرسان تحت قيادة جورج بيكيت ، هجوم مفاجئ لجيش الولايات الكونفدرالية والذي انتهى بالفشل ، بينما نموذج "شيرمان" كشخص يميل للواقعية ويتسم بالهدوء وعدم التألق منسي، أو الأسوأ من ذلك، مذموم. قد يقول أحدهم إن القدرة على تقييم قدرات المرء هي أهم مهارة من بين كل المهارات، فمن دونها، يستحيل إحراز أي تقدم. وبالتأكيد الغرور يصعب من كل خطوة في الطريق. بالطبع إنه لمن الأفضل أن نركز على مواهبنا ونقاط قوتنا، لكن إلى أين سيوصلنا ذلك؟ فالغطرسة والاستغراق في الذات يعوقان النمو. وكذلك الأمر بالنسبة للوهم و"تخيل"  وفي هذه المرحلة، يجب أن تتدرب على رؤية نفسك من مسافة بعيدة قليلاً، وأن تنمي من قدرتك على رؤية الصورة الكاملة. إن العزلة هي نوع من أنواع العلاج الطبيعي للغرور؛ فمن السهل أن تنخرط عاطفيا وأن تكون شفوفا بعملك. وأي نرجسي يمكن أن يفعل ذلك. ما هو نادر ليس الموهبة الخام، أو المهارة أو حتى الثقة، وإنما التواضع، والدأب، والوعي بالذات. لكي يكون عملك صادقا، يجب أن يكون قائما على الحقائق. إذا أردت أن يدوم نجاحك لفترة طويلة، يجب أن تتهيأ للتركيز على المدى الطويل. وسنتعلم أنه بالرغم من أننا نفكر ونحلم بتحقيق أهداف عظيمة، فإننا يجب أن نعمل ونعيش بتواضع لكي نحقق ما نسعى إليه؛ لأننا سنركز على العمل والتعلم ، ونتغاضى عن فاعلية النتيجة والمكانة، لن يكون طموحنا فخما بل مكرراً - سنتخذ خطوة تلو أخرى ونتحرك بحذر، ونتعلم وننمو ونستثمر وقتنا. مع عدائيتهم‘ وضراوتهم، واستغراقهم في ذاتهم والترويج الدائم لها‘ لا يدرك منافسونا كيف أنهم يعرضون جهودهم للخطر (ناهيك عن سلامة عقلهم) . وسنتحدى خرافة العبقري الواثق بنفسه والذي يكون التأمل الذاتي والشك غريبا عليه، علاوة على تحدي خرافة الفنان المجروح والمعذب الذي يجب أن يضحي بصحته في سبيل عمله. في حين أن كليهما منفصل عن الواقع وعن الآخرين، سنكون نحن متصلين وواعين على أعلى درجة، وسنتعلم دروسا من كل تلك الامور.الحقائق أفضل من الأحلام، كما صاغها تشرشل رغم أننا نشترك مع كثيرين غيرنا في رؤية واحدة للعظمة، فإننا نفهم أن طريقنا نحو العظمة مختلف تماما عن طريقهم. وباتباع شيرمان و إيسقراط ، نفهم أن الغرور هو عدونا في هذه الرحلة‘ وبالتالي حين نحقق نجاحا، فإنه لن يضعفنا بل سيقوينا. كلام ، كلام ، كلام الذين يعرفون لا يتكلمون. والذين يتكلمون لا يعرفون.